قصة ايروتيكة خليل صويلح - دع عنك لومي (القسم الثاني )

طلاسم الجنوسة
لم ينجز أنس عزيز الحوار مع منى جابر أبداً، لا على الورق ولا فوق الملاءة، لأنه فجأة أحس برعب الدخول إلى متاهتها، ودخل في طلاسم الجنوسة، وتأنيث العالم، وزلزال اللغة المارقة.
وهكذا حصل على علامة الصفر، مرة أخرى في الامتحان، وعوّض عن خيبته الحسية بأحلام يقظة مشوّشة، إذ تمازجت صورتها الذكورية إلى حد ما، بصور كان خزّنها طيلة اليومين المنصرمين من مواقع أيروتيكية مختلفة على شاشة الإنترنت، صوّر لآسيويات من الهند واليابان وجامايكا والصين بحالات مثيرة، شرقية بامتياز، ووجد نفسه في مأزق تظهير صورة صريحة، فهذا الكولاج المرعب من الصور المتداخلة، أرهق مخيلته تماماً، إلى الدرجة التي أحس فيها بضيق في صدره، عزّاه لاحقاً إلى كثرة التدخين، بالإضافة إلى التهديد الذي وجهه إليه ماهر غزال بالتواطؤ مع سمير شكري، بأنه في حال لم يحقق نجاحاً مع منى جابر، سوف يقتحم الساحة بدلاً منه.
لحظتها رسم صورة أخرى لمنى جابر، واشتهاها فعلاً، متناسياً بعض العيوب الفيزيولوجية في جسدها، فطلب مهلة محددة لإعادة الهجوم.
ما حصل لاحقاً، أنه قطع المسافة من المقهى – في اللقاء الثالث- بينهما، إلى منزلها في دمشق القديمة، وصعد السلم الخشبي العتيق إلى غرفتها المستأجرة، الثانية إلى اليسار، وتلكأ قليلاً، وهو يلمح من نافذة الغرفة الأولى فتاة أجنبية مستلقية فوق سريرها بثيابها الداخلية، ثم أنه طلب شاي بالتفاح، عندما سألته أن يختار ظرفاً من الأنواع المصفوفة في العلبة، ووافق على اقتراحها بتأجيل الحوار لأنها تشعر ببعض الصداع، واعتذرت منه للفوضى التي تعم الغرفة، وهو وجد فرصة لأن يقود الحوار باتجاه «مديح الفوضى» مستعيراً أجزاء لا بأس بها من نظرية «مديح الكسل»، وأثنى على فكرة قصاصات الجرائد التي تحتوي على بعض كتاباتها، التي ثبتتها بدبابيس ممغنطة، على أبواب خزانة ثيابها، من دون أن يهمل النظر إلى مظروف حبوب منع الحمل الملقى على طرف الطاولة، ولعل ما أربك «خطابه» النقدي، الاهتزاز المفاجئ الذي أصاب ركبتيه، عندما خلعت حذاءها، ومددت قدميها على الكرسي المحاذي للسرير، وهنا حدث اشتباك لا يحسد عليه بين شفرة النص وشفرة الجسد، وتصاعد الاشتباك، حين قالت له فجأة:
- أنس: كيف ترتّب الحواس الخمس؟
أجاب على الفور: حاسة النظر أولاً.
- ثم؟
- السمع (أنا رجل سمعي بصري)
- وأين تضع حاستي الشم واللمس؟
- أنا أضيع في «فوضى الحواس»، (طبعاً من دون أن يقرأ الرواية).
النظرة العاتبة وربما نظرة الازدراء والخيبة التي رمقته بها، جعلته يضرب بأصابع يده اليسرى على ركبته، وينظر إلى السقف:
- (انظري) إلى جمال الزخرفة الدمشقية في السقف.
- أنا أضع حاسة اللمس في المقدمة، لأنها توقظ كل الحواس الأخرى. أشتهي مضاجعة أعمى!
تناولت يده، وهي مغمضة العينين، وحرّكت أصابعها في باطن كفه، وسط ذهوله وارتباكه الشديدين، ولم تسعفه الإجابة، إنما ذهب إلى السؤال الأول في حواره المزعوم..
- في قصتك «عنكبوت ودانتيلا» انتهاك لغوي لمفهوم الجسد، ما هي المسافة الفاصلة بين سلطة النص كنسق معرفي، وبين سلطة الواقع بتشظياته القصوى؟
- اقترح أن تترك الأسئلة لدي، كي أفكر جيداً بالإجابة عليها. ثم أضافت:
- أي نص إذا لم ينتهك الثابت واليقيني، هو نص مكرر، وهذا ما أسعى إليه في كتابتي. أن أعيد التاريخ المنهوب للأنثى. تصوّر حتى مفردة الفرج، تأتي في صيغة المذكر!
كان أنس عزيز يكتب إجابتها بأصابع مرتجفة، قبل أن تعترض:
- لا تكتب شيئاً، أشعر بصداع في رأسي، أفكاري مضطربة.
- إذاً، أنا ذاهب، قالها وهو ينهض بما يشبه الهروب.
- أطفئ النور، فأنا متعبة.
- أنا آسف، أرهقتكِ بأسئلتي.
وعندما اقترب من الباب، أطفأ النور، وقبل أن يغلق الباب خارجاً قالت:
- لقد نسيت علبة سجائرك.
عاد مرة أخرى، يتلمس مكان علبة السجائر، وبدلاً من أن ينقض عليها، كما توقعت، وكما رغب في أعماقه، تناول العلبة في العتمة، وخرج مهرولاً إلى الأبد.

خصاء وجودي
كانت حصيلة تقويم فريق الثعالب لما حصل، علامة الصفر، في سجل أنس عزيز الأسود.
وقد برر أنس تصرفاته بحالة (خصاء وجودي)، إذ ليس هناك صورة أصلية على الإطلاق، إنما نسخة عنها:
- وأنا اكتشفت أن منى جابر، ليست الأيقونة التي أرغب بتأملها. إنها أيقونة مزيّفة.
- ومن قال لك أنك ذاهب إلى المتحف لتتأمل الأيقونات؟ يا أخي حطّمها أولاً، ثم تأمّل الحطام.
تدخّل عماد معصراني، بعد كأسين من عرق البطة: باختصار أنت عنّين، لماذا لا تعترف بهذه الحقيقة؟
- وأنت كحولي سافل.
- أنا مسرحي عالمي.
- أنت حذاء عتيق على طرف المائدة، أو بالأحرى نص فائض عن الحاجة، موضوع إنشاء مستهلك، زجاجة كحول تمشي بقدم عرجاء آخر الليل، لص مبتذل.
حمل عماد معصراني حقيبته مهدداً بالانسحاب، فسحبه سمير شكري من كتفه، وأعاده إلى كرسيه، ليس حرصاً على وجوده البهي الطلعة، كما علّّق سمير، إنما كي لا يهرب من دفع ما يترتب عليه من ثمن الفاتورة، وهي عادة صارت مكشوفة بالنسبة للجميع.
هذا التصعيد، وهذه الشتائم المتبادلة، تبدو كما لو أنها فاصل موسيقي بين لحظتين، إذ سرعان ما تخمد نيران الشجار إلى شفافية من نوع آخر، تفرزها جملة من أول السطر بعد أن يعلن سمير شكري طي الصفحة.
أوضح أنس عزيز أنه تراجع عن مشروعه مع منى جابر، حين لمح حبوب منع الحمل على الطاولة، لقناعته أنها «نص متعدد».
- بالطبع نص متعدد، ما هذا الاكتشاف يا اينشتاين؟
- أقصد أنها ربما كانت مصابة بإيدز تاريخي، ثم إنها سحاقية، هذه مجرد شكوك راودتني بعد اطلاعي على قصة كتبتها عن علاقة سحاقية، وأعتقد أنها حصلت فعلاً، بينها وبين جارتها الأجنبية.
- «وأنت مالك؟» قالها عماد معصراني بلهجة مصرية مقتبسة من الأفلام.
التقط سمير شكري سمكة من شباك أنس عزيز وقال بلا مبالاة:
- هل قلت أن لديها جارة أجنبية؟
- نص مذهل.
انطلاقاً من هذه العبارة سوف يكتب أنس عزيز نصه المتخيّل، ثم يمحوه، طوال الطريق إلى مرآب الحافلات تحت جسر الرئيس، جرياً على عادته في نهاية كل سهرة، لكن ما أشكل عليه هذه المرة، أن صورة منى جابر، كانت تمحو صور الأخريات، وهو كان يرغب تأكيد صورة جارتها الأجنبية، في الوضع الذي رآها عليه: صورتها ممددة في السرير، وطرف فخذها العاري، ثم اقتحامه المشهد، بعد أن افترض سفر منى جابر، أو وقوعها عن السلم الخشبي المتهالك، ونقلها إلى المشفى، وعند هذه النقطة، سوف يذهب للسؤال عنها، ولن يجدها بالتأكيد، وعندئذٍ سيطرق باب جارتها للسؤال عنها، وسوف تخبره إنها في المشفى لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، زيادة في المتعة، وسوف تدعوه إلى الدخول، ووقتها سيكتب نصه المؤجل فوق ملاءة الرغبات.
لن يضطر، وهو يحاذي سور المتحف الآن، لأن يستعير أجنحة عباس بن فرناس، ويتسلل إلى الداخل من وراء ظهر الحارس الليلي، إنما سيتمدد باطمئنان إلى جانب «هيلين»، (اسم مؤقت ريثما يقع على اسمها الحقيقي)، وسوف يدخّن سيجارة مشتركة معها، قبل أن يطيح بها مرة أخرى متكئاً على (جمالية العنف) من موقع مضاد، فهي من سوف يدير (فوضى الحواس)، وقد اقتنع بأهمية حاسة اللمس لـ «كمثرى الشهوات»، وهي عبارة وردت في قصيدة كتبها ولم يكملها. هكذا اقتنع أخيراً أن حالة الخصاء الوجودي هي مجرد وهم، وهم تراكم في مخيلته، نتيجة لغياب النص وليس حضوره.
صعوده إلى آخر حافلة مغادرة، وسطوة صوت المذيع في مذياع الحافلة، خلخل بنية السرد بشكل معلن، وأطاح بالمعنى المستتر في عملية ارتحال قسرية، خصوصاً أن المذيع كان يبث بلامبالاة عدداً لا يحصى من الجثث في حوادث متفرقة تمتد من العراق إلى فلسطين والسعودية، وهو في تكراره للسيناريوهات ذاتها، وفي لحظة مكاشفة مع الذات، أدرك أنه يعوم في مستنقع التكرار، وأن رائحة العفن، هي الرائحة الوحيدة التي تتخلل أيامه، من دون أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام في إقصاء العائلة، والتمرد على تقاليدها، في العيش وحيداً، ووجد أن الحياة برمتها هي جثث مؤجلة، وحروب همجية، وأن الإله في قيلولة طويلة.

قصف تمهيدي
لم ينتظر سمير شكري وقتاً طويلاً لاقتحام عالم «هيلين»، إذ اتصل بمنى جابر بعد منتصف الليل، وكان قد أنهى واجباته الكحولية في أزقة باب توما، وكما توقّع تماماً أخبرته أنها عادت إلى غرفتها للتو، وأقنعها بضرورة أن يراها فوراً، للحصول على نسخة من مجموعتها القصصية، «عنكبوت ودانتيلا»، لتسليمها غداً صباحاً إلى مترجم، جاء إلى دمشق لاختيار نصوص سورية للترجمة.
هكذا صعد السلّم الخشبي مهرولاً، وألقى بطبيعة الحال، نظرة إلى غرفة «هيلين»، فوجد النور مطفئاً.
وكنوع من القصف التمهيدي، وضع جثة أنس عزيز على طاولة التشريح، الأمر الذي ساعد منى جابر في إمساك المبضع بدقة قائلة:
- صديقك غُرّ تماماً. تصّور... لم يعرف المعنى الدلالي لعنوان مجموعتي القصصية!
- أجاب مازحاً: صحيح ماذا تقصدين بالعنكبوت؟
أشعلت سيجارة وقالت بأسى: «دعه نائماً بوداعة».
- ماذا حصل بينكما؟
- لا شيء على الإطلاق، حتى أنني مزّقت ورقة الأسئلة، أنه رجل مشوّش، وأرجو أن تضع كلمة (رجل) بين هلالين.
- إلى هذه الدرجة؟
- وأكثر. ربما سوف أكتب عنه قصة.
-أيروتيكية؟
- لا. قصة للأطفال.
كان سمير شكري ينصت إلى حركة السلّم، على أمل أن تأتي هيلين، لكن الصمت كان مطبقاً كما يقال، عدا سعال منى جابر بين الحين والآخر.
- لدي براندي وطني، ما رأيك بكأس؟
- لا مانع لدي.
أحضرت كأسين من المطبخ العمومي، وقالت:
- إنني أشعر بالوحدة، كأنني لبوة جريحة.
- ألا يوجد جيران في المنزل؟
- أمقتهم جميعاً، بعد أن غادر توغاشي؟
- الياباني؟
- كان شخصاً لطيفاً.
- ومن سكن في غرفته؟
- بنت فرنسية اسمها كلوتيلد!
- كلوتيلد؟
- جاءت لتعلّم العربية، مثلها مثل العشرات.
- حلوة؟
- أنت لا تتغير.
كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل، عندها خرج سمير شكري محبطاً، حتى أنه نسي أن يحمل المجموعة القصصية التي تذرع بالمجيء لأجلها. أسباب إضافية للراوي
أصابني ارتباك شديد في التقاط بوصلة فريق الثعالب، بسبب من الإلغاء المستمر للصورة الأولى، إذ إنهم ينسفون على الدوام ما كانوا يروونه في الأمس، أو أنهم يضيفون حوادث جديدة، لم ترو سابقاً، وببعض التوابل تتحول الخسائر إلى انتصارات، والإفلاس المادي، إلى نعيم روحي، أو خيار وجودي، حسب تعبير أنس عزيز.
وإذا كان عماد معصراني، مجرد ثمرة معطوبة، معلّقة في أغصان شجرة يابسة، تستمد بقاءها من هواء الآخرين. جملة من هنا وجملة من هناك، فإن ميزان سمير شكري، لا يستقر عن حدّ: من أقصى حالات التسكع والخيبة، إلى أقصى حالات الادعاء والبطولات الزائفة، والتخييل المجنون، والنبالة أيضاً. وهكذا فإن غياب النص المركزي، يبدو هنا منطقياً، في دائرة تضيق وتتسع، تبعاً لحالة الطقس، وهو في الغالب غائم جزئياً، بحسب نسبة التصعيد الكحولي، وكإجراء طبيعي، لا يدعو للارتياب، بالإمكان وضع أبي ليلى (بعد أن قرأ مرة قصة ركيكة للغاية)، في مقام زكريا تامر، ووضع نص لماهر غزال في خانة الشعر العالمي، أما قصائد سمير شكري فهي أساساً خارج التصنيف، وفي حال غيابه سوف يصبح مجرد شريد وحقير، وطبعاً: سافل!.
أنس عزيز (رجل) التحولات بامتياز، فهو ينوس بين ثقافة شعبوية، مستمدة من حارات دمشق القديمة، (صوتية غالباً)، وبين ركاكة ما بعد حداثية، يقتطفها على عجل من قراءات متنافرة، وهذر مشافهة، وإنصات شكلاني، يتلون حسب مصالحه الآنية، فليس لديه ما يمنعه من أن يتحمس للإرهاب الإسلامي بوصفه مقاومة، أو يخوض إلى الضفة الثانية، مستسلماً لإغواء الفيديو كليب بوصفه الممثل الشرعي الوحيد لمحنة الثقافة الراهنة. وهذه الفكرة سوف يلتقطها سمير شكري، لينتصر إلى معسكر هيفاء وهبي، طالما أن الثقافة خارج اهتمام الفضائيات العربية.
وأربكني على حده، ماهر غزال، رجل الزئبق، والشرير في فيلم لم ينجز بعد، لأن الدور الذي يرغب في أن يلعبه أكبر من قناعات المخرجين، وبمعنى ما، هو شخص انتحاري ومقامر، لا يتوانى عن السباحة في بحيرة مليئة بالتماسيح، لقناعته أنه غريق مؤجل.
طرائد مؤجلة
فجأة أدخل عماد مصطلح «center » إلى مائدة الثعالب: كنت في "السانتر"، ذاهب إلى "السانتر"، قابلتها في"السانتر".
وبما يشبه الغزو، توجهوا إلى «المركز الثقافي الفرنسي» الذي لا يبعد أكثر من خطوات عن «الكهف»، على أمل اصطياد طرائد جديدة، بعد أن تناهى إلى أسماعهم أن الصيد «هناك» لا يحتاج إلى فخاخ، خصوصاً فيما يتعلق بالفرنسيات الطارئات، هكذا شعر عماد معصراني، للمرة الأولى، أنه قائد المجموعة، وليس «ورابعهم كلبهم»، كما كان يصفه أعضاء طاولة «العشاء الأخير»، وهذا اللقب لاقى صدى طيباً لدى الثعالب بوصفه ذيلاً تاريخياً لسمير شكري، ينبح وراءه، وعليه، بمقتضى الحاجة.
كان المناخ في «السانتر» مشجعاً للصيد، بوجود عشرات الطرائد الضالة، والأجساد الباذخة، أو العولمية، كما علّق أنس عزيز بإنكليزية ركيكة، فيما اقتحم سمير شكري، دائرة من الأجساد المكشوفة (النصوص المحتملة)، بنكات واستعراضات صريحة، بقصد تأكيد وجوده الاستثنائي، أما ماهر غزال الذي استند على درابزين السلّم كثعلب، فكان يراقب عن كثب حركة الصعود والنزول، قبل أن ينتهك أنس عزيز، وقفته الفلسفية بجملة اعتباطية «إن الآخر ضروري بوصفه السقالة الداعمة للمعنى والهوية»، لكن ماهر غزال عاجله بضرورة (تقويض الهوية)، اعتماداً على المرجعيات ذاتها، وأضاف: «نحن نعيش اليوم، أرخبيلاً كاملاً من الأمكنة، في مكان واحد، انظر إلى هذه الجغرافيات المتجاورة، ألا تشكل في مجملها نصاً معرفياً متشابكاً أو مخزناً للأضداد؟».
أحس أنس عزيز باندحار فلسفي، أمام انتهاكات ماهر غزال لخطابه، فهو الآن يركل الكرة في ملعبه، وأكثر من ذلك، يسعى للتفوق عليه بما يشبه الضربة القاضية، وندم في أعماقه لأنه أعاره كتاب «الاستشراق جنسياً»، الذي يبدو أن ماهر غزال قد قرأ بعض فصوله فعلاً.
ودّعهما سمير شكري بتلويحة من يده، وخرج مع طرائد بالجملة، فاتفقا على عبارة تفوّها بها في وقت واحد: «سافل ومنحط». واضطرا لانتظار عماد معصراني، الذي اختفى بين الممرات برفقة فتاة فرنسية، قال أنها صديقته، وعندما تأخر في الظهور، انسحبا من المكان خائبين، ليضيفا هذه المرة أن عماد معصراني «نكرة» و«سوقي»، و«لص نصوص».
عندما حاذيا واجهة «الكهف»، تردّدا في الدخول، نظراً لإفلاسهما الذريع. هكذا افترقا على ضيم، لكنهما بعد ربع ساعة، عادا والتقيا في «الكهف» إذ أن كلاً منهما، اعتقد أن الآخر لن يعود.
دخل أنس عزيز على أمل أن يجد سميراً مع طرائده، وقد جهّز بنود «نظرية البهجة» التي استعارها من فيلم رضوان الكاشف «الساحر»، غير أنه فوجئ بأن ماهر غزال قد سبقه، إلى طاولة «العشاء الأخير»، وتمكّن من الحصول على كأس بالمجان من حصة المراسل الحربي، فأكمل طريقه نحو دورة المياه، وهناك اجترح نظرية جديدة: «العالم بأكمله مرحاض عمومي».
سرح سمير شكري بين أكثر من مرعى، ووزّع رقم هاتفه الجواّل إلى أكثر من طريدة، وانتهى به الأمر في نزل عربي قديم، كانت تستأجره فتاة فرنسية، فتحوّل على الفور إلى مثقف فرانكفوني، وقرأ مقاطع كان يحفظها من أشعار لوتريامون، وأخرى من جاك بريفير، وسط صخب الكحول والموسيقى، كما أحكم شباكه حول طريدة بلا صديق، اضطر أن يجاريها بلغة عربية ركيكة، تشبه لغتها، فمدة ثلاثة أشهر من إقامتها في دمشق، لم تمكنها من معرفة العربية جيداً، وتكفّل بأن يكون ترجمانها المحلّف، غير أن وصول عماد معصراني بصحبة فرنسية أخرى، في آخر السهرة، أربك خططه، رغم أن هذا الأمر لم يمنعه قيد شعرة من إعادة «تحرير» السهرة ومجرياتها على نحو آخر، في الليلة التالية، ما أدى إلى ارتفاع ضغط أنس عزيز الذي استهلك كمية مضاعفة من السجائر، أثناء إنصاته إلى الحكاية المتخيّلة التي كان يرويها سمير شكري بالتواطؤ المعلن مع عماد معصراني.
وكان – لزيادة جرعة الهياج لدى أنس عزيز- يعبّر بين حين وآخر عن ألم في أضلاعه، لاختلاف وضعية «النص» الأجنبي، عن وضعية، «النص المحلي»، والشبق الأبدي لدى «كلوتيلد».
كلوتيلد التي لم يحظ بالتعرف إليها إلى الآن، لكنه استعار اسمها من نص مؤجل لاستكمال حبكة السرد، والإطاحة بما تبقى من وعي أنس عزيز.
من جهته أسهم ماهر غزال في زيادة الجرعة، حين اعتبر أن الجسد، أحد أهم السرديات الكبرى، وأن قصائد سمير شكري التي نشرت أخيراً، في الإنترنت، في الجريدة الإلكترونية التي يعمل بها، هي أفضل تعبير عن سرديات كهذه، خصوصاً الجملة التي يقول فيها: «أحب المرحاض الذي تجلسين عليه».
هنا قام أنس عزيز بهجوم ارتدادي، متخلياً عن نظرياته السابقة، ومتسلحاً بعبارة أن العالم كله مرحاض عمومي، من دون أن يغلق الأبواب كلها في مواجهة الهراء الذي يتناثر حول الطاولة: «ليس هناك أصعب من مشاهدة شخص يهجرك»، على أمل أن يقطف بعضاً من الفاكهة المحرمة في شجرة سمير شكري.
قال سمير شكري: «الأشياء لا تحدث فقط، لأننا نريدها أو نرغب بها»، عليك أن تكون اقتحامياً، فلا أحد يمكن أن يكسب معركة دون أن يخوضها.
- أنا بكامل جاهزيتي.
علّق عماد معصراني: وماذا بشأن الخصاء الوجودي؟
- اعتبره منتهياً!
ربت سمير شكري على كتفه قائلاً:
- واعتبر أيضاً، أن منى جابر في أحضانك.
احتج بعنف: ومن قال لك أنني أرغب في العودة إليها، إنها نص مستهلك.
- المشكلة أنك ضد الفرانكفونية، وإلا كنت اليوم تغرّد في حدائق الفرنسيات
- من أخبرك بذلك، أنا فرانكفوني من الطراز الأول.
- اطوِ الصفحة، الموضوع قيد الدراسة.
ثم تابع: هناك حلقة بحث أخرى، أهم بكثير من كلوتيلد، ربما سأكتبها قريباً.
والتفت إلى أنس عزيز: نص مذهل، أنا متأكد أن دريدا وايكو مجتمعين، لن يتمكنا من كتابته. اليوم خمر وغداً خمر
في مواسم الجفاف وقلة الكلأ، يلجأ فريق الثعالب إلى كهوف مجاورة، متخلين عن مبادئ، كانوا تغنوا بها، في مراحل سابقة، وربما نحتاج هنا إلى وضع كلمة (مبادئ) بين هلالين، لكنها تأتي هنا في سياق مضاد للمعنى، فالنبالة هي مجرد إجراء لغوي صرف، لا يقود إلى معناه المعجمي، وهذا لا يمنع من تداولها، بصحبة (مبادئ) أخرى مثل الشرف والنزاهة والكبرياء، وحتى الاعتداد العشائري بالأصول، كجدار استنادي صلب في لحظات الاندحار والخسارة، وهكذا فإن الإطاحة بعمارة ما بعد الحداثة، العمارة المصنوعة بزجاج هش، لا تحتاج إلى مقدمات، إذ يفرضها واقع الحال، بضربة سيف واحدة. وبناء على هذه المعطيات الطارئة، التف الثعالب حول «الدكتور حسني حمام»، رغم شكوكهم باللقب، وهو قدّم نفسه بوصفه دكتوراً في الأدب الجاهلي، وطالما أنه هو من سيدفع فواتير الموائد، طيلة إجازته الصيفية من"جامعة جيزان"، فسوف ينافحون عن نص آخر، من دون أن يطّّلعوا عليه أصلاً، مُضحين بلا ندم بالثقافة البصرية، لمصلحة الجرجاني، ومعلّقات الجاهليين، وخمريات أبي نواس ولزوميات المعري ونقائض جرير والفرزدق، وحكمة المتنبي.
وزيادة في الكرم، اعترف سمير شكري أنه حفيد امرئ القيس في عبثه وتهتكه ومجونه، وروحه الهائمة بين الأطلال، أما أنس عزيز فقد تخلى طوعاً عن فوكو وايكو، معتبراً أن هذه النظريات الوافدة، هي حصان طروادة الجديد لتقويض الهوية، وخلخلة القيم الأصيلة في الثقافة العربية، ثم أضاف، والإسلامية (منتبهاً إلى لحية الدكتور) الذي كان يرتشف عصير الليمون، قبل أن يكمل مسلسله التراثي، فيما يخص اعتذاريات النابغة، وحماسة عنترة، وأحاجي الحطيئة، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري.
وبعد أن تربّعت زجاجة كحول جديدة على الطاولة، أنشد عماد معصراني: "ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ".
بسفر (الدكتور حسني حمام) الذي اكتشفه ماهر غزال في واحدة من غزواته الغامضة، عاد الثعالب تلقائياً إلى ملعب ما بعد الحداثة، وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق، وأكثر من ذلك، قاموا بتفكيك نص الدكتور حسن حمّام، على أنه مجرد إعادة إنتاج لإنشاء مضجر وأرشيف مدرسي لا يستحق عناء التأمل. ومن بين الأسماء التراثية التي خيّمت في صحراء «الكهف» على مدى أسبوعين، نجا المتنبي بصعوبة لاعتبارات وجدانية صرفة، رغم أن البعض اعتبره مجرد «نظّام ماهر»، ونافح سمير شكري عن امرئ القيس صاحب أبرع جملة عبثية:
- «اليوم خمر وغداً أمر»، بتحوير جديد "اليوم خمر وغداً خمر" كشعار طويل الأمد.
- وهل نسيت خمريات أبي نواس؟
- بالطبع لا. أبو نواس أعظم شاعر في الكون.
رفع عماد معصراني كأسه وقال: نخب أبي نواس.
فأردف ماهر غزال: «وداوني بالتي كانت هي الداء».
سوف يكشف ماهر غزال في لحظة تجّلٍ عن صورة أخرى للدكتور حسني حمام، وأول ما سيفعله، خلع لقب الدكتور عنه، وإلغاء جامعة جيزان، لأنها غير موجودة على الخريطة بالأصل، وسوف يوافق الجميع على الفور، من دون انتظار حيثيات أخرى، فحسني حمام، لمن لا يعرفه، مجرد شخص فاشل ومحتال، كان يصطاد العجائز الثريات بوصفه معقّب معاملات عقارية، على خلفية دراسته الثانوية التجارية.
وبعد تنقّله بين أكثر من امرأة من هذا النوع، تعرف إلى امرأة ثرية حقاً، فنصب فخاخه حولها، ووقعت في الفخ ببساطة، لكن هذا «النعيم» لم يدم طويلاً، فخرج من حياتها بثروة من نوع آخر (مكتبة تراثية ضخمة)، كانت لزوجها، ولأنه كان مطلوباً في أكثر من قضية جنائية، اختفى في بيت ريفي في ضواحي دمشق، وكانت حصيلة هذا الاختفاء، قراءة كل محتويات المكتبة من أمهات الكتب، اضطرارياً، ثم غادر إلى السعودية بعد تغيير طفيف بأوراقه الثبوتية وجواز سفره، بالتواطؤ مع قريب له في دائرة النفوس، وهكذا تحوّل اسمه من حسني حميماتي إلى حسني حمام.
- وماذا بشأن الدال؟
- هذه حكاية أخرى. في السعودية عمل في مهن عدة، إلى أن استقر في مهنة من طراز خاص، مستفيداً من خبراته في التراث، وهي كتابة رسائل دكتوراه جامعية لمن يرغب مقابل مبلغ محترم، وصار لقبه الدكتور حسني ح

* عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى