إحسان عبدالقدوس - إضراب الشحاذين.. قصة قصيرة

كان الرجل الطيب المتدين قد تعود أن يقيم “خاتمة” في الليلة الأولى من كل رمضان يدعوا إليها كل الشحاذين الذين تعودوا أن يجتمعوا حول ضريح السيدة زينب ، فينحر لهم عجلين ، ويقدم لهم الأرز المطبوخ بكميات هائلة ، ويوزع عليهم مئات من أرغفة العيش .

وقد أعد لهم كل شيء لهذا العام .. وجلس ومسبحته في يده يتمتم باسم الله ، والمقرئون من حوله يتلون آيات القرآن في انتظار وصول الشحاذين .

ولم يبق على مدفع الإفطار سوى ساعة ، ولم يصل أحد من الشحاذين ، فأرسل الرجل الطيب خادمه ليستطلع خبرهم .. وعاد الخادم لاهثاً : وقال لسيده :

إن الشحاذين يرفضون المجيء !

ورفع الرجل عينيه دهشة ، وقال :

يرفضون المجيء !! كيف؟

وقال الخادم :

لقد وحدوا صفوفهم وعينوا محمد تكله الكسيح ، وأبو رابية المقطوع الذراعين ، والأجرب المشلول ، زعماء لهم .

وسأل الرجل خادمه وهو لا يصدق أذنيه :

وماذا قال لك السادة الزعماء ؟..

وأجاب الخادم وهو لايزال يلهث :

قالوا إنهم لن يلبوا دعوة سيدي إلا بشروط ..

وصاح السيد :

شروط .. والله عال .. لم يبق إلا الشحاذون .. ليذهبوا في داهية .. خسارة فيهم الأكل..

وتراجع الخادم من أمام سيده ..

وفكر السيد قليلاً.. لقد تعود أن يقيم هذه “الخاتمة” كل عام .. وهو يستبشر بها في تجارته ، ويحفظ هيبته وسمعته أمام أهل الحي كرجل صالح متدين .. و”الخاتمة” لا تتم إلا بوجود الشحاذين .. هؤلاء الكلاب .

ونادى خادمه مرة ثانية ، وسأله :

وماهي شروط الشحاذين ؟

قال الخادم : إنهم يطلبون بأن يمنح كل منهم عشرة قروش بجانب الطعام .

وقفز السيد من جلسته وصرخ ومسبحته ترتعش في يده :

عال سمحنا له دخل بحماره .. يريدون أن يخربوا بيتي ، الكلاب!

وقال الخادم في خوف :

إنهم يقولون إن سيدي غني ، ولن يضيره أن يجود على كل منهم بعشرة قروش …

وعاد السيد يصرخ :

ولا مليم .. في ستين داهية !

وهم الخادم بالانصراف ، فاستوقفه سيده قائلاً :

اذهب وادعُ شحاذين آخرين .. الشحاذين الواقفين عند جامع الحسين !

وقال الخادم في أسف :

لن يأتي أحد منهم ، فقد علمت أن الشحاذين قد قسموا المناطق بينهم .. ولا يمكن أن يتعدى شحاذوا الحسين ، على شحاذي السيدة !

وهز السيد رأسه ، وهو يردد :

لا حول الله .. الدنيا خسرت .. باظت .. لم يعد في الدنيا مكان للخير !

** *
وأطرق برأسه وعاد يفكر .. سيظل طول العام متشائماً .. لن تروج تجارته .. وسيفقد هيبته وسمعته كرجل تقي .. ولن يستطيع أن يمر في طريق ، سيشير إليه الناس ويقولون هذا الرجل الذي رفض الشحاذون أن يدخلوا بيته ورفع رأسه وقال للخادم في ضعف :

اذهب وقل لهم إني مستعد أن أجود على كل منهم بخمسة قروش .. اذهب حالاً .. وخذ سيارتي توصلك ، فلم يبقَ على مدفع الإفطار سوى نصف ساعة .

وذهب الخادم مهرولاً ..

ولكن السيد لم يسترح .. لم يطمئن إلى أن الخادم سينجح في مهمته ، فنادى ابنه وقال له : إن هذا الخادم غبي ولن يستطيع شيئاً ، اذهب أنت ، وعُد بكل الشحاذين سريعاً .

وذهب الابن إلى مسجد السيدة ، ووجد الشحاذين مجتمعين هناك حول محمد تكله الكسيح وأبو رابية المقطوع الذراعين ، والأجرب ..

وصرخ فيهم الابن بلهجة السيد :

ماذا تنتظرون ، لقد أراد كرم والدي أن يجود لكل منكم بخمسة قروش خلاف الطعام :
ارتفع صوت أحد الشحاذين
نعم .. لنذهب .. هذه فرصة ونعمة!

وصاح تكله الكسيح وهو يمط عنقه من فوق اللوح الخشبي ذي العجلات الصغيرة الذي يجلس عليه :

لا لن نذهب إلا إذا أجيبت طلباتنا كاملة ..

وصاح أبو رابية المقطوع الذراعين وهو يهز رأسه مستعيضاً بها عن ذراعيه :

لنتمسك بوحدتنا .. عاش التضامن!

وردد الشحاذون هاتفين :

عاش التضامن ..

وقال الأجرب المشلول وكل قطعة من جسده ترتعش :

إننا نطالب بحقوقنا في مال الأغنياء .. والكرماء محتاجون للشحاذين ، بقدر حاجة الشحاذين للكرماء ..

لولا الشحاذون لما كان هناك كرماء .. فتمسكوا بموقفكم .. فمطالبكم حق !

وهتف الشحاذون في أصوات قبيحة مبحوحة :

مطالبنا حق .. يحيا الحق !

وشعر ابن السيد بالخوف .. وزكمت الرائحة النتنة أنفه .. رائحة الشحاذين .. وبدأ يحس بالغثيان .. فخطا خطوات خارج حلقة الشحاذين .. خائفاً ، مذعوراً، قرفان ..

وقبل أن يبتعد عنهم ، إذا بسكرتير السيد يفد لاهثاً ، وقال من بين أنفاسه المتقطعة :

تفضلوا .. لقد أجاب السيد كل طلباتكم .. سيأخذ كل منكم عشرة قروش ..

وارتفعت أصوات الشحاذين مهللة ، وهتفوا : يحيا السيد الكريم .. يحيا رجل الإحسان .. الله يعمر بيتك يا رجل الصلاح ..

ثم هتفوا في صوتٍ مدوٍّ :

يحيا رجل الاتحاد .. يحيا التضامن ..

___

من مجموعة : عقلي وقلبي ــ 1979
أعلى