محم ولد الطيب - دروب متعاوضة... قصة قصيرة

يقف كعادته وسط الجموع في-مهد حضارة الأندلس_ ينثر لهم ما انطوت عليه جوانحه من بقايا حضارته المنتثرة على صفحات التاريخ، لعلَّه يتمكن من انتشال بعض الغارقين الذين استهوتهم بهرجة المرئيات، فوقعوا في المستنقعات من حيث لا يشعرون.
يمشي في المدينة ويكلم الناس بعربية جزلة كأنها موروثة عن سيبويه، وذلك لاعتقاده الجازم أنها جزء من كيانه، وأنها لغة القرآن ولغة أهل الجنة، فكثيرا ما كان يردد عبارته "كيف أتخلى عن لغة أهل الجنة"؟
ورغم أن الأمر بالنسبة له كان عادة راسخة لا يداخلها تصنع ولا رياء، إلا أن بعض الناس كانوا يرونه شخصا غريب الأطوار، مستأسرا لماضٍ غابر ليس من الممكن استنساخه ولا استرجاعه.
خرج ذات صباح حاملا كتابه- ليس على عادته- مشيا على الأقدام دون سيارة، موجها وجهه شطر مكان عمله... يلقي التحية على كل من يمر به، ويساعد كل شخص سنحت له الفرصة بمساعدته.....فلما اجتاز باحة منزله ومشى لفترة وجيزة رأى جمعا من الناس وسمع جلبة عظيمة اختلطت فيها اللغات، فما إن اقترب منهم حتى سمعهم يتحدثون عامية عربية واضحة، لكن ما أثار استغرابه هو أن المبنى الذي خرجوا منه لتوهم قد انطبعت عليه عبارة " حانة الفردوس" فعز عليه الأمر، وأنف من مخاطبتهم، وأرجأ الأمر لكونه رآهم في حالة لو حدثهم فيها لما أنصتوا له ولما سمعوا منه، ولكونهم- فوف ذلك-يتخذون من القوانين الوضعية ملجأ، وحرية التصرف المطلقة التي تبيحها ذريعة لاقتراف كل ما تهفوا إليه النفوس، وعندها سيكون اعتراضه عليهم من باب التعدي على حقوق الغير.
فلم يجد بدا من المضي قدما إلى حال سبيله، وقلبه يعتصر ألما؛ تتجاذبه رغبتان كلاها أمرٌّ من الأخرى، إلى أن وصل مكتبته، فألفى رجلا يجلس أمامها، فألقى عليه التحية فردها بأحسن منها وزادها، ثم طفقا يتحدثان بالعربية الفصحى، وغير بعيد منهما تقف فتاتان بأزياء غربية، لولا العيون والقسمات التي تنضح بالعروبة الصارخة، فبدأتا تتهامسان من حيث يسمعان تهامسهما، فشرعت إحداهما تتهكم عليهما واصفة إيهاما بالمتنبي وسيف الدولة، بينما كانت الأخرى تبادلها الضحكات، ومن حين لآخر تلوي بطرفها إلى الرجلين وتقول في نفسها : لَكَمْ بلغ بهما الغرور حد تصدير لغتهما الميتة لهذه الربوع التي لفظتهم من زمن بعيد.
أنهى حواره مع صديقه بعد أن اتفقا على تنظيم لقاء مطول للنقاش المستفيض لبعض القضايا الهامة، ثم دلف إلى المكتبة-بعد أن ألقى التحية باحترام على الفتاتين- وجلس على مكتبه، وأمسك كتابا من السيرة النبوية، وبدأ يقرأ فيه كعادته، وما هي إلا دقائق حتى توافد عليه رواد المكتبة من أجل المطالعة، وكان من حسن حظه أنهم جلهم من بين العرب والمسلمين، ولكنه اندهش حين مر معظم الوقت ولا أحد من الرواد يطلب أي كتاب من جانب التراث الإسلامي- وهو الجانب الأضخم في المكتبة- فالكل منكب على الفلسفات الغربية والأدب العالمي، فقاده الفضول وحب الاستطلاع إلى أن يدنو من أحد الشباب الجالسين منهمكا في قراءة كتابه، ليسأله عن الأسباب الكامنة وراء كساد المنشورات الشرقية بالنسبة لهم....كان الشاب متوثب المشاعر مفعما بالحماس، مسكونا بالأفكار العلمانية، معتدا بعلمه وفهمه، فجلس بجانبه:
-السلام عليكم ورحمة الله.
- أهلا وسهلا بك سيدي.
-لأي كاتب تقرأ يا ولدي؟
- أقرأ لساتر ونيتشه، وهذا كتابه أفول الأصنام.
- ولمن تقرأ له من كتاب العرب والمسلمين؟
- يا عم إن المنشورات التي استنفدت مخزونها الرمزي في الماضي، لم يعد لها مكان في الحاضر.
-ولمن تقرأ له من فقهاء المسلمين وأنت بعيد عن وطنك؟
-علمني الأيام ألا أكثر القراءة للمتطرفين والإرهابيين.
اندهش المكتبي من كلامه الخطير ورميه للأوصاف دون دليل مقنع، لكنه كظم انزعاجه وواصل نقاشه معه:
- ما آخر عهدك بوطنك؟
- لم أزر وطني قط.
-حسنا، لدي دعوة من صديقي، ويسعدني أن تصاحبني فيها لعلك تستفيد، وتتعرف على بعض إخوتك هناك، فقد دعاني اليوم صديق عزيز، لزيارة مسجد الدعوة ويسعدنا بعد أن تعارفنا أن ترافقنا هناك.
فوافق الشاب بعد جدال طويل، وبدت له الفكرة مقبولة، ولما كان اليوم الموالي اجتمع الشاب و أمين المكتبة، وانضم إليهم الرجل الذي دعاهم، وانطلقوا في سيارة واحدة، وما إن وصلوا إلى المسجد، حتى سمعوا الإمام من مكبرات الصوت يتكلم، فأدركوا أن المحاضرة قد بدأت.
لكن الإمام كان يتحدث إلى بعض الشباب الغربيين قدموا لتَوهم بهدف اعتناق الإسلام، فأدرك الثلاثة القادمون من كلامه قوله مخاطبا الشباب بعد أن ترجم لهم مترجمة: عليكم أن تحددوا المذهب أو الطائفة التي ستدخلون الإسلام من بوابتها، فالإسلام دين يسع الجميع.
كان لهذا الكلام وقع شديد على أمين المكتبة الذي دخل مسرعا وتبعه صاحباه- على الرغم من أنه هو المدعو- وما إن وقف على الرجل وسلم عليه بنبرة حادة حتى استشف من ملامحه الانزعاج ...فأحد النظر إليه، وبدا له مألوفا، وتذكر جدالا حادا دار بينه وإياه في مكان لا يذكره، لكن أمين المكتبة تماسك لما أحس بحساسية الموقف وآثر السلام:
- السلام عليكم ورحمة الله يا إمامنا.
- وعليك السلام يا أخا الإسلام.
- سعدت كثيرا بدعوة صديقي لمسجدكم.
- نزلت أهلا وسهلا، وهؤلاء إخوتك قد دخلوا الإسلام على مذهبنا.
- وهل تدعون الناس إلى مذاهبكم أم إلى الله ورسوله؟
- ليس في الأمر تعارضا فيما أعلم.
-أليس الأولى أن تدعوهم إلى الإسلام قبل دعوتهم للمذاهب والطوائف؟
-نعم، ولكن الإسلام دين رحب، فإن كان في جوهره واحدا، فإنه في قلوب الناس متعدد، فلا تضيق واسعا هداك الله.
-ليس هكذا أفهم ديني.
وبعد ذلك سكت أمين المكتبة بعد أن استشعر ما قد يؤدي إليه خطابه من زرع الشك في قلوب هؤلاء الشباب ، وواصل الإمام حديثه إلى ضيوفه، وبقي أمين المكتبة وصاحباه في حيرة مطبقة، فكانوا إزاء موقفين كلاهما مر، فإن أبديا اعتراضهما على ما يقول الإمام، فربما زرعوا الشك وزعزعوا ثقة الشباب تجاه الإسلام، وإن سكتا سدا للذرائع فربما كانوا مساهمين في انحراف الشباب عن النهج القويم من أول لحظة، فلم يجدوا بُدًّا من الاستئذان والخروج دون أن تتم المهمة التي كانوا قد حضروا لأجلها.
وفي اليوم الموالي دخل أمين المكتبة إلى مكتبه ورأسه تعتمل فيه المتناقضات وله عزيمة قوية على تغيير الأوضاع، مسترجعا أطياف أجداده من المورسكيين، وما آلت إليه حياتهم في هذه البقعة، باحثا بين تضاعيف ذاكرته عن مرتكزات من شأنها أن تكون سندا له في مشروعه الإصلاحي.


محم ولد الطيب/ موريتانيا


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى