عبده جبير - الأمواج.. قصة قصيرة

كان واقفا على الجسر اللولبي، جلبابه الفضفاض يتلوى من حوله، وكانت الأمواج في قلب الترعة ثائرة، معربدة، ترتطم بالحافتين، تهدأ حتى تنكمش في وسط الترعة، ثم.. تقفز إلى الحافتين، استند إلى جذع نخلة خشن زاما شفتيه، بقايا البصل والعدس الأصفر لا تزال بين ثنايا فمه، استحلب البقايا بتلذذ، تجشأ عن عمد، بطنه تقرقر بصوت مسموع، اشمأز قليلا، مر بخلفية يده على حافة فمه، يده الأخرى تتحسس ألياف جذع النخلة: خشنة، شائكة، جلس على الأرض حاسرا جلبابه، أسند رأسه إلى الجذع، أرخى ساقيه، يده تتحسس التراب اللين بين أصابعه الجافة، رفع عينيه إلى أعلى، تقلصت عضلات بطنه إثر حركة جامحة تنبعث من قلب حقل الذرة، برزت “عجلة” سمينة حمراء لامعة: تركض بقوة وتخلف فيما وراءها الحقل وقد انحسر إلى قسمين، وقفت على أرض الجسر، كشرت الأسارير رافعة رأسها إلى أعلى محملقة، ذيلها يضرب في الهواء، قفزت إلى الأمام مندفعة كالإعصار، واندست داخل أعواد الذرة. أقبلت فتاة من الخلف، تحمل على رأسها جرة، تلفتت فيما حولها، تأكدت من أن أحدا لا يراها، حسرت ثوبها عن فخذيها، نظرت إليهما لحظة مسندة الجرة بيدها الأخرى، مضت تهز أردافها بحركات متعمدة، ساخرة من شيء ما، متمتمة بموال، وعندما أصبحت على حافة الترعة، أنزلت الجرة، أسندتها إلى قطعة طين مكورة جافة، اقتطعت قطعة عجنتها بين يديها حتى أصبحت في حجم كوز الذرة، كان لسانها خارج فمها ينساب على جانبه، عيناها دامعتان شبه مغمضتين، أصابعها تغوص بين ثنايا قطعة الطين التي تغوص هي أيضا بين أصابعها، وقفت برهة تحت تأثير خدر يسري في عروقها، فركت قطعة الطين في يدها فانسابت داخل الماء. فرك عينيه بإصبعه، اندس داخل شجيرات مهوشة على هيئة جرن صغير على الحافة، سال ريقه لكن عينا حملقت فيه، طارت الفكرة من رأسه، ظل في مكانه كاتما الأنفاس. وقفت الفتاة منتصبة القامة، نظرت فيما حولها، تقدمت نحوه، توارت خلف الشجيرات الكثيفة التي كان مندسا داخلها، ارتفعت أنفاسه، كاد يسعل، وقفت الفتاة أمامه لا يرى منها إلا نصفها الأسفل، تتحرك ساقاها من وراء جلباب خفيف باهت كتموجات صامتة، ما لبث الثوب أن ارتفع مهتز الأطراف، فبدا بياض الساقين، احتاط بكتم أنفاسه بيده، تحرك الساقان، استرد أنفاسه، حملق من وراء الأغصان المتشابكة إلى المكان الذي سقطت فيه فلم ير سوى الدوائر تتداخل متماوجة في لين، مادت رأسه، يسقط داخل الدوائر التي ظلت تخنقه تندفع إلى الأحشاء، مد يده مشوحا طاردا كل ما يظلل عينيه، سرعان ما برزت أمامه، حملق مبتسما ضاما شفتيه، وكان شعرها المبتل قد التصقت خصلات منه على وجنتيها، سوته بيدها، عادت داخل الماء، رفع رأسه إلى أعلى، برزت تتحرك ببطء ناحيته. تلفتت فيما حولها، جلست على الحافة، غاص جزء منها في الطين، ملأت يدها بالطين السائل وألقته علي جسدها، راحت تدعك ظهرها، ذراعيها، أبطيها، لم يكن يرى منها إلا ظهرها الملطخ، تمرغت كدودة تغرس نفسها في الطين من الداخل إلى الخارج، زحفت ناحية الشمال، حرك رأسه ناحيتها، كانت فروع الشجيرات متشابكة تحجبها عنه، مد يده ليتحسس الأغصان، ملأت حلقه برائحة تراب ناعم. اعتصره الخوف “ما هذه اللعبة؟” أعاد يده إلى جانبه، حملق في آثارها الحلزونية، الأمواج تزحف، تنكمش ثم ترتطم بالحافتين، لم تأت، ما حقيقة الأمر، لا أمل، تبخرت الأمنيات وطارت الفقاقيع، استبد به التعب، خرج من بين الأغصان، نظر فيما حوله، لا أثر، غير أن ملابسها معلقة على جذع نخلة يتلوى، الجرة واقفة مشدودة العنق، تدحرجت، سقطت داخل الترعة. تقدم خطوات، تلفت فيما حوله، لا أمل، لا جدوى من الوقوف وربما كان في الأمر ـ بعد كل شيء ـ جريمة، طاردته الفقاقيع، انسحب، حرك قدميه في تثاقل، ألقى نظرة أخيرة، سقط عصفور على الأرض، العصفور ينقر الأرض، ينتقض، يقفز إلى أعلى، يندس بين الأغصان، أمسك بقطعة حجر مبللة من إحدى جانبيها، قذف بها في اتجاه العصفور، تلوت في الهواء، وبتعمد شديد: سقطت في قلب الترعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أغسطس ـ 1969



أعلى