لطيفة زهرة المخلوفي - الأدب النسوي، تجارب ورهانات.. الحلقة السادسة عشر.

الحلقة السادسة عشر.


وثقت النسوية المصرية الراحلة نوال السعداوي تجربة سجنها من خلال كتابها "مذكراتي في سجن النساء"، الصادر سنة 1984.
حيث تروي تجربة اعتقالها التي دامت بضعة أشهر سنة 1981، نقلت لنا التجربة من لحظة القبض عليها والتي تزامنت مع انهماكها في كتابة رواية جديدة، سمعت خبطا قويا على الباب، وحين قامت لاستطلاع الأمر فوجئت برجال الشرطة الذين أرادوا تفتيش المنزل من دون أن يكون معهم أي وثيقة اذن من النيابة.
رفضت نوال السعداوي السماح لهم بالدخول، وأمام إصرارها على موقفها خلعوا الباب واقتحموا المنزل، تقول نوال :
"سمعت صوت انكسار الباب كأنه انفجار. أحذيتهم الحديدية تدق الأرض بسرعة كجنود جيش انطلق نحو القتال. هجموا على الشقة كالجراد الوحشي، أفواههم مفتوحة تلهث، وبنادقهم فوق أكتافهم مشهرة".
تم اقتياد "السعداوي" إلى سجن النساء في القناطر، وهو المكان الذي جمعها بمجموعة من صديقاتها الكاتبات والناشطات، اللواتي قبض عليهن استنادا لقرار التحفظ الذي أصدره "السادات"، بتهم انهن "متآمرات ضد الوطن ومصالح الشعب". وأنهن سبب في اشعال فتيل "الفتنة الطائفية".
جاء اعتقال نوال السعداوي كرد على مهاجمتها لسياسات الرئيس "السادات"، وموالاته لإسرائيل وأميركا، عبر كتاباتها.
من الملاحظات الهامة حول تجربة أدب السجون لنوال السعداوي، هو دقتها في تصوير التجربة، اضافة الى حرصها على جعل هويتها النسوية محركا أساسيا في قربها النقدي من معاناة السجينات.
طيلة فترة سجنها لم تسمح للعجز واليأس أن يتسربا إليها، بل سعت بعزم للحفاظ على ارادتها الحرة خلف القضبان :
"قرار واع أصدره عقلي الظاهر والباطن، أن أعيش السجن وكأنه حياتي منذ ولدت وحتى أموت. لا أمل في الغد سوى أن أفتح عيني على هذه الجدران الأربعة فأجدها أقل سوادا".
أضاءت الكاتبة على فترة حكم "السادات"، معتبرة إياها فترة عنوانها الخوف والذعر، والذي استولى على الناس فأصبح الحديث عبر الهاتف يذهب مباشرة إلى أجهزة المباحث.
انتقدت السعداوي الاستفراد بالسلطة عبر "الحكم الفردي"، أي أن الرئيس وحده هو مصدر كل التشريعات والقوانين. هذا الوضع الذي يجعل الكاتب والفيلسوف والمفكر مجرد أدوات في يد السلطة لا إرادة لهم، وهذا النمط نفسه من الحكم هو الذي يحول طبيب السجن إلى " أداة بوليسية للقهر والإيلام والتشويه"، فيتنكر لمبادئه والقسم الذي أقسمه.
والمحاكمة ايضا صورية وشكلية، فاقدة لأي عدالة.
كل هذا تضعه نوال في صورته الواقعية باعتباره مجرد تمثيلية يتقن الممثلون فيها لعب أدوراهم، والجميع من كتاب وأطباء وقضاة وموطفين...الخ، همهم إرضاء الحاكم فقط.
لقد كانت الكتابة الطريق الذي قاد نوال زينب السعداوي الى ردهات المحاكم وزنازن السجن، لكن رغم كل هذا عشقت الكتابة اكثر، وتمسكت بها حتى في أحلك الظروف وأقساها. حيث حاولت بكل الطرق أن تحصل على قلم وأوراق داخل الزنزانة، لكنها لم توفق في الحصول، فالأوراق ممنوعة في عنبر السياسيات، خشية أن تسرب إحداهن رسالة إلى أهلها في الخارج. لكن ذلك لم يثنها عن الكتابة، فصارت تكتب ليلا على ورق المرحاض، أو ورق السجائر، وتعبر عن هذا بقولها :
"بعد منتصف الليل، وحين يهدأ الجو، ولا أسمع إلا صوت الأنفاس النائمة المنتظمة، أنهض وأسير على أطراف أصابعي إلى الركن المجاور لدورة المياه، أقلب الصفيحة الفارغة وأجلس على قعرها. أضع الصحن الألومنيوم فوق ركبتي وأسند عليه ورق التواليت الطويلة كالشريط، وأبدأ الكتابة".
ان كتابات ادب السجون هي نقل لتجارب شخصية، لكنها في الآن نفسه ذات طابع جماعي، لانها جزء أصيل من ذاكرة جماعية تخلد فترات قمع وارهاب أنظمة الحكم، وهو ما عبرت عنه السعداوي، حيث خصصت مساحات من مذكراتها في سجن النساء، لتنقل قصص النساء السجينات في عنبر "غير السياسيات" اي سجينات "الحق العام"، ممن استطاعت التواصل معهن. تحكي حكاياتهن بإيجاز شديد لكنه دقيق في الآن نفسه، محللة الأسباب التي دفعتهن إلى القتل والسرقة وبيع الجسد وغيرها من التهم.
إضافة إلى هذا حللت ظروف السجن السيئة، خصوصا اللواتي كنّ أمهات وولدن في السجن، فكبر أطفالهن إلى جوارهن في ظروف غاية في الصعوبة، من حيث العناية الطبية، وعدم وجود المواد الغذائية الملائمة لصحة أطفالهن، وضيق المكان وما ينجم عن كل ذلك من مشاجرات لا تنتهي بين السجينات.
غادرت نوال وباقي سجينات الرأي السجن بعد اغتيال السادات وتسلم الرئيس"حسني مبارك" الحكم.
وبعد كثير من الرسائل التي أرسلنها للحصول على حريتهن تم الإفراج عنهن.
بعد ثماني سنوات من مغادرة السعداوي السجن، وهي تعد مقدمة لطبعة جديدة من كتابها "مذكراتي في سجن النساء"، هتفت متسائلة :
"هل أنا اليوم خارج السجن؟، لماذا إذن هذا الشعور بالاختناق والانحباس؟. كانت القضبان من حديد لكنها اليوم من مادة أخرى غير مرئية".
في الحقيقة، ان هذه الاسئلة تعبير عميق وصادق عن كون السجن يمتد لمختلف مناحي حياتنا بفعل سيادة أنظمة استبدادية ظالمة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى