أدب السجون محمد حساين - ثقب في فراغ

وقف، ظهره إلى الجدار البارد، عيناه إلى السقف الذي رسمت عليه الرطوبة بالرمادي والأسود لوحة عفنة.
"الحبس ديال الرجال" !!!
من هذا الغبي الذي قال "الحبس ديال الرجال"؟ لو صادفه لقال له أن في السجن الكثير من النساء بل هن أكبر عددا من الرجال، كل سجينة وكل سجين، حين يستقر وراء الأبواب المصفحة، يأخذ معه أمه وزوجته وأخته وربما خالته وعمته وجدته، يكبلهن بواجب الزيارة وال"القفة" والحب ويدخلهن السجن...
وقف وظهره إلى الجدار البارد،
قصته انه كان على لائحة يطلبها البوليس، وقبل أن تقنصه الشرطة اختفى وظل هاربا محتجبا إلى أن تعب من حال كان فيه، خوفا من الاعتقال، في سجن وكان في هذا السجن، في نفس الوقت، هو السجين وهو السجان.
سلّم نفسه، بعد أن رتّب ما رتّب واستعد كما يستعد المتقدمون لامتحان وأقسم أنه إن لم يكن الحكم لطيفا ليهربن ثانية مهما كان.
قبل أسابيع وضعت محكمة الاستئناف نهاية لماراطون التحقيقات والجلسات والمفاوضات والأمل في السراح والأمل في اللطف والأمل في المحامي، والأمل في السورسي والأمل في "الوجوه" والأمل في الطاهرين والأمل في المرتشين والأمل في أن يكون كل هذا السفر على سكة "المساطر" الجنائية مجرد كابوس ينهيه صوت المؤذن أو الديك أو الوالدة أو رنين المنبه المرتعد قرب السرير.
هو الآن في السجن نزيل له بطاقة الإقامة الطويلة الأمد.
أول محاولاته الهرب، قبل أسبوع، أضحكت الحراس للسذاجة التي طبعتها وأغضبتهم وأعطتهم مشروعية وضعه في زنزانة انفرادية عقابا له وتنكيلا به.
السجن الانفرادي سجن داخل السجن.
السجن الانفرادي قاس نهارا رحيم ليلا،
قاس حين يزدحم الكلام في الصدر ويموت اختناقا وحينما يشتاق السجين لوجهه فلا يجد المرآة التي هي عيون السجناء.
رحيم ليلا، إذ من هذا الذي في الحبس له امتياز النوم في غرفة لا يضايقه فيها أحد، من يمتلك، دون شريك أربعة جدران وكوة شمس وثقب مرحاض ومصباحا وصنبور ماء؟
قاس السجن الانعزالي حينما تشتاق لمن يشمك وتشمه ويعافك وتعافه وترثي لحاله ويتأسف لحالك، حين تشتاق لمن تجمع بينك وبينه صداقة السجناء وعداوة السجناء، لمن تساوي بينك وبينه الأسوار والفراغ الذي يقتل الوقت الفراغ.
قاس السجن ليلا ونهارا وضيّق مهما اتسع وقاتل للكرامة مهما احترم فيه حق الإنسان.
محاولتان للهروب من السجن وفشل في المحاولتين ولا زال التحدي لديه قائما ولا زالت نية الخروج قبل الأوان.
ليس هناك حل لمشكلة السجن إلا الخروج من السجن.
لا بد من مغادرة هذا المكان المتعدد الزنازين المقفلة والممرات الطويلة التي، كانها أعمدة فقرية، تفصل بين أجزاءها الأبواب والقضبان والأقفال والمفاتيح النحاسية الضخمة وحراس السجن الموظفون وحراس السجن السجناء.
لا بد من مغادرة هذا المكان الذي لا تُرى فيه النجوم التي لا تحصى وتحصى فيه كل يوم الرؤوس وتعد الشهور والأيام والساعات، كم مضى؟، كم بقي؟ كم يفصلنا عن الزيارة، كم يفصلنا عن القفة، كم الانتظار قبل سماع كلمة الخلاص "سمع سميتك للاكلاس".
لا بد من الخروج، لا بد من وسيلة للمغادرة...
ضرب الحائط بمؤخرة رأسه مرات وقرر الهرب فقام إلى كيس سبق وأن وضع فيه أداة الإفلات وأخرج كتابا ولاذ بالفرار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد حساين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى