د. محمد متولي - الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية: (من ذكرياتي مع المعلمين)

كثيرا ما كتبت عن أساتذتي في دار العلوم، فرادى ومجتمعين، وذكرت فضلهم وأثنيت على أثرهم الطيب في نفسي، في العلم وفي اللغة وفي الحياة. لكنني أعود اليوم في الزمن قليلا لأتذكر أساتذتي من معلمي اللغة العربية في سنوات الدراسة الأولى، منذ الصف الأول الابتدائي وحتى الثانوية العامة، فلا شك في أنهم كانوا أصحاب الأثر الأول والأعمق في حبي للغة العربية وتعلقي بها. وهكذا أثرهم -فيما أظن- في حياة كل منا، ترغيبا في اللغة العربية أو تنفيرا منها!

1- الأستاذ محمد كشك: (الصف الأول الابتدائي)
رجل طويل القامة، نحيل البنية قليل اللحم، مدبب الأنف دقيق الذقن، كان يقيم في قريبتنا، حيث بيته وأرضه وزراعته، ولكنه كان «رشيدي» الأصل والنشأة. كان «نزيها» بمفهوم النزاهة بين فلاحي قريتنا، والنزاهة عندهم أناقة الملبس ونظافته، والاهتمام الزائد بالنفس وحسن المظهر، وكثرة الإنفاق على هذا الأمر بما لا يؤلف.. وكان من أمارات هذه النزاهة أنه لم يكن يحضر إلى المدرسة ماشيا على قدميه، كما يفعل أكثر الأساتذة والطلاب، بل يأتي إليها وبخاصة في فصل الشتاء، على جرَّار زراعي أنيق يملكه، ماركة «زوتر»، وكان يقوده بنفسه، وهو جرار حديث الصنع أحمر اللون مبهج يسر الناظرين.. وكان الأستاذ أنيقا في ملبسه، وربما ساعده على الظهور بهذا المظهر الأنيق طول قامته، ورشاقته، وخفة وزنه. ومن ملامح «نزاهته» كذلك أنه كان مغرما بالصيد، صيد العصافير واليمام ببندقية رش أنيقة لا تكاد تفارقه.
كان الأستاذ محمد كشك أول من علمنا ضرورة القيام للمعلم لتحيته عند دخوله الصف، وكذلك القيام للناظر والمدير والموجهين إذا ما دخلوا علينا فجأة؛ حتى دون أن يطلب منا ذلك! وكان فكها، ظريفا، مبهجا، عظيم النكتة، فهو لم يعلمنا القيام له ورد التحية بما هو مألوف، ولكنه عملنا ردا معينا على هذه التحية، فإذا ما دخل علينا وقال: «صباح الخير»، فعلينا أن نرد جميعا بصوت عال: «صباح النور، على البنُّور، يا أستاذنا يا أمُّور».
علمنا الحروف العربية كلها، وطريقة كتابتها ورسمها، وكيفية اتصالها بعضها ببعض في أول الكلمة وفي وسطها وفي آخرها. وربما بالغ في التعليم فكان يعلمنا علامات الضبط، الفتحة والضمة والكسرة والسكون، ويعلمنا كيف ننطق الحروف بها، على أن نرددها من خلفه بصوت عال بالحركات الثلاث، وكان مما علمنا على سبيل الظرف والتفكه -بحسن نية أو بسوئها- ضبط الطاء والظاء بالكسر، على أن ننطقهما متجاورتين متتابعتين في نَفَسٍ واحد عدة مرات، وبصوت عال يصل إلى الناظر في مكتبه! حتى يدرك الناظر اهتمام الأستاذ وحماسة التلاميذ!
وكان من طريف ما وقع لي معه في هذه السن المبكرة، أنه كان يطلب مني أن أقرأ الدرس، على أن يردد الزملاء ورائي، وكان من العبارات التي قرأتها ذات درس ولا أنساها: «أبي يعمل مُعلما وأمي تعمل طبيبة»، فكانت تغلبه -عند هذا المقطع- تلك الرغبة في المزاح، التي لا تفارقه، فيهتف هو نفسه بصوت عال: «ابن الطبيبة أهووه.. ابن الطبيبة أهووه»، ويطلب من التلاميذ أن يكرروها من خلفه، فكنت أبتسم، ويغلبني الحياء، وأتقبل الفكاهة -التي هي جزء من شخصيته- مُرغما، ثم أواصل القراءة ويواصل التلاميذ الترديد.
توفي الأستاذ محمد كشك، رحمه الله ورضي عنه، قبل سنوات، وبقيت في مخيلتي ملامح هيئته، وهيئة جراره الزراعي وبندقيته، وطريقة رسمه الحروف بالطباشير على السبورة، وبقي شيء عظيم من خفة ظله وفكاهته.
2- الأستاذ محمد قدري غانم (الصف الثاني الابتدائي)
عرفناه حين وفد إلى مدرستنا شاب أنيق، لم نكن قد رأيناه من قبل في العام الماضي، فقد انتقل إلينا حديثا -فيما سمعنا- من مدرسة كوم دميس الابتدائية، ونحن في بداية الدراسة بالصف الثاني الابتدائي، فكان معلم الصف. وكان أبرز ما لفت نظرنا إليه هو أناقة مظهره وحسن خطه، وقد أدركنا براعته في الخط من الشبه الكبير بين طريقته في رسم الخط العربي على السبورة، وتلك الأسطر المخطوطة بخط النسخ أو الرقعة في كراسة الخط التي تسلمناها مع الكتب المدرسية. كان ماهرا كل المهارة في الخط العربي، حتى إنه كان يكتب اللوحات التي تعلق على جدران الفصول في المدرسة كلها، وكانت تُوكل إليه كذلك مهمة كتابة العبارات الرائقة والحكم وأبيات الشعر على جدران المدرسة وشرفاتها.
علمنا الأستاذ محمد قدري فن الإملاء، وكان يشتد علينا في تعلمه ويعاقب المخطئ بعدد من العصي يكافئ عدد الأخطاء، وقد نلت شيئا من هذا العقاب في أول الأمر، فقد كان حين ينتهي من الإملاء، يجلس على مكتبه الأصفر في مواجهة الصف، ويطلب إلينا أن نخرج إليه متعاقبين كل يحمل كراسته، ليصححها له، وكل ينتظر مقدار ما ينتظره من الثناء أو العقاب بحسب مدى إجادته. فكان يطلب إعادة كتابة بعد الكلمات التي أخطأ فيها التلميذ، وإذا كثر عدد الكلمات الخاطئة، يكتب بالقلم الأحمر «تُعاد»، أي على التلميذ أن يعيد كتابة نص الإملاء كاملا.
كنت أقف في جواره أنظر بعينين زائغتين واجب القلب وهو يقرأ ما كتبت، وأرجو ألا يقترب بقلمه الأحمر من الكراسة؛ لأنني أوقن أنه إذا ما وضع قلمه الأحمر فيها، فهذا يعني أنه سيصحح إحدى الكلمات، وهذا يقطع بأن لي نصيبا من العقاب! ظلت الحال كذلك، حتى جاء يوم كنت وافقا فيه هذا الموقف المهيب، الأستاذ يقرأ وأنا أرقبه متوجسا، أمر معه بعيني على السطور والكلمات، وقلمه مرفوع لم يقرب الصفحة بعد، فكنت أشعر ببعض الاطمئنان أو يذهب عني بعض الخوف كلما مرَّ سطر دون تعليق أو تصحيح، حتى إذا ما رأيته وكان قد أوشك على الفراغ من القراءة، يقترب بقلمه من الصفحة ليكتب شيئا، فعندئذ وجب قلبي وجيبا شديد، واقتربت لأقرأ ما كتبت متوقعا العقاب، فإذا به يكتب «ممتاز»، كتبها بقلمه الأحمر الأنيق، ووضع الدرجة كاملة عشرة على عشرة، ونجمة!
عندئذ رجعت إلى مقعدي سعيدا مزهوا بما حققت، وقد ذهب عني الخوف، وزاد في سعادتي أنه طلب مني أن أصحح لزملاء الصف الذين كثرت أخطاؤهم في الإملاء!
عدت إلى البيت سعيدا مغتبطا، وكان قد طلب منا في الواجب المنزلي أن نكتب إحدى قصار السور خمس مرات، وأظنها كانت «سورة النصر»، فأردت أن أظهر المهارة، فكتبتها عشر مرات لا خمسا، كتبتها جميعا في صفحة واحدة، بخط صغير أنيق، فأعجب بصنيعي في اليوم التالي كل الإعجاب، ووضع 10 / 10 على كل مرة من المرات العشر التي كررت فيها كتابة السورة!
وإن أنس فلا أنسى ذلك اليوم الذي فاجأني فيه وحدي من بين زملاء الصف جميعا، بدعوتي إلى الاشتراك في «مسابقة الوعي القومي» التي ستعقد غدا في إحدى مدارس القرى المجاورة، وكان أكثر المشاركين في الفريق من كبار التلاميذ من أصحاب العلم والفضل من طلاب الصف الرابع أو الخامس، وقد أدهشني أن يضمني إلى الفريق وأنا في هذه السن المبكرة في الصف الثاني الابتدائي، فما عسى أن يعرفه تلميذ في الثامنة من عمره عن الوعي القومي! لكن هذا الموقف كان له أعظم الأثر في زراعة الثقة في نفسي، بغض النظر عن نتيجة المسابقة في ذلك اليوم. فله الشكر والتحية على كل ما قدم وما يقدم من العلم والدعم والفضل، وبارك الله في عمره، وأسعده.
3- الأستاذ عبد الرؤوف فتح الباب (الصف الثالث الابتدائي)
توفي الأستاذ عبد الرؤوف رحمه الله وغفر له قبل أيام قليلة، وكان معلمنا في الصف الثالث الابتدائي، كان إنسانا نبيلا، طويلا بدينا فارعا، محبا لعمله، وكان حسن الخط، على نحو مختلف عن خط الأستاذ محمد قدري، فقد كان خطه جميلا، لكنه كان خطا خاصا به يحمل سمات خطية ينفرد بها، أما الأستاذ محمد قدري فكان خطه يميل إلى المعيارية وهو أقرب إلى الاحتراف.
كان للأستاذ عبد الرؤوف من اسمه نصيب كبير، فقد كان ودودا رحيما، يألف ويؤلف، وأذكر أننا كنا نحبه نحن الطلاب ونأنس إليه، ولم يكن يسارونا الخوف منه مثلما كان شأننا مع أكثر الأساتذة. درسنا معه كثيرا من دروس القراءة والقصص الدينية بإتقان شديد، حتى إنني لأذكر الآن الصور واللوحات التي كانت مرسومة بجانب النصوص في صفحات الكتب، وأذكر طريقة كتابته على السبورة.. فرحمة الله ورضوانه عليه.
4- الأستاذ نجيب دبل (الصف الرابع والخامس الابتدائي)
حضر إلينا الأستاذ نجيب ونحن في الصف الرابع الابتدائي لتولي تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية، وكان تخرج لتوه في دبلوم المعلمين. كان من القرية الكبيرة التي تتبع لها عزبتنا الصغيرة، وكان صارما جادا عليه سيماء الوقار. لم يكن يكتفي بالحصص المقررة في جدوله الدراسي، وإنما كان يضطرنا قبيل الامتحان إلى الحضور قبل الطابور ليدرس لنا ساعة أو ساعتين أحيانا، وكان الأمر كذلك بعد انتهاء اليوم الدراسي، يواصل العمل ويراجع ويعيد ويزيد! ولم يكن أحد يستطيع التغيب عن موعده؛ لصرامته! حتى إنني كنت أشق الظلام الذي لم ترفع أستاره بعد الفجر، وكنت طفلا في العاشرة أو الحادية عشرة، لأقطع كيلو متر أو يزيد، والكلاب تنبح على جانبي الطريق بين الحدائق والحقول في رعب عظيم! لكن رعب الكلاب كان أهون على من لهيب عصا الأستاذ إذا ما تغيبت!
نصل إلى المدرسة فيعيد علينا قبل الامتحان شرح نص شعري عن «النيل» لأحمد شوقي، أو عن «الطفولة» لأبي القاسم الشابي، أو يراجع حروف العلة، وأنواع الخبر. لم يكن يتقاضى على ذلك أجرا، وما زلت أسأل نفسي ما سر هذا الذي كان يصنعه معنا! ولكن السر من غير شك أنه كان يحب عمله.. والمرء حين يحب عمله يجد له حلاوة لا يعدلها شيء.
في الواجب المنزلي، كان يطلب إلينا إعادة كتابة نصوص القراءة والنصوص الشعرية عدة مرات، وكذلك النصوص القرآنية المقررة، وأزعم أن هذه الطريقة ناجعة في إكساب النشء مهارة الكتابة وكيفية صوغ الأساليب العربية الصحيحة، وقد كان لها أبلغ الأثر في نفسي وفي قلمي منذ الصغر.
كان إذا انتصف النهار ونحن في الفصل، يطلب من كل من كان بيته قريبا من المدرسة أن يصطحب زميلا له أو زميلين من أصحاب البيوت البعيدة، ليتناولوا الغداء معا، ثم نعود إلى المدرسة لمواصلة الدراسة حتى قبيل المساء!!
ومن العجيب العجاب أنه كان يجمع منا أوراق الأسئلة بعد كل امتحان! أتدرون لماذا؟ كم هو عجيب والله ذلك الأستاذ! إنه يجمعها ويحتفظ بها، للعام القادم، ليقدمها للطلاب الجدد مادة تجريبية على الامتحان، وكان يجمعها حتى لا يكلف كل واحد منهم خمسة قروش هي قيمة التصوير! وكان قد صنع ذلك معنا، فقد عقد لنا امتحانات تجريبية كثيرة، لم تكن إلا أوراق أسئلة جمعها من طلاب السنوات السابقة!
ولم يكن يدفعنا إلى جمع قروش قليلة إلا إذا مرض أحدنا، فنجمع من الصف كله ثلاثة جنيهات ونصف هي قيمة علبة صغيرة من الشيكولاتة أو البونبوني، يحملها خمسة وثلاثون تلميذا ويذهبون بها إلى بيت زميلتهم أو زميلهم المريض.. وقد حملوا إليَّ مرة هذه الشيكولاته ذات نوبة مرض، عقب انتهاء يوم دراسي كنت قد تغيبت فيه، فدفعوا بها إلى وولوا مدبرين.
لقد ترك هذا الأستاذ في نفسي أبلغ الأثر.. ولم يقتصر أثره على حب العلم والعلماء والمعلمين فحسب.. وإنما امتد إلى ضرورة زراعة القيم النبيلة والأخلاق الكريمة في نفوس الناشئة من الطلاب! فبناء النفس والعقل أعظم ما يقوم به الأستاذ !
وإلي لقاء قريب مع حديث عن بقية الأساتذة في المرحلتين الإعدادية والثانوية:
5- الأبلة ميرفت عُقَد (الصف الأول الإعدادي)
6- الأبلة زينات حسين (الصف الثاني الإعدادي)
7- الأبلة محاسن (الصف الثالث الإعدادي)
8- الأبلة سكينة شحاته (الصف الأول والثالث الثانوي)
9- الأستاذ محمد دُرة (رحمه الله) (الصف الثاني الثانوي)
فمعلمو اللغة العربية هم أعظم الناس أثرا في بناء نفوس الطلاب وفي تنشئتهم.
.................



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى