وليد الهودلي - نائل البرغوثي ٤٢ سنة من العذاب الصهيوني المهين . (يدخل اليوم عامه ال٤٢ أقدم أسير سياسي في العالم)

أذكر يوم دخلت عليه سجن جنيد سنة الف وتسعمائة وتسعين من القرن الماضي ، كان قد أمضى من حكمه المؤبد اثنتا عشر سنة وكنت محكوما بذات المدة التي قضاها .. تساءلت في قرارة نفسي كيف أمضى هذه المدة الطويلة خلف هذه الجدران البليدة القاسية ، كيف احتمل صلف السجان الذي يكيل له ما لذ وطاب من صنوف الالم والمعاناة ! كيف احتمل قلبه فراق الاحبة أو قل فراق الحرية لتشمل فراق كل جميل في هذه الحياة ؟
استقبلني بابتسامة جميلة أشرق لها قلبي ورفع بها معنوياتي الى عنان السماء .. قرأ في عيني السؤال : كيف كان لك كل هذا الزمن الطويل صديقا حيث أرادوه أن يكون عدوا لك ؟ أخذ بيدي الى ما يشبه النافذة ومن خلف قضبانها الثخينة أشار لي الى بيت جميل على سفح الجبل المقابل : "أنظر الى ذلك البيت : لقد رأيتهم عندما أحضروا المساح ليمسح الارض ثم جاء قلاب البناء ليقلب الايام مع نقلات الحصمة والناعمة والاسمنت .. ورأيتهم يعقدون البيت ثم رايت زفة تدخل البيت عروسان ثم رايت طفلا تحمله أمه ثم رأيته وهو يركض خلفها وبين يديها طفل أخر .. الحياة تمضي سريعة يا صديقي ولن تتوقف بدخولك السجن .. دورك في الحياة أيضا لا يتوقف .. ابحث لك عن دور يفيد الناس حتى وانت خلف هذه الجدران ..
ومضت الاثنتا عشرة سنة وكان نائل آخر من ودعني وداعه الحار الذي ضخ فيّ شحنات عالية من روحه ثم كان له ان يضيف الى قنطرة صبره وعطائه عشر سنوات ليفرج عنه في صفقة وفاء الاحرار ..
! هل ندرك حجم الالم الذي تجرعه نائل وهو متمترس في خندق المواجهة المباشرة مع عدو لئيم متفنن في قهر الرجال بما يملك من ادوات البطش والظلم .. نائل بما وقر في صدره وبعزيمة لا تلين نجح في المحافظة على روحه العالية وإرادته الصلبة وبقي ليس فقط متمسكا بصبره وصموده وإنما حافظ على بقائه مصدرا من مصادر الطاقة العالية لبقية الاسسرى .. لم يلتزم برشه"سريره" محافظا على ذاته من الضياع أمام موجات الشر المتلاحقة وأنما كان جبلا راسخا وصخرة تتكسر عليها نصالهم .. وهذه حقيقة لا مبالغة فيها فكل من التقى بنائل استمد من روحه العالية طاقة ساعدته في السير قدما الى الامام ولقد كنت بفضل الله علي واحدا منهم .. كان من القلائل الذين ساهموا في شد أزري وشحني بالطاقة اللازمة لمتابعة الطريق ..
لم يترك الاحتلال بحقده اللامحدود لهذا الكهل الشاب أن يعيش حياته الطبيعية بعد ان تنفس نفسا من الحرية، فأعاده الى خندق المواجهة المباشرة من جديد .. وهذا حسب نظرية نائل هو الوضع الطبيعي لشعب محتل .. الاعتقال وزج الاحرار في السجون هو دأب الاحتلال ومن يطمع بحياة من يحمل بطاقة vip
فيستيقظ صباحا ليكحل عينيه في الجيب الفاره الذي يقف امام بيته ، ليتجول به في ربوع الوطن يغدو ويروح الى حيث شم النسيم العليل والبساط الاحمر المفروش له على الجسور باسفار جميلة لا يعكر صفوها شيء .. هذه الحياة لا تنسجم مع وجود الاحتلال ولا مع روح نائل النقيض لهذا الاحتلال ..
عاد نائل الى السجن من جديد وهو يعلن أنه لن ينضم الى جوقة من رضي الاحتلال عنهم ورضوا عنه .. سيبقى النقيض لهذا الاحتلال الغاشم .. هو رابعة النهار في وجه هذا الغسق الحالك فالنور والظلام لا ينسجمان أبدا .. نائل لم يتعاط السياسة في سوقها السوداء مذ كنا في سجن هدريم وحيث أقمنا منتدى هدريم السياسي وكان نائل عضوا فاعلا فيه كان على الدوام رافعا لراية فلسطين كل لا يتجزأ .. فلسطين من بحرها الى نهرها .. وعندما كنا نناور ونفكر في التكتيك كان نائل يقول : ما خرّب بيت القضية الا التكتيك ويذهب بنا الى حفلة عدن الشهيرة " خلينا انبطّل تكتيك " .. وكنا عندما نجمل الموضوع ويبقى نائل متمسكا برأيه الشامخ يصرّ على وضع تحفظاته دون ادنى مواربة .
ويصر نائل على ان يكون خروجه من السجن كما دخل دون ان ينال منه السجان ويسجل عليه اية نقطة او لحظة من لحظاته النقية .. يلتحم بالكتاب ويصادقه صداقة حميمة ويصر على البرامج الثقافية ويعتبر من يضعف فيها او يتخلى عنها كمن يتخلى عن سلاحه وكان يدعو بكل قوة الى الحياة العسكرية التي تعتبر الاسير مجاهدا وجنديا في ثورة ولا تروق له حياة فيها شيء من الرخاوة والميوعة فيقف ضد من يتوسع كثيرا في كنتينة او تحميل الاهل فوق طاقتهم بادخال مبالغ كبيرة او ملابس تعفي السجان من تكاليف السجن باي حال من الاحوال .
نائل شكل سدا منيعا أمام أي تداع او انهيار في جبهة صراع الارادات فهو ارادة حرة منيعة تستعصي على السجان وتجعل من الاسرى نخلة سامقة لا تقدر عليها سهامهم وصواريخهم . وقد نقول ذلك عن شخصية تقف بضع ايام و أشهر أو حتى سنين أما ونحن أمام شخصية تستمر على هذا التدفق لسبع وثلاثين سنة فإننا بالفعل أمام نهر لا ينقطع ماؤه ولا يجف عطاؤه .. هذا الرقم الصعب يشكل مدرسة خالدة بل كلية عسكرية لا نظير لها لا ماضيا ولا حاضرا . أنى لنا ان نقدر هذا الرقم حق قدره .. هل لنا ان نستوعب ذلك وحيث اني كاتب هذا المقال قد قضيت في السجون ثلث هذه المدة ولا أكاد أستوعب هذا الامر .
أخيرا ونحن نشعر باننا لا نعطي الرجل حقه مهما قلنا وكتبنا فقد آن الاوان ان يخرج من هذه السجون هو ومن معه من قلوبنا النابضة .. لا بد من جعله شخصية عالمية كرمز من رموز القضية الفلسطينية وكعنوان مركزي لملف الاسسرى في السجون الصهيوينة .. لا بد من طرق كل الابواب من أجل حريته خاصة البوابة المصرية التي كانت راعية لصفقة وفاء الاحرار . ومع كل مناسبة يجب ان يتصدر نائل مشهد هذه المناسبة .. وفي هذا السياق لنذكر ان نائل لا يقل شأنا عن نيلسون منديلا ولكن المختلف ان السياق هناك يختلف عن سياقنا الذي لا نعطي فيه لرجالنا أقدارهم ولا ننزلهم منازلهم ... آن الاوان لنائل البرغوثي أن ننزله المنزلة التي تليق به


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى