عمار علي حسن - أخت روحي

ماتت وداد، وجدوا جثتها متعفنة في شقتنا القديمة البسيطة، التي لا تزورها الشمس، ويلثم الهواء نوافذها الضيقة من بعيد، ثم يهرب، كما هرب الناس من حول جثة أختي، واضعين أكفهم على أنوفهم. أنا لم أهرب، ولم أضع يدي على أنفي، بل اقتربت منها، وملت عليها في هدوء، وسحبت شهيقًا طويلًا، وشممت أطيب رائحة. ورأيتها، وهي ساكنة في سلام، ترفع يديها، مرفرفة كيمامة شبعى، وتهدل في فرح، وهي تحلق بعيدًا في جوف سماء صافية.

كانت قبل أسبوع منهمكة في ترتيب أشيائها، أخرجت عرائسها وكراريسها وكتب الدراسة التي تحتفظ بها، ورصتها متتابعة. وضعت فوق كتب كل سنة دراسية لعبة من لعبها رخيصة الثمن، هكذا وجدت أشياءها، وقلت:

ـ ربما جلست تحدق إليها، محاولة أن ترتب الأحداث في رأسها، بلا جدوى، وربما تزاحمت الأشياء عليها، وجاءت من قلب الزمن البعيد مبعثرة، ولم تتمكن من أن توزعها على خانات الأيام كما فعلت مع كتبها، وربما كانت تجد نفسها بنتًا ذات ضفيرتين ترفرفان على ظهرها، وساقين نحيلتين تنتهيان بقدمين كمخلبي قط، تدبان على الأسفلت القديم للشارع الضيق في حي "الوايلي"، ثم فجأة امرأة جالسة في انكسار أمام مأذون ينهي إجراءات طلاقها من الرجل الذي سلبها روحها وعذبها، وحمدت الله أنها ابتعدت عنه.

بين المشهدين تتوالى فصول حياتي وحياتها أمام أعيننا، ونمد أيدينا لنمسك بها، لكنها تتسرب من بين أصابعنا، وتتركنا متخبطين في حيرة.
وهي صغيرة كنت أراها منكمشة إلى جانب الحائط تبكي، فأقترب منها في هدوء، وأجلس إلى جانبها، وأمسك أطراف أصابعها، وأسألها: لماذا تبكين؟

كانت تحدق إلى الفراغ، ولا تجيب، وأرسل أنا ناظري نحو ما تذهب إليه عيناها لأرى ما يشغلها، لكنني دومًا لم أكُ أرى شيئًا. في الحقيقة، كنت أعرف الإجابة، إلا أنني أردت كل مرة أن أسمعها منها، لأفسح ولو مسربًا ضيقًا لتمرر عبره أوجاعها المكتومة. لم تكُ تبكي إلا حين تغادر زوجة أبينا البيت، فبكاؤها أمامها لا يزيدها إلا عذابًا. تجذبها من ضفيرتيها، وتلقي بها على البلاط الصلد البارد، وتأمرها: امسحيه بلسانك.

وكانت وداد تتباطأ، وتدوس على أضراسها، راجية أن تهزم عجزها، ثم تحاول النهوض، فتركلها بقدميها أو تدفعها بيدها فتسقط من جديد، وهي ترفع عينيها نحوي فتجدني أشير إليها بطرف إصبعي، وأنا أرتجف، أن تخرج لسانها من بين فكيها وتلعق الغبار الناعم، فتطأطئ رأسها أكثر، وتمد لسانها الذي أغرقته دموع تهطل من ملقتيها الوسيعتين، وتبلل البلاط، ثم ترتشف ما عليه من وسخ.

وأحيانًا كانت ترسم لها بالطبشور مربعًا صغيرًا يضم أربع بلاطات متجاورة، وتقول لها: قفي هنا، لا تتحركي حتى أسمح لك.

وكانت لا تسمح لها ساعات، وتجلس في مواجهتها تتسلي بقزقزة اللب، وأحيانًا تنفخ القشر فيتساقط على وجه أختى، فتغلق رمشيها سريعًا، لكنها تصرخ فيها: افتحي عينيك.

لم تكن تفعل بي ما تفعله بها، بل ما هو أسوأ من هذا، كانت تهملني، لا تقربني ولا تبعدني، لا تضربني ولا تمنحني ابتسامة ولو من طرف شفتيها.

وتجاسرت ذات مرة وسألتها بعد أن اقتربت منها في حذر: لماذا تعذبين وداد؟

نظرت إليَّ بعينين مملوءتين بالغل، وقالت: لأنها تشبه أمك، وأبوك لم ينسها، وأنا كذلك لا أقدر على قتلها في ذاكرتي، تطاردني، فأعذبها في بنتها.

وعرفت من أبي الذي كان يغيب أيامًا ساعيًا وراء رزقه أن زوجته كانت تكره أمي منذ صباها، لأنه فضلها عليها، وتزوجها وأنجبني وأختي، ولا يزال مرتبطًا بها رغم أنها ماتت منذ سنين. وصارحني ذات ليلة، بعد أن اطمأن إلى أن زوجته تغط في سبات عميق: أخطئ أحيانًا وأناديها باسم أمك.

أما هي فصرخت ذات مرة في وداد: أبوك يكون في حضني ويناديني باسم المجحومة أمك.

وكنت أعاتب أبي، ذلك التاجر البسيط الذي يلتقط رزقنا القليل من ميناء "بورسعيد" ويعود فرحًا، فأساله:

ـ لماذا تترك لها وداد؟
فكان يرد وهو يقتل دموعًا ترفرف في عينيه، وتريد أن تطير:
ـ أنا رجل مقطوع من شجرة، ورزقي ليس قريبًا منكم، وليس لي أقارب أتركما معهم في غيابي.
ـ لكنها تعذبنا.
ـ لا أرى هذا في حضوري.
ـ تراه، لكنك تتجاهله.
ـ أمي كانت تضربني في صغري، ومن يدري لو عاشت أمكم كانت ستضربكم أيضًا.
ـ جدتي كانت تضربك لتعلمك، لا لتعذبك.

كان يصمت، ويسحب دخانًا كثيفًا من سيجارته، وينفخه في غلٍ، وهو يبعد عينيه عن عيني.

لم أكن أغضب منه، بل كنت أشفق عليه، وأعذره أحيانًا، لأنها أمامه لا تفعل بنا ما تفعله من وراء ظهره. لم تكن تحنو علينا، لكنها كانت تتوقف عن ضرب وداد وتخفف من إهمالها لي، وتملأ رأس أبي حكايات عنا، تحاول من خلالها أن تظهر أنها منشغلة بمصيرنا.

وما إن يغلق باب شقتنا خلفه ذاهبًا إلى بور سعيد حتى تفتح هي باب الجحيم، وتقذفنا فيها، وهي تقف على حافتها ضاجة بضحكات فاجرة. ومع تقدم العمر بها، ضاع أملها في الخلفة، وبدلًا من أن تتخذني وأختي ابنًا وبنتًا لها، عذبتنا أكثر، لأن رحمها صار بائرًا من الحسرة على ضياع أبي منها في ميعة الصبا.

وسمعتها ذات يوم تقول لأبي:

ـ تزوجت قبلك رجلًا لم أحبه، فرفض رحمي بذرته، وتعود على الرفض.

وسمعته يضحك ويرد عليها:

ـ ها أنت قد تزوجتيني، فإما أني مت داخلك، أو رحمك تعود على البوار.

فسرى غضب في صوتها وقالت له:

ـ بل أنت الذي لا تريد، عندك الولد والبنت.

وسمعته يسألها في استنكار:

ـ لا أريد؟

وسمعتها تشخر، وتقول له:

ـ أنسيت ما جرى لك؟ شهور وأنت تحاول ولا تقدر.

وخرج منه صوت رفيع كثغاء الماعز:

ـ لا أدري ما الذي جرى .. عليك أن تساعديني.

ردت عليه في قسوة:

ـ ساعدتك مرات، لكني فقدت الأمل.

ثم نفخت وقالت من جديد:

ـ أخذت هي كل شيء، ولم تترك لي فيك غير القليل، الذي انتهى.

وسمعت صمته، الذي يبدأه دومًا بتنهيدة غارقة في الألم، ثم زحف قدماه نحو باب الغرفة، فجريت إلى الثلاجة المتهالكة، وفتحت بابها في حذر حتى لا يخرج في يدي، وخطفت زجاجة ماء، وصببت في فمي، مبعدًا عيني عنه وهو يتقدم نحوي، والأسى يطفح من وجهه.

وأدركت بعدها أن الأيام المقبلة ستصير أصعب على وداد. فأبي ازداد انكساره، حتى أنني كنت أراه طيلة الوقت يمشي منحنيًا أمامي، ويجلس مطأطأ الرأس، وأراه أحيانًا يزحف على بطنه، رغم أنه في الحقيقة لم يغير وقوفه ولا قعوده ولا نومه. كنت أرى داخله، وكان يدرك، على ما يبدو أنني أرى، وطل هذا من عينيه، لكنني كنت حريصًا، رغم صغر سني، على ألا أجرحه.

ولم تمض سوى شهور حتى اقتحمني الصبا، ورأيت دليل بلوغي، يبلل سروالي، فكان أبي يقول لي، وهو يشد علي يدي، ودموعه تغلبه:

ـ أرى فيك صباي.

وكنت أفهم أنه يحن إلى أيام الفحولة، التي غادرته، وأنا أعرف، في شقتنا الضيقة، أنه قد فقد شيئًا عزيزًا على أي رجل، وكنت أعرف أيضًا لماذا صارت معاملة زوجة أبي لي أكثر سوءًا مما كانت. كانت تراقبني وأنا أذرع الصالة الضيقة والكتاب في يدي، وتنفخ، ثم تصرخ:

ـ اتخمد على أي كرسي.

وكنت ألقي جسدي على الكرسي، وقبله أرمي الكتاب من يدي، منكمشًا في حصاري وعجزي، حتى أنني لم أحصل في الشهادة الإعدادية إلا على مجموع ضعيف، أهلني بشق الأنفس للالتحاق بالمدارس الثانوية التجارية. وكان أبي يخفف عني ويقول:

ـ رأيت في الميناء شبابًا حاصلين على دبلوم التجارة، يمسكون في أيديهم دفاتر تجار كبار، ويعودون آخر الشهر وجيوبهم مملوءة.

وكان يعدني بأن يأخذني من يدي إلى الميناء حين أحصل على الشهادة، وكنت أفرح لأنني سأبتعد عن زوجة أبي، وأبعد معي أختي وداد. وكنت أرى على جدار غرفتنا، أنا وهي، نفسي يخرج من جيبه مفتاحًا معلقًا في طرف دلاية تحمل أول أربعة حروف من أسماء أمي وأبي وأنا وأختى، وأديره في هدوء، ورائحة الطبيخ تملأ أنفي، لأجد وداد خارجة من المطبخ وفي يديها أطباق شهية.

ثم أراها وهي جالسة خجلى أمام ذلك الذي أتى لخطبتها، وأنا أنظر إليه شاردًا في مهمة تجهيز أختي بكل ما تحتاجه. لكن فجأة انهارت كل أحلامي تلك، فبور سعيد" لم تعد كما كانت، وقال أبي بصوت خفيض لنا ذات مساء، وهو يخبرنا بأن الآتي غير ما مضى:

ـ يعاقبون أهل المدينة منذ أن اتهموا أحدهم بمحاولة اغتيال الرئيس.

طال العقاب أبي، فضاق رزقه، وطالني فضاع حلمي البسيط. كان يخرج في الصباح كطائر ضامر يبحث عن أي حبات يلتقطها، ويعود آخر النهار بأقل القليل. ولم يعد وجوده في البيت يحمينا من زوجته القاسية، لأنه فقد أي أسباب تجعل له عليها كلمة.

وقال لنا ذات صباح بعد أن خرجت هي لتتسوق: هذه المرأة لم تحبني كما ادعت، هي تحب نفسها، وتكره أمكما، وعز عليها أن تهزمها في أيام الصبا، فجاءت لتنتقم منا جميعًا.

وقلت له: لم تعد تسافر، ونحن كبرنا، فما حاجتك إليها.

وكان يصمت، ويتركني متخبطًا في حيرتي. لكني في يوم ضيقت عليه الخناق، فقال لي وعيناه عند قدميه: لم يعد أبوك كما كان، وأخشى أن تفضحني.

لم يزد عن هذا، وظن أنني لم أفهم كل ما أراد قوله، لكنني كنت أفهم كل شيء، ولم يفعل ما نطق به أبي سوى أن جعلني أنظر في عيون أهل البيت والحارة، وفي عيون الجالسين على المقهى الصغير، وأبحث عن أي شيء يدل على أن زوجة أبي قد فضحته.

وفي ليلة صارحت أختي وداد بكل شيء، فابتسمت وقالت: طلاقها شهادة بعدم صلاحية أبيك زوجًا، لهذا هو يبقيها معه، غير عابئ بما تفعله معنا، ولديه أمل أن يثبت لها ذات ليلة أنه عاد كما كان.

لكنه لم يعد كما كان أبدًا، فرأيته يزداد انحناء، ورأيتها وهي تغرس عينيها في عينيه متحدية له، حين يهب للدفاع عنا، حتى أنه دفن رأسه بين فخذيه حين قالت له آمرة: وداد يجب أن تترك المدرسة.

ثم مدت ناظريها نحوي وأكملت: مصروفات مدرستها ترهقنا، ومصير البنت الزواج.

يومها صرخت وداد حتى ملأ صراخها نوافذ كل البيوت والحارة، لكن الناس كانوا قد اعتادوا الصراخ في بيتنا. كان بعض الجيران يأتون في البداية ليخلصوا وداد من يد زوجة أبي، لكنهم كفوا عن المجئ بعد أن طالتهم منها إساءات. ولم يأتوا أيضًا يوم أن جاء قريب زوجة أبي خاطبًا لأختى، وعندها أدركت أنها جعلتها تترك الدراسة لتزوجها له. وكان قد رآها فخطفته، وألح في طلبها، ووجد أبي في إلحاحه فرصة كي يرمم بعض ما انشرخ في علاقته بزوجته.

صار الخاطب قربانًا لأبي، وشصًا تصاد به زوجته أختي، وظلال فرصة أمام وداد كي تهرب من هذا الجحيم. أنا وحدي الذي كنت أرى ما يدور داخل الخطيب الملهوف، وتملأني هواجس منه، وكلما جاء ذهبت عنه، رغم أنه كان يتقرب مني، لأقربه من أختي. لم ترسم لها هذه المرة أربع بلاطات مربعة، لتقف فيها ولا تتحرك إلا بإذنها، لكنها حاصرتها بالوقت. نظرت إليها، واغتصبت ابتسامة من طرف شفتيها، وقالت لها: أمامك يومان لتجيبيني ...

وقبل أن ينتهي اليوم التالي، وجدت أبي يدخل إلى غرفتنا، ويقول لأختي: شاب مناسب، وقد وافقت عليه.

وقالت له أختى: لكنني لا أعرفه.

ابتسم وقال:

ـ سيكون لديك وقت طويل لمعرفته.

وظنت هي أن هذا الوقت ستتيحه أيام الخطوبة، لكنها فوجئت، وأنا معها، بخطوبة وعقد قران في ساعة واحدة. جرت وداد إلى غرفتها حين رأت المأذون، وحركت زوجة أبي زوجها بعينيها، فجرى نحو الغرفة. بعد قليل، جاء وفي يده أختي، ومضى كل شيء كما لم ترغب فيه صاحبة الشأن.

أسبوع واحد وغادرتني وداد ودموعها على أصابعي، تركتها تجف على مهل، وفي الليل شعرت بألم في يدي اليمني، نظرت إليها فوجدتها حمراء، ظننت أنها مجروحة، وجريت إلى الحمام، لكنني تراجعت عن غسلها، وتركت عليها الدم، وعدت إلى مخدعي باكيًا، ووضعت يدي الدامية أمام عينيَّ، وأنا أقول لنفسي: "هذا دم وداد".

وحين ذهبنا إليها عند الظهر، كانت يدي لا تزال حمراء، وتناثرت فيها بقع سوداء، وكنت أنا الذي أبكي، لكن دموعي كانت تتساقط داخلي، بينما تقتحم أذنيَّ زغاريد زوجة أبي. كان أبي ينظر إليها مسرورًا، لكني أنا الذي كنت أعرف أن زغاريدها إعلان فرح لما جري لوداد، وما سيجري لها.

ولم تخب ظنونها في قريبها، الذي ما إن أدمى وداد وهو يقهرها في عنف، حتى رماها كأنه خرقة قديمة مسح فيها يديه بعد وجبة دسمة. ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى فوجئت به يرسم لها مربعًا على البلاط، ويأمرها صارخًا:

ـ قفي هنا، ولا تتحركي، حتى أسمح لك.

لم تكن قد أخطأت حتى تستحق العقاب، ولم يكن هذا عقاب أصلًا، بل عذابًا، ورأت وجهه وهي تزحزح قدميها نحو المربع ناظرة إلى السوط الذي يلوح به، كوجه زوجة أبي، كان هي، وهي كانت هو.

وبينما وداد على حافة زنزانتها المؤقتة، وجدت نفسها تجري نحوه، وهي تعض على أضراسها، ويداها ممدوتان صوب السوط، حتى أمسكت بطرفه، وجذبته بقوة، لكنه أفلته منها، وضربها على ذراعها، فانفجر صنبور دم رفيع، لطخ وجهها وقميصها، وانسال فوق كتفه، حين وثبت عليه، وعضته في أذنه، واختلط الدم بالدم.

كنت مندهشًا وأنا أسمعه يحكي أمام أبي وزوجته من أن وداد قد عضته. وتركتهم في بيتنا وجريت إليها، فوجدتها جالسة تبكي وراء باب الشقة، بعد أن أغلقه عليها وخرج يشكو. جلست قبالتها، وطبعت عيني في ثقب في المفتاح فلم أرها، لكنني كنت أسمعها جيدًا، وهي تجهش في حرقة، ورأيت قطرات دموعها تخرج من الثقب، فممدت أصابعي ومسحتها، فصارت يدي حمراء من جديد.

قالت لي بحروف متقطعة: لن أعيش معه أبدًا.

ولم أجد ما أرد به عليها سوى الصمت، لكنها لم تتركني لعجزي، بل ألقت فوق ظهري حملًا ثقيلًا، حين قالت: أنت رجلي، فاحمني منه.

رحت أضرب الباب بكتفي ويدي من دون جدوى، فانتظرته على الباب حتى عاد، ما إن رآني، حتى أشار بيده نحو السلم: ارجع لأبيك.

فقلت له متحديًا: لن أرجع إلا ومعي أختي.

رد في بجاحة: انس أختك إلى يوم الدين.

جريت ووقفت بينه وبين الباب، وقلت له: ستخرج وداد، ولن تدخل أنت إلا على جثتي.

ابتسم ساخرًا وقال: سأدخل على جثتك، وهي لن تخرج.

لكنني خرجت معها، وتركناه مطروحًا في صالة الشقة، فاقد الوعي، بعد أن ضربته على رأسه بمزهرية رخيصة كانت على طاولة وراء الباب، الذي كان قد فتحه ثم جذبني ليؤدبني في الداخل، كما قال. عدنا إلى بيتنا، وعرفنا في اليوم التالي، أنه تغيب عن الدنيا ساعة، ثم عاد إليها يأكله الغيظ، وحين جاء خلفنا ليثأر منا، تكاثر عليه جيراننا الذين كانوا يحبون جميعًا أختى وداد وطردوه. وفي اليوم التالي، تمكنت أنا وأختى من طرد زوجة أبي، الذي كان وقتها يفتش في دفاتره القديمة بشوارع بور سعيد. حين عاد ولم يجدها، جلس صامتًا، يتنفس في ارتياح، ثم سأل وداد في اليوم التالي: كيف جرى هذا؟

ابتسمت في مرارة وقالت له: راح خوفي مع بكارتي.

واستغربت أن تقول وداد هذا، لكنها كانت بالفعل قد تغيرت. لم تفقد طيبة قلبها وحنانها ولا ألق عينيها الرائعتين، لكنها فقدت ضعفها، وقوتني معها. أخذنا أبانا إلى المأذون الذي عقد قران وداد ليطلق زوجته، وبعد أيام أرسل قريبها ورقة طلاق أختى، لكن أبي لم يعش حرًا كثيرًا. خر مريضًا ذات مساء، وكأنه كان يقاوم طيلة السنوات السابقة، ليبقى ظهره مصلوبًا، حتى لا يفقد كل شيء أمام من عيَّرته بارتخائه.

لكنه قبل أن يرحل عن الدنيا ربطني بعمل في بور سعيد، وقال لي وهو يمد يدًا مرتعشة مودعًا: عش حيث تجد رزقك.

وعشت، وامتدت عيشتي سنوات، فيها خطبت وتزوجت وأنجبت ولدين وبنتًا، وفيها وجدت أختى عملًا في محل لبيع الملابس تقوتت منه، وأغناها عن السؤال. كنت أعود إلى القاهرة ثلاث مرات في السنة، أزور وداد، لأعاتبها على وحدتها، وأزور قبر أبي، لأشكو له ما ألاقيه على يد من ظنهم صحبة درب.

ولامني الناس على ترك أختي وحيدة، ولاموها لأنها لا تذهب لتعيش معي، وغطى اللوم رأسينا، فجاءت معي، لكنني عجزت عن حمايتها من زوجتي في شقتي الضيقة، فلم تطق علينا صبرًا، وعادت من حيث أتت، وأوصد بيننا بابًا، كما لم يجر من قبل. سنة كاملة لم أزورها خوفًا من العتاب، لكن في ضحي يوم كئيب، كانت الغيوم السوداء تغطي سماء بور سعيد رن الهاتف وانسكب في أذني لحن جنائزي عزفه جارنا العجوز:

ـ البقاء لله.

وجئت على عجل، تسبقي دموعي وحسرتي، فاستقبلتني رائحتها الطيبة، التي هرب الناس منها. وتجمعوا هناك عند باب الشقة. وبينما كنت أحضن وداد وأمرغ أنفي في رائحة أطيب من المسك، لمحت عيني عجوزًا تقف بين المتزاحمين، وتمد عنقها نحوي، وفي عينيها يتراقص غل وشماتة. ملأت عيني منها وانفتحت نوافذ الألم عن آخرها. كانت أرملة أبي، التي عز عليها أن ترحل عن الدنيا قبل غياب وداد أخت روحي على هذا النحو الغريب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى