مجدى حشمت سعيد - أم السعد.. قصة قصيرة

تجلس ويجلس فوقها الهمُّ، تستظل بالشمس من الشمس في صداقة فريدة، نموذج مثالي للبؤس والعوز والاحتياج، اعتدت على مشاهدتها كأحد معالم المكان الذي أمرُّ به يوميًا، أراها دومًا تنقل عينيها الواهنتين الضيقتين في ما بين السماء وعبوات مناديل الورقية القليلة التي ترصَّها فوق "طرحة" قديمة أبتلع الزمن رونق سوادها، أيقنت أنها تدير حوارًا سريًا خاصًا بين السماء والأرض، كثيرًا ما أشفقت عليها بسبب إصرارها على الجلوس في الشمس وحالها وهيئتها وعلى عمرها الطاعن وصحتها المتردية فأشتري منها أكثر مما أحتاجه من المناديل.
وقفت أمامها يومًا، ملت بجذعي نحوها وأنا ألتقط عبوة من المناديل، همستُ إليها أسألها:
- ما اسمك يا "خالة"؟
أصابتها الدهشة من سؤالي الغريب، صمتت لحظات وكأنها تحاول أن تتذكَّر اسمها أو تستدعيه من أعماق ذاكرتها السحيقة ثم أجابت وهي تتهته:
- "أم...أم...أم السعد".
ابتسمت كرد فعل للاسم ومعناه وواقعها المؤلم، سألتها ثانية:
- ما هو مكسبك اليومي من عملك هذا.
فاجأها سؤالي الغريب، ارتعشت عضلات وجهها ارتباكًا، ترقرقت عيناها بدموع الخوف فندمت على سؤالي وصمتُ، أمعنت النظر في عينيها وتجاعيد الزمن المحفورة بعمق في وجهها حتى خرجت كلماتها متعثرة وجلة من فم سرقت الأيام أسنانه وشفتين داكنتين شققهما الجوع وسوء التغذية والمرض:
- ما يرزقنا به الله نعمة وفضل.
نظرت إليها نظرة حب وحنان ثم سألتها ثانية بنبرة صوت مُطَمْئِنَة حتى تثق فيّ وتجيبني:
- كام "باكو" تبيعينها في اليوم؟
اطمأنت وسكن اضطرابها قليلًا إلا أنها أجابت بنفس كلماتها السابقة:
- ما يرزقنا به الله نعمة وفضل.
حاولت أن أعرف منها ظروفها ومعيشتها وحالتها الاجتماعية لأساعدها بناء على ذلك فامتنعت بإباء وكرامة عن أن تفصح لي بأي شيء، عرضتُ عليها بهدوء أن أن أمنحها مائة جنيه على أن تعود إلى بيتها فورًا لترتاح وترحم شيخوختها، انتفضت ثائرة في غضبة تعود بعمرها إلى الوراء ثلاثين عامًا، راحت كقطة شرسة تدافع عن كرامتها محاولة رفع صوتها المتكسِّر:
- أنا ...أنا "مش شحَّاتة يا "بيه".
التفت المارة نحونا يستشكشفون الأمر في فضول، أشرت إليهم بحدَّة أن يمضوا إلى حال سبيلهم، اصفر وجهها اصفرار المتجهة إلى الموت، خشيت عليها فحاولت تهدئتها بكلمات حنونة تبعث الاطمئنان والثقة في روحها المضطربة ونفسها الوجلة، استطعت بعد جهد أن أمنحها الأمان والسلام والثقة، أقنعهتا بشق الأنفس أن تقبل المبلغ كهدية من ابن لأمه، اعطيتها المائة جنيه فأخرجت بيد مرتعشة منديلًا من فتحة صدرها لتدسَّ فيه المائة جنيه وتربط عليه جيدًا وهي غير مصدقة لما يحدث وتنظر إليّ خلال كل ذلك بنظرات الشكِّ في قواي العقلية، ساعدتها في جمع حاجاتها القليلة والنهوض، تعانقت على ملامح وجههاعلامات الفرح والخوف والقلق والحيرة، مضت بخطوات متعثرة وهي تنظر خلفها بريبة حتى غابت عن عينيّ.
كانت دهشتي الكبري عند عودتي حين وجدتها جالسة مكانها تثبِّت عينيها نحو السماء فقط في تعلُّق روحي عجيب وتحرك شفتيها هامسة بكلمات لا يسمعها أحد سواه سبحانه وتعالى، تجاهلتها تمامًا وأسرعتُ من خطاي بعد أن أدرت وجهي إلى الناحية الأخرى حتى لا تراني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى