خالد أبو خالد - للسيدةِ الكنعانيةِ أرفعُ هذا النخب

للسيدةِ الكنعانية .. وجهٌ من شفقٍ ..
وقناعٌ من حجرٍ .. أثريّْ
وجهٌ من ثمرِ الغيبِ ، ومن جارحةِ الطير عصيٌّ .. وشهيّْ ..
وعيونٌ ملآى بالعشقِ ...
وحافلةٌ بطيورٍ تغتربُ إلى زمنٍ مهدورٍ ..
ويبابٍ ..
ودخانٍ ..
وضنى ..
للكنعانية سحرٌ عصبيّْ
ذاكرةٌ تختزنُ جوى ..
وهوى ..
ومآتم تتزاحمُ
وخبايا خاويةٌ من أحبابِ القهوةِ
والمهباشِ البدويّْ ....
عامرة بالقصبِ ..
وبالسّغبِ ..
وبالولعِ بتذكاراتِ الكارثةِ
وبالخوفِ من الإسمنتِ ...
من الإسفلتِ ..
من الشجرِ العاقِر ..
والعبثِ ..
وإيقاعِ الرقصِ ...
من الرغبةِ ...
والضجَّةِ ...
والأقبية الرطبةِ
والآلاتِ الحاسبةِ .. وأسواقِ العالمِ والشركاتِ المتعدَّدة الجنسياتِ ..
الخوفُ من اليقظةِ والنومْ ..
السيدةُ الكنعانيةِ لا تثقُ الآن بأيًّ ممنْ خذلوها بين الوثبةِ والوثبةْ ..
لا تثق بأيِّ سلاحٍ أو جرحٍ يلمعُ ... أو شيءٍ يلمعْ ..
تعرفُ أنَّ الصحراءَ تخادعْ ..
لكنْ حينَ تجيءُ إليَّ تحدَّقُ غيرَ مصدَّقةٍ .. وتَفِرُّ إلى ضاحيةٍ
ساكنةً.. تتقلَّبُ
تسمعُ بعضَ الموسيقى ..
تمشي ..
تنشغلُ بترتيبِ المقتنياتِ الأجدى ..
وتخَطَّطُ لليومِ التالي ..
تطعمُ عصفورينِ ..
وتظلمُ عصفورينِ
وتشعُر بالذنبِ ، وبالحبَّ ، وتتَّسعُ الليلَةَ للحلمِ
وتهتفُ ..
بينَ اللحظةِ .. واللحظةِ .. للذاتِ وللقلبِ ..
يؤرَّقها الهاجسُ .. تقسمُ أنَّ الدارةَ مغلقةٌ .. تنفجرُ على عصبي
تتناثرُ تحتَ يديَّ ..
وتحتَ عقاربِ ساعتها
فأجمَعُها .. بينَ الرئتينِ .. وأُسْكِنُها قلبي .. كالعادةِ
حينَ تغيبُ وحينَ تعودُ على تعبٍ .. وسنى ..
للسيدةِ الكنعانيةِ شعرٌ مضفورٌ بالبين ، وبالمشطِ النفطيّْ ...
ولها قلبُ نبيًّ ينزفُ مغفرةً ..
ويطيرُ ..
على شجنٍ .. وأسىً يتقطَّرُ في الحبرِ ، وفي المطرِ
يَدق على أبوابِ معادلةِ الجبرِ
يعودُ إليَّ ..
بوجهٍ كالخبزِ ...
وكالجوعِ ...
وكالنورِ ...
وكالفيّ ...
يا أيَّتها الكنعانيةُ
نخبكِ أرفعُ كأسي .. وقرنفلتي ..
نخبكِ أرفعُ جرحي للنجم ..
وقلبي للهمَّ ..
وصدري لفريقِ الإعدامِ
وأشربُ من " عينِ السيلة "* دمعاً
ونبيذاً
كدمي
كالجرسِ الآتي من برجِ القدسِ
دمي ..
كيفَ وجدتِ نبيذي ؟ ..
- كأسٌ تكفي ..
أتثاقلُ فوقَ سحابٍ كالقطنِ .. وأبكي ..
- استيقظتِ الطفلةُ نشوى ببريقِ السكينِ
الطفلةُ تذبحُ ... أو ترقصْ ..
أدعوها للنومِ .. تنامُ على كتفي .. تستيقظُ ..
تفتحُ عينيها ...
وترى الكأسَ الفارغةَ ... إلى النومِ تعودُ
وكفِّي تتحَسَّسُ حزنكِ ..
يا سيَّدةَ الحزنِ - وصمتكِ - ..
يشربني ..
يحميني صمتكِ ..
أو يقتلني ..
يا سيِّدةَ الصمتِ الواعدِ .. والبوحِ
ويا سيَّدةَ السنواتِ الصَّعبةِ
والمطرِ الورديَّ الفوارِ.. الشاعرِ..
فوري ... ...
إنّي في وجهكِ قدرٌ كالبحرِ المتوسطِ ..
كالنيلِ ..
وكالجبلِ الكنعاني ..
كصحراءِ النقبِ .. وكالسهلِ (العرّابي)
وكالأرغولِ على صدرِ الدبكةِ .. .. ...
وكالصبَّرِ أجيئكِ يا سَيِّدة الصبارِ..
وثيدَ الخطَوِ ..
وكالبرقِ ..
كحَدَّ السيفِ
وكالدهشةِ ..
والشهقةِ ..
أنتِ غناءٌ يعبرُ بواباتِ العالمِ .. تطريزٌ كنعانيٌّ..
ثوبٌ لا أبهى ..
يتكسَّرُ فوقَ تضاريسِ الدنيا ...
يسطعُ قمراً فضَّياً كقلادةِ أمي ...
أو كوسامٍ يحمله الشهداءْ ... ...
أكتبُ من دمنا .. من حجرٍ يحضَرُّ بأسدود، ويورقُ ..
من لؤلؤةٍ في بالِ الغواصِ البحرانيّ الموصولِ ..
بقلبِ حبيبتهِ .. وهو يقاتلُ سمكَ القرشِ
ويصعدُ في صخبِ الموج إليها ..
أصعدُ ..
فوري ..
يا سيَّدةَ اللؤلؤ ..
يا سيَّدةَ الأوسمةِ المُرَّةِ ..
وائتلقي ..
عرساً في البرَّ ..
وفي البحرِ ..
وفي الأمدِ البكرِ الطالعِ من نسغِ الزهرِ الشتويَّ ...
وفي البرهةِ كالسيلِ ..
النجمُ يحاورُ نجمتهُ ...
يا سَيِّدةَ الأنجمِ ...
_ ماذا في الصحفِ اليومَ .. ؟
ماذا حّلَ بأهلي .. ؟
_ انتفضَ الطلابُ ..
العمَّالُ ..
العلم يرفرفُ .. في وجهِ الرشَّاش .. الصبيانُ .. الفتياتُ .. الشجرُ
_ ولا وطنٌ يكبرُ في العرب ، ويعبرها ..
إنَّ فلسطينَ الوطنُ .. الأقربُ
والأبعدُ ..
والاسم الحركي لهذا الوطنِ العربيَّ
ولا ينهضُ من دمنا .. لا ينهضْ
يا سيَّدتي ..
استوطنَ منكِ شجاعتكَ القصوى ..
الفرحُ الآتي ..
المّوالُ المجرورَ ..
على أكتافِ المدنِ .. استوطنتكِ أيتَّها الكنعانيةُ ..
لا غربةَ بعدُ ..
ولا سفرٌ ..
يا سيَّدة الفرحِ .. ويا سيَّدة المأساةِ ...
امتلأت كفَّي بالعسلِ الجبلي .. وبالضوءِ الأسمرِ ..
يا سيَّدة الضوء ..
اندفقي .. وأضيئي الأغوارِ ..
الشطآنِ ..
وبيسانَ ..
العتمةُ قاتلةٌ ...
بعضُ الضوءِ .. وأطلع للأحباب دليلاً في الكتبِ ..
وفي الأرضِ ..
وفي الناسِ ..
وناراً .. .. ..
يا سيَّدةَ النارِ ..
الفولاذِ ..
الصخرِ ..
وسيَّدةَ الشجرِ المترعِ بالخمرِ الكنعانيةِ ..
- أرفعُ كأسكِ ..
نشربُ من كأسٍ واحدةٍ ..
ونؤجَّل بعضَ بكاءٍ مرتعشِ في القلبِ وفي العينينْ ... ...
- الليلةَ بردٌ .. يا سيّدتي ..
- الليلةَ بردٌ فعلاً ..
- ادّثري ..
... وعيونكِ متعبةٌ
- أخجلُ من تعبي ..
- لا بأسَ .. ونامي بعضَ الليلِ ...
- رغبتُ ولكنْ
آهٍ يا سيَّدةَ الزيتونِ الكنعاينةَ ..
ظَلَّي وارفةً كالليلِ ..
وكالمطرِ العاشقِ ..
كالألقِ ..
ويا سيَّدةَ الفجرِ ..
الفجرُ امتشقَ البارودَ
الغربةَ ..
والعزلةِ ..
أسلحةً .. ومضى للحربْ .. ..
الرحلةٌ تزرعُ دربَ القلبِ عذاباً ..
وشباباً ..
وعتابا .. .. ..
يا سيَّدةَ الليلِ الوحشِيَّ ..
الغجريَّ ..
قميصي لو تدرينَ .. يحبُّ قميصكِ .. لو تدرينْ ... ...
نتبادلُ بعضَ الكلماتِ ، وبعضَ الصمتِ ، وبعضَ التبغِ ...
نجوُع فنأكلُ بعضَ الخبز، وبعضَ الملحِ ، وبعضَ الحلمِ ، وبعضَ القبلِ ...
الكتفُ إلى الكتفِ .. القلبُ إلى القلبِ ..
- الطبلُ الإفريقيُّ ..
الجازُ ..
الرشاشُ ..
القصفُ ..
اختلطَ اللحمُ ..
الأعصابُ احترقتْ والنومُ
ورّفَ حمامٌ في الأفقِ الغائمِ يخفقُ .. يهدلُ ..
ثمُّ يهاجرُ منسلاً ..
يتشَّردُ في المدنِ القاسية ..
الردَّة تذبحنا ..
نتدفَّقُ
- يا دمنا ..
- يرسم للعشاقِ دروباً
وبنادقَ
يا سيَّدتي
حينَ يودَّعُ واحدنا الآخر .. يا سيَّدتي ...
تفجؤنا التلويحةُ ..
ما نلبثُ نتلاقى .. ثم نُشرَّدُ ..
لكنِّي في الجسدِ الكنعانيَّ أحلُّ ..
وفي شرياني الفرسُ الكنعانيةُ
يا سيَّدةَ الخيلِ ... ...
تصيرُ الحمحمةُ صهيلاً ..
والخببُ طراداً ...
أتنشُّقُ رائحةَ الصَّوانِ .. و يلسعُ عيني الشَّررُ ..
الأرض وأنتِ النارُ ...
أنا والأرضُ ..
وغاباتٌ للغارِ .. ونمضي ..
يا سيَّدةَ الغارِ ... ...
سيَّدتي ...
إنَّ بذهنك شيئاً .. كالذكرى .. كالندمِ .. وكالخوفِ ..
كخاطرةٍ عجلى .. قولي .. الدفلى سمٌّ .. وجميلٌ زهرُ الدفلى ...
- لا شيءَ ...
- على شفتيك الكلماتُ ..
القلقُ ...
الأرقُ ..
الحذرُ ..
- الغضبُ ..
الطرقُ محملةٌ بالليلِ ..
وبالشوكِ ..
وبالقارِ ..
وبالعارِ ..
انتبهي
- هذا الزمنُ العربيُّ القاتلُ ..
بائعُ وطنِ الثوارِ ..
وآكلُ لحمِ الثوارِ .. ..
- كمْ ساعتك الآنْ ..
- الساعةُ لا تعملُ بعدَ القصفِ ...
انفجرتْ بيروت .. انفجرتْ نافذةٌ
والزمن العربيُّ .. القاتلُ والمقتولُ ..
أنا .. والخيلُ ..
وأنتِ
- أحبُّكِ سيَّدتي ..
الفارسُ يحملُ جرحكما .. ويغادرُ فوقَ تخومِ المدنِ ..
ويلقي ظلَّ عباءتهِ فوقَ الأنهارِ ، يسيرُ على خارطةٍ ..
من ورقٍ ..
ودمٍ ..
وسماءْ ...
- يا ...
صوتُ حبيبي لا تفجعني ..
- أتوجَّعُ قربَ الهاتفِ .. أتلوَّعُ
- أو قربَ المذياعِ – اللعنةُ - لا يأتي الخبرُ العربيُّ – اللعنةُ -
يتناولُ بعضَ الكتبِ ...
الأوراقَ ..
ويكتبُ .. يقرأ سطراً في التاريخِ ..
وتدمعُ عيناهُ .. يدخَّنُ .. تدمعُ عيناهُ
ويصرخُ في داخلهِ .. الوهنُ .. الإحباطُ .. العفنُ .. الثورةُ
لا يأتيكِ ..
ولا تأتينَ إليهِ ..
يُفَرَّقُ بينكما الوطنُ الضَّيقُ
تجمعُ بينكما الغربَة ..
يا وطنَ الحبِ أغثنا ..
القهرُ بيادر غلَّتنا ..
وحصادي صادَره قُطَّاعُ الطرقِ ..
فلو أنَّي سيَّدتي قاطعُ طرقٍ ..
لقطعتُ عليكِ الدربَ إلى الغربةِ .. أو لقطعتُ عليكِ الدربَ إلى اللغةِ الدارجةِ ...
الصحفِ اليوميةِ .. والأسبوعيةِ .. والمذياعِ الكذَّابِ .. لو انّي سيَّدتي ..
أقطعُ دربكِ .. أعطيكِ الجمرَ .. وبهجتهُ .. لوْ .. ..
لكنْ تحتَ رمادي مرحلةٌ ملآى بالموتِ ..
وبالصمتِ ..
وتحتَ عَباءَتِنا الصَّوتُ المختنقُ
ونمضي ..
نعزفُ .. نطلقُ لحنَ اللهِ الأرضيّ رصاصاً ..
ونحاساً ..
وعيوناً تلمعُ ..
- قولي شيئاً
- ماذا ؟
يا عمري .. أنتِ يمامتي الحرَّةُ .. والبركانُ ...
أودَّعكِ ..
وأنتِ مصيرُ العاشقِ ..
والحبُّ الدائمُ أنتِ .. الأزلُ ..
الأبدُ ..
الواحدُ ..
والأحدُ ..
فماذا أعطيكِ ؟
الخاتمَ والنهرَ ..؟ الخرزَ الأزرقَ .. ؟ والشعرَ .. ؟ الآهاتِ .. ؟
- ... ...
البحرُ يجيءُ البحرُ ..
الشمسُ .. الأحراشُ ...
الجزرُ ..
المرجانُ
احتفلي يا سَيِّدةَ البحرِ ..
ويا سيَّدةَ السفنِ ..
ويا سيّدةَ الشمسِ ..
ويا سَيِّدة الجزرِ ..
ويا سيدّةَ الأحراشِ ..
ويا مَرجانةَ سيفي ..
البحارةُ آتونَ .. يغنّونَ ..
احتشدوا بينَ البحرِ .. وبينَ النهرِ ..
اشتعلوا ..
بينَ دمي .. ودمي .. تشتعلينْ ..
أنتَ تناديني باسمي .. فاحذرْ ... ...
أتحدثُ كالمستقبلِ ...
كيفَ المستقبلُ .. ؟ كيفَ نصيرُ وكيفَ نكونْ .. ؟
- فليكنِ الآنَ الوعدُ المكتوبُ لنا بالوردِ ..
أو الليمونِ ..
أو الزيتونِ ..
المكتوبُ على الورقِ الزعترِ
والعشبِ البريَّ
المكتوبُ على الرملةِ ..
والرملِ ..
الصبرِ
العطشِ المعلنِ
والعطشِ السريّْ
فكوني كالبيرقِ معلنةً .. كوني ..
كالأرزةِ فوقَ الجبلِ الثلجيّْ ..
كبيتِ اللاجئِ كوني لي .. وأكونُ
انتظري وانتصري ..
لا يخشى عابرُ نهرِ الأردنِ الغرقَ ..
ولا يخشى من يمّمَ شطرَ فَلسطينَ الموتْ ..
يا سَّيدتي الكنعانيةَ ..
سَّيدةَ الدمعِ .. وسَّيدةَ الماءِ ..
الريحِ ..
العاصفةِ ..
الإعصارِ ..
الصاعقةِ ..
اقتربي ..
إنَّي ألثُم فولاذاً مشحوناً بالدمَّ ..
ونلتصقُ الآنَ
الصدُر إلى الصدرِ
انتفضي ..
أتلمَّس وجهكِ
- من أنتْ .. ؟
أحبكِ أكثرَ من إغراء الغربةِ ..
أو إدمانِ الفرقةِ ..
إنَّ بلاداً جائعةً للخبزِ ..
وللحبَّ
انتشرتْ فينا ..
ومواقدنا اشتعلتْ للعيدِ القادمِ ..
والقاصرُ تتلَّوى بين رغيفٍ
ورصيفٍ
وجدارٍ ..
ومدارْ ... ...
فالصوتُ صدى ...
والموتُ مدى ... ...
ما بينَ الغيمةِ .. والأشجارْ
ما بينِ الخاطرِ والأنهارِ
الشوقُ ...
التعبُ ...
النورسُ .. ...
يا سيَّدتي الكنعاينةَ ..
يا سَّيدةِ الأنهارِ ..
الأجملُ .. والأروعُ .. والأغنى .. والأكملُ .. والأبهى ...
والأبعدُ .. والأقربُ
أنتِ ...
وفيكِ .. الأغنيةُ
ترابٌ ..
ودمٌ
وندى
ماذا تنتظرينَ ..؟ ابتدأَ العدُّ العكسيُّ ..
- العاشرةُ ..
التاسعةُ ..
الثامنةُ ..
السابعةُ ..
السادسةُ ..
الخامسةُ ..
الرابعةُ ..
الثالثةُ ..
الثانيةُ ..
الواحدةُ ..
الصفر ..
- انفجري .. انفجري .. انفجري ... ... ...
فالوقفةُ ضائعةٌ سَيِّدتي الكنعانيةَ ...
ضائعةٌ ...
وسدى ... ... ...


(بيروت 8/12/1980)



[HEADING=2][/HEADING]

تعليقات

للسيدة الكنعانية التي أنجبتك و تنجب أمثالك نرفع النخب...و تستحق أن نفعل ذلك من أجلها.
أدخلك الله الجنة ،و أمطر ضريحك بشآبيب رحمته.
 
أعلى