حاميد اليوسفي - يحدث بالصدفة.. قصة قصيرة

في الصبا كانت تحلم بأن تصبح طبيبة ، وتعالج والديها وإخوتها ، وسكان الدرب ، والمرأة التي تعمل في الحمام . لم يحدث شيء من ذلك . رسبت في الباك ثلاث مرات ، ثم وجدت نفسها سجينة في البيت ، لا تخرج إلا مع أمها أو بإذن ، ولوقت محدد . تقدم لخطبتها رجل مُربع ومُلتح ، أخافها شكله وهندامه ، فهددت والديها بالانتحار إن أرغموها على الزواج منه . خرجت من هذه الورطة بشق الأنفس ، لكنها في المرة القادمة سقطت في فخ زوج كذب عليهم . دخل بلباس أنيق ، وقال بأنه تاجر ، ويمتلك شقة وسيارة ، تتمناه أي فتاة قليلة الشأن مثلها .
المهم تزوجت منه ، وبعد أيام قليلة ، انقشع كل شيء ، مثل ضباب الصباح عندما تزيحه شمس منتصف النهار . اكتشفت أنه ربنا خلقتنا* ، يشتغل كدليل سياحي بدون وثائق ، يعمل يوما ، ويتعطل يومين ، ولا يمتلك لا شقة ولا سيارة .
مرت الأيام ، وضعت الابن الأول ثم جاء الثاني وحل بعده الثالث . تعودت معه على الخصام بسبب قلة المصروف الذي يتركه للبيت . ضاقت الحياة أكثر ، فاضطرت للعمل في الرياضات مع النصارى ، تنظف الغرف والأواني ، وتمسح الزجاج طيلة النهار ، وتعود في المساء إلى البيت . تطرب لسماع اسمها تنطقه صاحبة الرياض بلكنة أمريكية : عايشة اعملي كذا ، أو عايشة هات علبة السجائر من فوق المكتب .
تجلس مع أصدقائها حول مائدة وسط الرياض ، يتناولون الخمر ، تحت ظل شجرة الافوكا ، وتناديها :
ـ تعالي عايشة اشرحي لنا معنى العبارة التي ترددونها بينكم : هزّك الماء !
تجلس فوق حائط الحوض بجانبها وتُفسّر :
ـ هزّهُ الماء يعني طفا فوق الماء مثل الغريق الذي يفارق الحياة . تقولون في الشطرنج عند انتهاء اللعبة : كش مات الملك أي هزّه الماء ، انتهى كل شيء .
تترجم الأمريكية لأصدقائها ، يضحكون بصخب ، ثم تحتسي كأسها ، وتنفث دخان السيجارة إلى أعلى ، وتقول :
ـ ممتاز عايشة ، أنت امرأة ذكية ، تستحقين حياة أفضل .
تهمس عائشة في خاطرها :
ـ من فمك للسماء يا إيميلي !
حل الوباء ، وأغلقت إيميلي الرياض ، ودفعت لها أجرة ستة أشهر ، وسافرت إلى لوس أنجلس ، ولم تعد إلى اليوم .
بعد انقضاء فترة الدعم الذي قدمته الحكومة لمن فقدوا الشغل ، بالكاد تجد ما تطعم به أبناءها . تراكمت عليها الديون : الكراء والماء والكهرباء والبقال ..
بالأمس توصلت بخبر في الواتساب ، يعلن بأن جميع جهات المملكة ، اتفقت على أن تنظم وقفة احتجاجية ضد إجبارية التلقيح ، وارتفاع الأسعار ، يوم الأحد ابتداء من الساعة الرابعة . وحدد الإعلان مكان الوقفة ، وأكد على أن كثرة العدد تعمل على نجاح المعركة ، وفرض الحقوق المشروعة .
عائشة ليس لديها مشكل مع اللقاح ، أخذت حقنتين ، وتنتظر أن يحل موعد الثالثة ، وليس لديها مشكل مع جواز التلقيح ، بل استقبلته بفرح ، كبطاقة إضافية ، غلفتها بالبلاستيك ، وأدت مقابل ذلك ، وفي عز الأزمة ، خمسة دراهم من مصروف البيت . عائشة طحنتها الديون وارتفاع الأسعار والبطالة وكذب زوجها .
علقت آمالا كبيرة على رئيس الحكومة الجديد ، صدقت ما سمعت عنه ، بأنه رجل ثري وأمازيغي ، ووالدها دائما يتحدث عن الأمازيغ بالخير ، ويصفهم بالناس الطيبين ، يحبون العمل والمعقول .
تشكلت الحكومة ، وعقدت عدة اجتماعات ، والأسعار لا تتوقف عن الارتفاع . سمعت مسئولا كبيرا في التلفزيون ، يربط بين ارتفاع الأسعار ، ووباء كورونا . يقول بأن وباء كورونا تراجع بالتلقيح والتباعد ، وارتداء الكمامة ، وغسل اليدين ، ثم أضاف بأنه سيتناقص أكثر بفرض الجواز في الأماكن العمومية . أما الأسعار فقد ارتفعت في كل دول العالم بفعل الأزمة التي تسبب فيها الوباء . قالت مخاطبة نفسها :
ـ يا عائشة ما دام وباء كورونا تراجع بالتباعد والتلقيح ، وارتداء الكمامة ، وغسل اليدين ، ثم سيتناقص أكثر بالجواز ، وتعود الحياة إلى طبيعتها كما يقولون ، فلماذا لا يجدون لقاحا وإجراءات احترازية لارتفاع الأسعار ، أو للفقر والجهل وبقية الأمراض الأخرى ؟ وهل سيكون ارتفاع الأسعار أقوى وأخطر ، وأشد فتكا بأرواح الناس من وباء كورونا ؟ لا يا عائشة فقط الفقراء ، وذووا الدخل المحدود هم من يكتوون بنار ارتفاع الأسعار . التجار دائما يربحون ، وفي الأزمات يربحون أكثر . يبدو أن وباء كورونا أعدل وأرحم من ارتفاع الأسعار ، لأنه لا يميز بين من يملك ، ومن لا يملك ، فهو يخنق الجميع ، ولا يأخذ سوى أرواح من كانت مناعتهم ضعيفة ، سواء أكانوا أغنياء ، أم فقراء !
وهي عائدة من عمل تنظيف إحدى الفيلات ، مرّت بالقرب من مكان الوقفة ، فوجدته غاصا بعناصر الشرطة ، والقوات المساعدة ، وسيارات الأمن . أحست بالخوف ، فتظاهرت بأنها ستقطع الشارع إلى الرصيف المقابل . سارت بضع خطوات ، والتفتت . كلما ركزت نظرها على حجم قوات الأمن ، ازدادت خوفا . ابتعدت قليلا . قالت مخاطبة نفسها :
ـ لماذا لا تقفين ، وترين ما سيجري ، فأنت أيضا ابنة الشعب ، ولست أقل شأنا من أولائك الذين يظهرون في أشرطة الواتساب ، يقفون أمام الميكروفونات ، ويطلقون الكلام القاسح* . يمكن أن تتحدثي أحسن منهم عن الفقر والجوع والبطالة ، لأنك خبرت هذا المستنقع لسنوات طويلة .
الوقت يمر بطيئا . بدأ عشرات الناس يتجمعون . عادت أدراجها إلى جانب الساحة ، فجأة تدفق من حولها حشد كبير من الناس ، يصدحون بشعارات تدعو إلى سقوط جواز التلقيح . بدأت تردد ما يصل إلى أذنيها من كلمات بصوت خافت حتى حفظتها . انتقلت إليها العدوى فتحمست ورفعت صوتها ، ثم اقتربت من الشرطة ، فشعرت بالخوف ، وضعف صوتها ، حتى كاد يتحول إلى همس . الضوضاء واختلاف الشعارات جعلها لا تسمع جيدا رجل أمن ، وهو يتحدث في مكبر للصوت ، ويتلو بعض القوانين ، ويدعوا الناس إلى إخلاء الساحة . سمعت شعارا يردده شبان بجانبها على صدور أقمصتهم صورة لرجل أجنبي* وسيم ، يغطي جانبا من رأسه بقبعة حمراء . تلعثم لسانها ، كلمات قليلة لكنها قد تزن لوحدها سنتين أو ثلاث سجنا . توقفت عن ترديد الشعارات ، وقالت لنفسها :
ـ كيف دخلت يا بنت الحرام هذه السوق التي لا تفهمين ما يُعرض فيها ؟ مشيت فيها يا عائشة !
فجأة اختلط الحابل بالنابل . لم تدر إلى أي وجهة يمكن أن تهرب . انفض جمع المتظاهرين من حولها . انحنت لرفع قبعة حمراء سقطت على الأرض ، عندما نهضت ، وجدت نفسها وسط غابة من رجال الأمن . كل ما تذكرته هو أن يدا التفت حول ذراعها ، فوجدت نفسها وجها لوجه مع باب (لاراف)* . حملاها شخصان مثل الريشة ، ودفعاها إلى الداخل ، وأغلقا الباب . وجدت أربعة أشخاص زُجّ بهم قبلها في السيارة . انتابها خوف رهيب . تشتت ذهنها . ماذا سيفعل العربي إذا سمع بأن الشرطة وضعتها في سيارة ، وأخذتها إلى الكوميسارية ؟
حاولت استعادة هدوئها ، وقالت لنفسها :
ـ ماذا يمكنه أن يفعل ؟ فهو يشتمك ، ويضربك من حين لآخر . تغضبين وتذهبين إلى منزل والديك ، ثم يأتي رفقة أخته أو أمه ، يعتذر ويقبل رأسك أمام الأهل والجيران ، وتعودين إلى البيت . لو وقف الأمر عند هذا الحد لهانت ، ستكتسح صورك المواقع الإخبارية ، وفوقها عناوين مثيرة مثل المرأة التي قالت لا للجواز ... المرأة التي واجهت القمع بصدر عار ... المرأة التي قالت لن يمر الجواز . ستغرقين يا عائشة ! الشرطة ليست هي العربي . الشرطة إذا ضربت أحدا ، لا تعتذر له ، ولا تقبل رأسه . سيفتحون لك محضرا ، وينقلونك في الغد إلى المحكمة ، ويحكم عليك القاضي بالسجن ، وأداء الغرامة ، كما يحدث في الأفلام والمسلسلات . لو بقيت إيميلي ، ولم تسافر إلى بلدها ، لتدخلت عند الشرطة ، وفكّت سراحك بكفالة ! هزّك الماء يا عائشة ؟
فتحوا الباب ، دفعة جديدة من ثلاث نساء ورجلين ثم شابين . صرخت بأعلى صوتها ، وهي تفتش في حقيبتها :
ـ واك واك أعباد الله راني ملقحة ؟!
لم يهتم أحد من الشرطة لكلامها .
امتلأت السيارة ، وتحركت في الشارع المؤدي إلى الكوميسارية التي تبعد عن المكان بعشرات الأمتار .
هدأت من روعها وقالت في صمت :
ـ ومِمّ ستخجلين ؟ أنت حاولت أن تصرخي ضد ارتفاع الأسعار ، لكنهم قبضوا عليك وسط الساحة ، وليس في بيت للدعارة أو مقهى لتعاطي الشيشة ؟!
سمعت صوت ناس الغيوان يطن في أذنيها ، وكأنه قادم من جبال بعيدة :
ـ فين غادي بيا أخويا أو فين غادي بيا
دقة تابعة دقة وشكون يحد الباس .
المعجم :
ـ ربنا خلقتنا : تعبير شعبي يعني بأنه معدم
ـ الكلام القاسح : النقد القوي للأوضاع الاجتماعية والسياسية .
ـ صورة لرجل أجنبي : تشي غيفارا .
ـ لاراف : سيارة كبيرة زرقاء أو بيضاء مكتوب عليها عبارة الأمن الوطني باللونين الأحمر والأخضر ، نوافذها مصفحة بشبابيك حديدية ، تستعملها الشرطة في اعتقال المخالفين للقانون .
مراكش 02 نونبر 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى