طلعت سقيرق - من دفاتر الشعر الفلسطيني المقاوم عرسٌ هي الأرض النشيد

في صيرورة النشيد، وفي امتداد الأغنية المعبأة برائحة الجذور وعمقها، تأتي الأرض لتكون العرس والزغرودة والصوت والمدى، ذلك أن الفلسطيني يداخل حب أرضه بكثير من الصوفية العالية الذاهبة حتى الشريان توحداً وعناقاً.. وما يوم الأرض الذي انطلق صرخة مدوية في الثلاثين من آذار عام 1976 م ـ مطلقاً عرس شهدائه: خير ياسين، رجا أبو ريا، رأفت الزهيري، خديجة شواهنه، خضر خلايله، ومحسن طه ـ إلا المرآة التي عكست بصدق وفاعلية شدة تعلق الفلسطيني على مرّ الزمان بهذه الأرض التي ما تعودت إلا إخلاص أبنائها لها وإن كان مهر هذا الإخلاص دماً وروحاً ودفق شريان.. ولأن صوت الأرض لا ينام، كما شدة العلاقة معها لا تنطوي، فقد كان الاحتفاء بيوم الأرض احتفاءً دائماً ومع كل دقيقة على مدار العام، إلى جانب الاحتفاء في الثلاثين من آذار كل عام، وليس هناك انفصال أو فضل بين هذا وذاك... فكما نحتفي كل عام بعيد الأم في الحادي والعشرين من آذار، مع احتفائنا اليومي المستمر بالأم، كذلك نذهب في علاقتنا مع الأرض التي لا يمكن إلا أن تكون الأم والحبيبة والعمر كله.. والحديث عن الأرض، ويوم الأرض،يأخذنا مباشرة إلى الشعر الفلسطيني المقاوم، بل الأدب المقاوم كله، حيث عماد المقاومة قائم على الحق الفلسطيني بأرض فلسطين، هذه الأرض التي تزداد امتداداً في الجسد الفلسطيني يوماً بعد يوم مع امتداد الدم الفلسطيني شهادة وعطاء لا ينضبان.. وقد بقي الشعر الفلسطيني المقاوم ملتصقاً بأغنية الأرض وعشقها معبراً خير تعبير عن علاقة الشاعر الفلسطيني بأرضه التي تحولت لتكون خفق قلب وتحليق روح ونغم وجدان، فهي الحب والحبيبة والدم والعصب والتاريخ والأهل وكل الحكايات... انتقلت الأرض لتكون مؤنسنة في قاموس الشعر الفلسطيني، فلا شيء يضاهي حضورها وامتدادها في هذا الشعر..

عند الدخول إلى دفاتر هذا الشعر المشتعل حباً بأرضه، نجد الكثير من الامتداد الخصب الثر، والفاصلة الأولى، أو قل البداية، تأتي مع الشاعر سليمان دغش الذي يحاول التوحد مع الأرض والذهاب في عطرها ونبضها حتى النهاية، يقول: "مخدتي زهرْ/ وفرشتي حشائش برية/ والبدر قنديل السمرْ/ وأنت لي أغنية/ إن جعت آكلُ التراب/ وأمضغُ الحجرُ/ وإن عطشتُ أوقفُ السحابْ/ وأنزل المطرْ "ثم" أصابعي شجرْ/ ومهجتي صخرية"/ وأنتِ لي القدرْ/ يا أرضُ والهويهْ"، فهذا التداخل مع الأرض يحاول قدر المستطاع إلغاء المسافة، ليكون الشاعر هو/ الأرض، ولتكون الأرض هي/ الشاعر... والمتابع لمفردات سليمان دغش يلحظ إلى هذا التماهي المطلق مع مفردات الأرض...

مثل هذه العلاقة المتميزة مع الأرض نجدها عند الشاعر الراحل هايل عساقلة حيث:

في موطني عشق الصبايا قاتل

والعشق مثل مياهه لا ينضبُ

إن يسقط الشهداء فوق تلالنا

ويقدموا ماتشتهي أو تطلبُ

فالعشق علمهم بأن ترابنا

أغلى من الرمق الأخير وأعذبُ

هذا الشاعر الذي رحل مبكراً بعد أن أصيب بمرض عضال، كان يتعامل مع حبه لأرض فلسطين بشكل ساحر غريب... ولست أدري لماذا تستوقفني كثيراً مسألة "الرمق الأخير"، عند هذا الشاعر وهو يداخل حب الأرض... وأسأل في كثير من الأحيان: هل هناك أهم وأعذب وأغلى وأقرب من هذا الرمق الأخير؟؟... إنه كل ما تبقى... فانظر إلى عساقلة وهو يجد أن عشق الأرض، وتراب هذه الأرض، أغلى وأعذب من هذا الرمق الأخير...

ومرة أخرى، وكما بدأت أجد أنني عندما أذكر شدة العلاقة بالأرض أتذكر مباشرة الصديق الشاعر سليمان دغش الذي اتصل بي هاتفياً قبل أيام من الوطن المحتل ليرسل لي عبر البريد الإلكتروني آخر ما كتب من شعر.. أذكره في مقطع أعتبره من أجمل الشعر الذي قيل عن علاقة الإنسان بأرضه وحبه لها يقول فيه: "لماذا حاولوا قتلي/ لماذا حاولوا فصلي/ عن الأرض التي انتشرت على جفنيَّ منديلاً/ من الأزهار والعشبِ/ لماذا حاولوا فصلي/ عن الأرض التي التحمتْ على قلبي/ جناحاً ناعماً الزُّغبِ/ لماذا حاولوا التفريقَ/ بينَ العين والهدبِ" ثم "سلوا الزيتونَ/ فالزيتونُ يعرفني/ ويشهدُ أنَّ ذا وطني/ وأني راسخ "كالصخرِ/ كالزيتون كالعنبِ/ سلوا الأشجارَ/ والأحجارَ/ إن شئتمْ/ فكلُّ الأرض تعرفني/ وكل الأرض تعشقني...".

في هذا المقطع الكثير من الحرارة والحب والعلو في وصف علاقة الإنسان مع أرضه.. وسليمان دغش يمهر شعره بالكثير من الوجد الصافي العذب.. حبه للأرض يجعله يغرس بصماته غرساً في كل ذرة تراب، حتى تتحول البصمات إلى قناديل عشق تتلألأ عطاءً في سماء الوطن المعشوق...

في هذا المسار من حب الأرض أتذكر الشاعر مصطفى مراد في قصيدته "الأرض" وأتذكر مقطعاً يقول فيه: "تكونين ملء الفضاء... وملء السماء وأكبر../ من كبريات الأماني/ تكونين حين ترابكِ يفلتُ منكِ/ فتدخلُ ذرّاتهُ في عيوني/وأغلى وأغلى../ تكونين أيتها الأم يا جرحنا النازفا/ ضماد الجروح/ تكونين كيف تكونين صاخبة ثائرهْ/ وهادئة صابرهْ/ تكونين بلسم روحي/ فما شئتِ كوني.." ..لأجد أن التواصل يبقى تواصلاً وجدانياً رائعاً مع كل مفردة يوردها الشاعر... وجميل الشعر الفلسطيني المقاوم في الوطن المحتل أنه يصر هذا الإصرار العالي الجليل على علاقته الدافئة مع أرضه، وعلى تداخله اللا نهائي مع هذه الأرض..

في قصيدة "وأبي أوصى بتفاح الجليل" يرى الشاعر هايل عساقلة أنه الأرض في كل نبضة وعرق، حيث: "أنا من بلاد العشق من هذا الثرى/ جبلت ضلوع الصدر والجفن اكتحل" ثم في قصيدة "أرض البطولات:

وتنمو الدوالي على راحتي

وظل الدوالي على منكبي

وتشدو العصافير صبحاً وعصراً

ويعصف سهل الثرى معشب

ثمَّ في قصيدة "عرس":

ذي فلسطين التي نعبدها

وسواها جنة لا نعبد

كل نجم في سماها قبلة

كل شبر في ثراها عسجد

بنيت من أضلع ساحاتها

وعلى الصدر تعالى المسجد

إنه الحب الفلسطيني والحب هو الحب، ومثل هذه العلاقة القوية المتميزة بالأرض، استدعت أن يصر الإنسان العربي الفلسطيني على البقاء والثبات بكل شكل ممكن، فالأرض الفلسطينية تنادي إنسانها بلغةِ الشجرِ والتراب والماء لكي يصمد أكثر، ولكي يتشبث بكل حبة تراب حتى آخر رمق. من هنا هذه الإصرارية على هوية البقاء والثبات، من خلال الإصرارية على هوية التحدي والصمود.

في وتيرة هذه الإصرارية، يرى الشاعر منيب فهد الحاج في قصيدته "معاذ الله أن نرحل" إن البقاء والثبات يشكلان معنى الإنسان الفلسطيني، حيث: "هنا باقون لن نرحل/ سنبقى فوق هذي الأرض نحيا لا نفارقها/ ففوق ترابها أجدادنا درجوا/ وغذّوها بدمهم/ فصارت كنزنا الأكبر/ فهل نرحل؟؟../ سنبقى فوق هذي الأرض نزرعها/ ونحميها بأضلعنا/ ونعشقها/ لتبقى حبنا الأمثل/ هنا باقون ولن نرحل.."...

فالمسافة تسجل حضور عدة صور في نسق واحد متلاحق، لتقول في مجموعها ببقاء الفلسطيني وصموده فوق أرضه في مواجهته الاحتلال. حيث:

/البقاء الذي ينفي أي رحيل، أو إمكانية مجرد التفكير بالابتعاد عن الأرض.. فالفلسطينيون هنا باقون/ وسيبقون فوق الأرض الفلسطينية طوال حياتهم لا يفارقونها.. وطبيعي أن تكون المقولة مقولة واقع يعيشه الفلسطيني ويمارسه حيث تبرز كل يوم الوقائع القائلة بأن الثبات شريان الشعب العربي الفلسطيني.

/الامتداد الذي يمثل الحق التاريخي الواضح.. ويمكن لأي قارئ أن يرى إلى الأجداد الفلسطينيين وهم يكتبون على صفحة التاريخ كيف درجوا على أرض فلسطين العربية، وكيف سجلوا حضورهم وتواجدهم المتواصل منذ القديم، وكان لهم بطبيعة الحال أن دافعوا عن هذه الأرض وسيجوها بضلوعهم ودمائهم ضد أي عدوان.

ـ /الإصرار الذي يأتي نتيجة طبيعية لعلاقة الفلسطيني بأرضه، وهو إصرار على البقاء والفداء والعشق... لتكون الأرض في كل حركة محور الصورة عند الفلسطيني.

مثل هذه الصورة نلتقي شيئاً من ألوانها في قصيدة "قراءات في عيون حبيبتي" للشاعر عبد الناصر صالح الذي يقول: "لماذا سأرحلْ/ وأتركُ وجهك عنّي بعيدا/ فكَوني بقربك أجملْ/ لماذا أغوصُ ببحرِ الجراح/ وعيناك بحري الكبيرُ المفضَّلْ".. فالشاعر يطرح سؤالاً سريعاً يثير الكثير من الشجن" لماذا سأرحل؟؟". وهو لا يجد الإجابة في نفي الرحيل كما هو متوقع بل يأخذ في مد خيط الشجن حتى آخره، حيث يرى أنه "إن رحل" سيترك وجه فلسطين بعيداً عنه.. وهو ما يجعله يرتد بسرعة إلى صوته الداخلي المصر على أن وجوده بقرب فلسطين/ الحبيبة الأجمل.. ولا داعي للغوص في بحر الجراح.. ويصل إلى صورته القريبة إلى نفسه" "وعيناك بحري الكبير المفضل "ليسلِّم كل الصور إلى هذه الصورة الزاهية..

طبيعي أن هناك الكثير من الإشارات النفسية القائلة بإصرار الشاعر عبد الناصر صالح على حبه الأكبر لفلسطين. وإذا كان طرح السؤال جارحاً، فإنه من جهة ثانية يأتي ليؤكد على انفتاح كل الشرايين على الفرح بعناق الأرض حين يأخذ الشاعر في الدخول إلى عالم العطاء المتجدد عندما تكون عينا الحبيبة البحر الكبير المفضل.

يعود صوت الشاعر منيب فهد الحاج ليؤكد مرة أخرى على الصمود والثبات في قصيدته "شعبي الصامد" حيث: "صامد كالطود شعبي/ صامد يأبى المذلة والهوان/ راسخ كالسنديان/ مثل زيتون الجليل..." لتكون مفردة الرسوخ دليلاً على هوية متجددة للفلسطيني الذي يصر على كتابة قصيدته بأحرف البقاء. وهنا أبرز الشاعر مفردات الطبيعة لتشكل معاني هذا الرسوخ والثبات معطية كل دفع وشحن، فالشعب صامد كالطود.. راسخ كالسنديان.. ومثل زيتون الجليل.. لذلك فهو يأبى المذلة والهوان".(*).

أختم هنا بمحور الشهادة وعلاقتها مع الأرض حيث أخذت بعداً هاماً، جراء تقديم شعب فلسطين الشهيد تلو الشهيد مواكب نور على طريق تحرير وخلاص أرض فلسطين من محتلها.. ونبدأ من قول الشاعر عبد الناصر صالح"، "إن التراب يريد دماءً/ تغذي جذور الربيع/ وتفرش درب النضال المثابر"، وطبيعي أن تصل مثل هذه الدعوة الطالعة من عمق الأرض إلى الإنسان الفلسطيني، ليسجل حضوره المباشر الفاعل... وكانت صرخة الإنسان الفلسطيني مليئة بالصدق حين انطلقت على لسان الشاعر هايل عساقلة في قصيدته "لو ضمني هذا الثرى كفناً"، حيث:

إن تسألوا نبع من الكوثر

وطني وبستان" من الصعتر

وحجارة" من مرمر صقلتْ

فتمايلَ الياقوتُ والمرمرْ

فثراك حفنةُ أنجمٍ ولذا

لو ضمَّني كفناً فلن أخسر

ومن جديد نسمع ما يقوله الشاعر عبد الناصر صالح في قصيدته: "الصهيل" حيث: "دمي سال على وجه الترابْ/ ولم يزل هناك ترتوي الأشجار منه/ تحتمي به الطيور من مخاوف الدمار والحريقْ".

ويقولها الشاعر سميح صباغ في قصيدته "ملح الأرض أنتم" حيث:

يا أيها الشهداء ملح الأرض أنتم والبذارْ

مذ كنتُمُ عادت إلى الدنيا طبيعتها

وكانَ البدءُ والإخصابْ

والإزهار والإثمارْ

عادت نحو مجراها الجبالْ

وتساقطَ الثمرُ الرديءْ

ويقول الشاعر هايل عساقله في "عرس" حيث:

نتلظى ودمانا تشهدُ

مطلع الفجر وقد لاح الغدُ

نحن لبينا فيا أرض اشهدي

لحمنا في كل درب يشهد

كم عقدنا مهرجاناً للضحى

من ضحايانا وقمنا ننشد

إنها الأرض، أرض فلسطين الحبيبة ويومها المشتعل أبداً بدم شهدائها.. ولأن الأرض مشغولة مزروعة بكل هذا العطاء الخصب، فلابد أن يكون يومها ممتداً حتى إشراقة شمس حرية لا تغيب...



المراجع والهوامش:

ـ اعتمدت الدراسة كمراجع لها الكتب التالية:

"الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني" ـ طلعت سقيرق ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1993...

"عشرون قمراً للوطن" ـ طلعت سقيرق ـ دار النمير/ دمشق 1996..

و"الانتفاضة في شعر الوطن المحتل" ـ طلعت سقيرق ـ دار الجليل/ دمشق ـ 1999..

*الفقرة عن كتاب "الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني"...
أعلى