قصة ايروتيكة ليلى بعلبكي - أَنــا أَحيــا

القسم الأول
-1-
فكرت , وأنا اجتاز الرصيف , بين بيتنا ومحطة الترام : لمن الشعر الدافئ , المنثور على كتفيّ ؟ أليس هو لي , كما لكل حي شعره يتصرف به على هواه ؟ ألست حرة في أن اسخط على هذا الشعر , الذي يلفت اليه الأنظار حتى أمسى وجودي سبباً من وجوده ؟

ألست حرة في أن أمنح حامل الموس لذة تقطيع خصلاته وبعثرتها بين قدميه , ليرميها حامل المكنسة , في تنكة صدئة ؟
ثم ألست حرة في أن اتردد أكثر من مرة لزيارة حامل الموس , فأشبع عينيّ من رؤية الأداة الحادة , وهي تتكتك وهي تأكل ..وهي تقتل ؟ .

في المساء , وبعد أن أرجع من عملي , سأسحب رجلين ثقيلتين إلى حيث الأداة الحادة . فأنا أحس برغبة جامحة : لسماع دمار , لمشاهدة أشلاء , للتحديق بأصابع قاسية , جبارة , لاترحم .

لكن ,
سيكون ذلك في المساء . .في المساء , والصبح يتربع على عرش هذا اليوم , والمطر يسكب في جسدي برودة لذيذة تنام على أطراف الأصابع , وفي الركبتين .
سيكون ذلك في المساء . . كأن المساء قريب ! .
ماذا ؟ ساعات معدودة , و يكون المساء ؟ . .
نحن نقول دائماً ببساطة : في المساء مواعيدها . كأن هذه الملايين الغزيرة من الدقائق , والثواني . . كأنها لا شيء !
أما أنا , فمن الآن حتى المساء , سأبني مستقبلاً لحياتي : سأستقل هذا الترام , مع أن سيارتنا الحمراء الجديدة تربض على مدخل بنايتنا . سأنزل في ساحة المدينة الهائجة . سأسير تائهة في الشارع المزدحم . سأنعطف الى اليسار في الزقاق الضيق , الوسخ . سترتجف حتما ركبتاي قليلاً حين أصل . سينكمش قلبي مختبئاً في الزاوية . وسيضرب الدم صدغيّ بقساوة تعمي عينيّ .
قلت ,
سأستقل هذا الترام , لكن كيف سيتاح لي الصعود إليه , ورصيف المحطة يكاد أن يتزلزل بهذه العشرات المنتظرة ؟
أنا انتظر . انتظر . والوقت يزحف . ويزحف .
أتمنى لو كان الوقت شيئاً ملموساً , لتجاهلت وجود الناس حولي , وانقضضت عليه انهشه بأظافري , وامضغ اشلاءه بأسناني .
ثم ألفظه على الأرض لينزوي بين قدميّ خائفاً , صاغراً .
إن قلت له قف : جمد ! وإن أمرته بالتحليق , غاب عن الحياة و أنا ممسكة زمامه , مستلقية بين جناحيه !
أنا أنتظر .
ولن أتحمل الانتظار أكثر من ذلك . سأذهب في سيارة . ماأغباني !
كيف لم ألمح هذه السيارات الرائعة الألوان , الناعمة الصوت , المغرية ؟
ومادمت سأعمل , والعمل سيكون فاخراً , ومادمت سأدفع من تعبي الأجرة , فسأجلس هكذا في مقعد السيارة . وهكذا , أعني , بعظمة ! وأدير رأسي ملصقة خدي الملتهب بالزجاج البارد . وسأمسك ربع الليرة بأطراف أصابعي وأرميها الى السائق , دون ان التفت محدقة بوجهه , و وجوه سائر الركاب .
ولن أفعل هذا , اليوم فقط . إنما سأهزأ بوالدي , وسيارته , ودراهمه . سأريه هذا الإستخفاف به كل يوم , كل يوم .

والآن ,عليّ أن أختار لوناً ينسجم مع لون معطفي الرمادي القاتم , ماذا أختار : أحمر ؟ أخضر ؟ أزرق أو أبيض ؟
أكاد أزعق إعجاباً , يا لهذه السيارة الأنيقة !
سأمد يدي مشيرة إلى السائق : قف!
تنبهت :
لأمدها , لأمد يدي إلى حقيبتي مفتشة عن ثروتي فيها .
خمسة وعشرون قرشاً ثروتي !
خمسة وعشرون قرشاً للذهاب إلى العمل , في سيارة ؟ ولكن كيف أعود ؟ لو كانت الحكومة قد حددت أجرة الراكب في السرفيس بخمسة عشر قرشاً , لبقي معي عشرة قروش للإياب في الترام . ثم تمر لحظة في حياتي , لا أملك فيها قرشاً واحداً . لأعدّ بعدها ثروتي التي اجمعها بعرقي : بالليرات .
ليت والدي يسمعني وأنا أجاهد في حل هذه المشكلة المالية المستعصية ! أتمنى لو كان يسمعني , فأرى انفعالات نفسه على وجهه المصفرّ!
خمسة وعشرون قرشاً .
وسحبتها من حقيبة يدي , فإذا رائحة التنباك تنبعث من ورقة العشرة قروش , بينما تنزوي قطع الالومينيوم البيضاء الثلاث , في القعر .
تضايقني رائحة الدراهم , ويسعدني منظرها . لكنني لن أتحمل ارتماء هذه النفايات الوسخة على رائحة يدي . إنها تنهش يدي , تأكل يدي . سألقيها في مياه المطر الوسخة الراكدة , تحت الرصيف . وسأتسلى برؤية الورقة , وهي تتفتت , بينما ينام المعدن في القعر متلألئاً !
أنا بلهاء . كيف سأصل إلى مقر عملي , إذا رميتها ؟ وبحركة عجلى رميت القروش في الحقيبة , وأقفلتها , وسرت تحت المطر .
أعشق السير تحت المطر . الحياة اليوم كلها لي , أحس بنشوة , و بانتصار , وبحيرة !
يا للأفكار المضطربة ! وقفت :
هذا الزاروب وسخ . وهؤلاء الناس المبعثرون فيه , لهم وجوه صفراء , وأنوف حمراء متجلدة . ثم هذه اللافتة الكبيرة : هنا سأعمل .
للبناية بوابتان , إحداهما صغيرة , في الزاوية . والثانية كبيرة , رائعة , تتصدر المدخل .
ولجت البوابة الكبيرة على عجل , دون أن التفت حولي لأجيب عن أسئلة البواب المسكين . وابتلعت الدرجات العديدة بخطوات سريعة , فتلقاني الحاجب في الطابق الثاني متسائلاً ببرود :
-نعم ؟

و نقل نظراته بين وجهي المنفعل , وثيابي المبتلة , وتبسم .
فتبسمت بدوري مجيبة :
- الرئيس !
وقبل أن يتحرك , قرعت باباً صغيراً فخماً وحاولت فتحه , فإذا هو مقفل . بذلت جهداً جباراً لأدير رأسي , وأرى تأثير حركتي , ونتائجها في عينيّ الحاجب . فإذا الابتسامة الباهتة لا زالت تتأرجح على شفتيه , وهو يشير إلىّ بمفتاح أصفر صغير ! تمتمت دهشة , وأنا أمد يدي بأصابعها الخمس , إلى الباب :
(أليس .. هو . . هنا ؟)
فلم يجب , وتقدم يسألني :
- اسم الآنسة الكريم ؟
أعجبتني صفة كريم لأسمي , كما أعجبني ارتخاء أسارير وجهه , حين سمع اسمي . وأعجبتني هذه النظرات : نظرات ذعر . تهيب . خوف . استغراب . ثم الخضوع , و حركة التلبية المرغمة , وهو يدير المفتاح في قفل الباب الأنيق وينحني لي قبل دخولي .
دخلت المكتب الشاسع وأسندت ظهري إلى الباب , وسرّحت نظري في أرجاء هذه العالم الغريب . واستقرت عيناي على يدي , فإذا هي حمراء , كأنها تقطر دماً . خفت , واعترتني رغبة بكاء عاصفة , وانتزعت عينيّ فوراً عن يدي , ورميتها على ساقيّ , فإذا هما أيضاً تكادان أن تقطرا دماً ! رفعت عينيّ عنهما , ورحت أفتش في القاعة عن اللون الأحمر , فتعلقت عيناي بالسقف , وبجوانب الغرفة : تعلقتا بالأضواء الحمراء التي تنز دماً !
هذه الأضواء مثيرة . الدفء في جوانب المكتب مثير . المقاعد الجلدية بأخشابها اللماعة مثيرة . الزهور البيضاء , ووجودها في مؤسسة أعمال , وفي الشتاء مثير . وهذا الصوت الذي يرحب بقدومي , هو أيضاً مثير .
وخطرت في رأسي فكرة جنونية , هي أن أعود . أعود . وتتابعت دقات حروفها الأربع في رأسي بانتظام : أعود . . أ . . ع . . و . . د . .
هل أعود ؟
وسلخت نظري عن الأضواء , وحدقت في صدر القاعة , فإذا عينان , كعيني الهر , تبرقان في هذا الجو الأحمر , الساخن , وتراقبان حركاتي .
أحسست باطمئنان حين وجدت العينين , لأنهما كانتا ساخرتين فشجعتني سخريتهما على استجماع وعيي , فزحفت زحفاً على السجادة صوب رئيس المؤسسة .
واقتربت , اقتربت إلى أن لامس جسدي كله المنضدة الكبيرة , ومددت يدي أصافح المقعد الجلدي , ثم جلست .
أأنا مخطئة إذا دعوت هذا الرجل , المقعد الجلدي ؟
تعودت ألا أعرف الأشخاص بأسمائهم , لأنني اعتقد أن أكثر الأسماء لا تنسجم مع نفسيات أصحابها , و لأن الشخص الواحد أحياناً يدل على فئة معينة من الناس : فالبعض أطفال , والبعض هررة , أو ثعالب , أو خنازير , أو روائح , أو جمادات , أو آلهة .
أما هذا الرجل الذي يقف أمامي , فهو يكمل أثاث هذه القاعة الغريبة : أنه المقعد الحي فيها . وتتربع على هذا المقعدة , كما استنتجت , دولتان هامتان , تسيطران على سياسة العالم – أو بالأحرى تحاولان السيطرة على هذه السياسة العالمية – من عندنا : من الشرق الأوسط , من قلب الدول العربية .
وبدأ المقعد كلامه . فلم أتأثر بصوته الدافئ , بعد أن رأيت عينيه الساخرتين . قال :
( لا أستطيع أن أصدق , أنك أنتِ هي التي أعلن الحاجب عن قدومها . هل أنتِ لينا فياض ؟ )
وصمت . ينقب في وجهي عن الحقيقة . . ثم همس :
( والدك صديقي. )
فكرت : ( والدي صديق كل مستغل للحوادث السياسية )
وانفجرت بضحكة غيظ .
فعادت نظرات الحاجب تأخذ مكانها في عيني المقعد الجلدي البراقتين . نظرات تهيب . واستغراب . وإذا حركة تفيق في رأسه : حركة التلبية , والتصديق , والاحترام .
كففت عن الضحك وتكلمت :
( اطلعت على إعلانكم في النشرة الإخبارية اليومية التي تصدرها مؤسستكم . ولمست في نفسي الكفاءة المطلوبة في الموظفة التي تحتاجون إليها ) .
نهض منتصباً , يرتكز على جبينه الأيسر , وصاح :
( أنت ! أنت ستعملين ؟ أنتِ طفلة . . لا عفواً , أعني أنتِ ابنة هذا الثري ؟ )
بأي مقياس يقيسني هذا الأحمق ؟أيعتبرني طفلة وأنا في التاسعة عشر من عمري ؟ ألا يحق لي أن أعمل , إذا كان والدي , لا أنا , يملك الملايين ؟
أنا أحتقر والدي . وأحتقر ملايينه . واحتقر هذا المقعد الذي لا تعجبه انطلاقتي !
ألا يعلم هذا , أنني لو خيّرت باختيار والدي , لما كان والدي هو والدي , ولا كان هذا المقعد القذر ؟
هببت واقفة , ورددت على مهل :
(جئت لأعمل هنا , لا ليؤخذ استجوابي . إذا كان هنالك مجال للعمل , فأرجوك أن تطلعني على تفاصيله وشروطه , وإلا . . )
استوقفني بلين :
( تمهلي . . تمهلي . . عودي في التاسعة من صباح الغد ,للشروع في عملك , وليس هنالك شروط . )
بحركة لا شعورية , صافحته , وتركت البناية ركضاً .
و حين تهادت حبات المطر على وجهي , وعاد الصقيع لينام في أطرافي , وعلى رأس الأنف , فركت عينيّ , وسرت تحت المطر . .
كنت أتمخطر في سيري نشوى , كأنني في حقل مزهر تنام الشمس بين أعشابه ويغرد الطير على شجيراته . وكان كل من يراني يشك في أنني مصابة بمرض عقلي . وكأن المياه تغلغلت إلى أفكاري , فعطلته عن العمل . ورحت أتلفت حولي متفرجة على واجهات المخازن .
لم تقلقني غرابة مقابلتي للمقعد الجلدي , ورهبتها . لم يقلقني رجوعي إلى البيت . أجل إلى البيت .
تربطني بالبيت حاجة واهية , تعيدني إليه دوماً , لآكل فيه وأنام وأشترك في بعض المناقشات , والمخاصمات , والمشاكل . الآن , و أنا بعيدة عنه في هذا الشارع الممطر , الضاجّ , أعجز عن تجسيم صورة له .
أنا هُنا في الشارع , يتوزع انتباهي بين قارورة العطر في واجهة ( عماطوري) وفساتين الجوخ في واجهة (أ.ب.ث)
و مزامير السيارات المزدحمة عند الكوع , وحركات شرطي السير العصبية , الماهرة , وقدميّ الرجل المرفوعتين على كرسي , في معمل (نيويورك ) للأحذية , يلمّع له رجل أشيب حذاءيه الموحلين . .
أذكر هنا في الشارع , أنني أسكن في عمارة عملاقة , فخمة , صفراء , تربض على شاطئ هادئ من شواطئ بيروت . . ثم ,
ثم انجرف وعيي يراقب زخّات المطر التي داهمت الذين أقفلوا مظلاتهم , فغمرتني لذة ساخنة . وتلهيت حيناً بخطواتي , فضيقتها , ثم تسربت اللذة الساخنة إلى رأسي تداعبه , و تزرع في إنحائه نمنمة ملتهبة , لتبعده أخيراً عن الضجيج , وتدفنه , تحت الغطاء الصوفي الأزرق الناعم في البيت .
في خاطري من البيت نتف صور مبعثرة , ترهقني , تشدني إليه وتبعدني عنه في آن واحد .
تزداد حاجتي إلى البيت في الليالي العاصفة , فأغلق شبابيكه , وأسدل الستائر , وأحتمي في الفراش مغمضة الأجفان , أسد أذني بأصابعي . . اقتل خوفي من الرعد الزاعق , والعتمة الرهيبة , و الهمسات الغامضة , الخطيرة , تحت الأثاث !
المطر ينهمر , والبرد يقسو , وأنا عمود رمادي يتنقل بإعياء على الرصيف ,يعيق اندفاع المارة إلى مدخل البنايات . .
فراحوا يزيحونني بضجر عن طريقهم . تمتمت :
إنهم يخافون المطر في النهار . وأنا أخافه في الليل . وهذا الخوف يشلّني ! هم يخافون أن تتوسخ ثيابهم بالأوحال وتتلف بالمياه , وأنا أخاف الرعد . والرياح . والظلمة . والبرق !
أسرعت إلى بوابة صغيرة , في الجانب الخلفي لمطعم ( طانيوس ) ووقفت مع رجلين و امرأة , ننتظر انحجاب المطر .
رميت نظرة متفحصة على كلّ من الرجلين والمرأة , فإذا أنا لا أعرفهم . انحنيت على الحائط بارتياح , وفتحت حقيبة يدي وانتشلت منديلي أمسح عن قدمي الوحل . فأسرع أحد الرجلين وتلقاني بذراعه , فاستقمت شامخة الرأس , استجوبه بنظرة غضبى . . فاحمرت أذناه , واعتذر بالفرنسية , ومد رأسه إلى خارج البوابة , يتفقد الطقس . وغرقت المرأة والرجل الآخر بهمهمة حلوة , تمنيت حين لفحت سمعي وأرهفته , لو كان بجانبي رجل استلطفه , فأقضي بقربه على خوفي من ليالي الشتاء بأكثر من همهمة حلوة !
تمنيت , وأنا استعرض مشهداً دنياً لوالدي كان يتلصص فيه على جارتنا المترهلة , الساكنة في بناية تطل شبابيكها على شبابيكنا :
كنا في بداية صيف هذه السنة , حين ارّقني ألم عنيف , في ضرسي المنخور . فتقلبت في فراشي تجاذبني سكينة إغفاءه , وقرقعة أطلقها الضرس اللعين في رأسي . رفعت المخدة , وخبأت الرأس تحتها , فكدت اختنق .
تربعت على السرير فكاد رأسي ينفجر , كل قطعة منه على جدار . .فهبطت على أرض الغرفة وانتشلت قطعة قماش كانت مطروحة على المقعدة ولففت بها رأسي . . ثم فتحت شدقيّ لأطلق ضحكة هازلة وأنا أرسم وجهاً مستنكراً لأختي الكبرى , وهي تلمح تنورتها الجديدة , تلتف حول ذقني ورأسي . آخ ! لمع الضرس , فأطبقت شدقيّ وهرولت إلى غرفة الطعام لابتلع قرص ( الاسبرو ) فلمحت خيالاً على الشرفة .
إنه والدي , بكلسونه القصير وقميصه ( البروتيل ) , القطنيين , مصلوب على الجدار , يرسل من فمه الدخان بعصبية , وقد برز كرشه ونحفت ساقاه , فإذا هو كبقايا إنسان , سودّت إحدى الحرائق هيكله وتركت ثيابه بيضاء تلمع .
تمهلت في ركضي , ازحف على أصابع قدميّ حتى لا أعكر على والدي جلسة حالمة في الظلام , غارقة في نسيم البحر الغافي تحت أقدام الصخور . . لكنني مطتُّ رقبتي , والألم يتمدد , يتمدد , متشبعاً فيها , فضرب عيني نور يهرب من نافذة البناية المجاورة .
تراجعت , و كدت ارتطم بالطاولة الرابضة في وسط الغرفة لو لم أتدارك وأتشبث بكرسي أبعد عن صف الكراسي , وحبست أنفاسي براحتي , وأغمضت عيني لحظة . وفي اللحظات التالية شاهدت امرأة غارقة في نور غرفتها , تنزع ببطء الثياب عن جسدها قطعة قطعة . . تنزعها باطمئنان , وهدوء وحرية كاملة , كأنها واثقة من أن الجيران نيام في هذه الساعة المتأخرة من الليل . أو كأنها مؤمنة بأن والدي ينتظرها , ليبتلعها بعينيه !
كدت أذوب خجلاً . .أهذه صدفة ؟ أو هو ميعاد مدروس بين هذه المترهلة , والوالد ؟
جمدت , فجمد الألم في حنكي الأيسر , و تسللت إلى فراشي تتداعى أمامي تماثيل احترام وتقدير وخوف لوالدي , كانت تجثم على عينيّ ! .

علّمنا أن نحفظ فضله علينا , لأنه هو سبب وجودنا . هو سبب رفاهيتنا . هو مشيد صروح مستقبلنا .
لو يعلم أنه يثير سخريتي , وأن أمي تنتزع مني الشفقة عليها , والإشمئزاز منها ! .

المطر ينهمر , وينهمر , فملّ الرجل الوحيد مثلي الانتظار , وضرب العتبة برأس حذائه , وقلب ياقة معطفه وقذف بنفسه في الشارع وضاع بين الأرجل الهاربة على الأرصفة . . و التصقت المرأة بالرجل الآخر , وكفت عن الهمس لتناجيه بعينيها الفتانتين . وامتصصت أنا شفتيّ بعصبية أهدهد رجفة حيرة فيهما :
أنا كائن تافه , تافه , ملفوظ على هذه الطرقات . أنا كائن تافه . . تافه . .
وارتميت تحت الرذاذ من جديد , و خطر لي أن أعد النساء في الشارع : واحدة . ثلاث . أربع . ست . تسع . وأنا , عشر نساء .
لكن , لا !
لا يحق لي جمع نفسي مع بقية النساء , فأنا واحدة من عشر, من مئة , من مليون . أما أن أكون واحدة مع عشر , مع مئة , مع . . فهذا خطأ ارتكبه . ومع أن شعور التفاهة يقبع في خاطري , فقد بددته أمي على باب بيتنا مؤنبة :
- أين كنتِ تسرحين كالبزاقة على الطرقات ؟ أين أفنيت كل ساعات قبل الظهر ؟ .
فكرت , وصمت شفقتي عليها يغلفني :
بل أين سأفني كل ساعات حياتي ؟
وكانت هي تعصف في تهديدها :
- احذري ! إذا كنتِ مصممة على الإفلات , والمشاكسة , فسأتركك لوالدك , يرغمك هو على تنفيذ واجباتك ! .

ضحكتُ .
هي جبانة . لماذا لا تجرؤ على الوقوف في طريق غاياتها ؟ ألانها تتحسس طغيان قدرة الشخص الواحد , حين يبدأ يتذوق قيمة فرديته , وحريتها ؟
أغضبتها ضحكتي , فازداد صراخها قساوة , لإرهابي :
- ألا يهمك والدك , قولي أنك لا تخافينه . . هيـا , قولي ! .
واقتربت مني , فابتعدت حانقة . ثم لمستُ الحائط البارد , وضحكتُ بحشرجة :
لماذا تتدخل هذه بأموري ؟ لماذا يجب أن أرتعد خوفاً منها ومن والدي ؟ لماذا لا تهتم بمشاكلها , فتمضي الليل حذرة , ساهرة , تحافظ على زوجها بقربها بدل أن تستسلم للنوم , فيغافلها هو ليسلب في الظلام موعداً . . للقاء في سرير وفي عمق بياض النهار ! .
أمرتني :
- كفي عن الضحك ! .
فكرت :
ذنبها إنها نحيلة , وزوجها يشتهي النساء المترهلات , لماذا لا تعتني بصحتها ؟ لماذا لا تحشو جسدها بمآكل الأرض , لتحارب الأرملة المنافسة ؟ . . وضحكتُ . .
فلمست كتفي تهزني بعنف , وإذا يدها تغوص في بركة المياه الغائرة في ثيابي . عندها غمغمت , يهزمها حنو الأمومة فيها :
- أسرعي , وانزعي هذه الثياب المبللة عن جسدك ! . . أسرعي . .
فاغتنمت فرصة ضعفها أستفهمها :
- هل تسلفينني خمسين ليرة , أعيدها لك آخر الشهر ؟
يبست مكانها . وثقلت يدها على كتفي , تنوي تحطميه , ولم تجب , إنما دفعتني بسخرية إلى غرفتي , وهربت . .
لتتلقاني نظرات واسعة تطلقها أختي الكبرى من خلال زجاج نظارتيها . وتتبعها نظرات براقة , تسلطها على وجهي فقط , أختي الشقراء الصغرى .
أما بسّام الصغير , المدلل , فكان يتلهى ببندقية حمراء جديدة .
قفزت الشقراء عن الكرسي , و زقزقت تحاول انتشالي عن الباب :
- ستتحقق كل أحلامنا . هيا اذكري فقط أسماء ما تنوين شراءه من ثياب لهذا الشتاء . الأسماء فقط .
ومدت يدها في الفضاء بحركة تمثيلية , و أحنت رأسها مرت عديدة , تتصنع ضجراً في انتظار تساقط الكلمات من بين شفتي . وأسرعت السمراء تفسر :
- سنرفع اللائحة بمشترياتنا إلى الوالد الغني , السخي , العطوف .
و تبادلتا نظرة ماكرة . فكرت , وعبارات هذه الأخت الكبرى ترتد عن أذني , كأنها آتية من جوف علبة زجاجية مغلقة :
هذه شقراء , وتلك سمراء . هذه البنت الصغرى , وتلك البنت الكبرى . هدف الشقراء أن تتزوج , وهمّ السمراء أن تجمع أكبر عدد ممكن من الشهادات .
وأنا لست سمراء , ولست شقراء . لا يهمني كل الرجال . و لا تغريني أية درجة ثقافية . وعبثاً أنقب في نفسي عن صلة بهؤلاء الأشخاص . فأنا اعتدت وجودهم حولي , أحتك بهم ولا أحسهم . أنظر إليهم ولا أراهم . أنهم عندي تماماً كالأشجار , والأنهار , والنجوم , والحجارة . أشياء لا تناقش , لأنها من صنع غيرنا , و لأنها معدومة الحركة لن تؤثر في الخفقان المتجدد فينا .
نبهني صوت الصغرى يلح بميوعة :
- انطقي الأسماء . . الأسماء . . الأسماء . . فقط .
أخرستها بشدة :
لن أحتاج إلى كيس الوالد هذه السنة , ورعايته , وكرمه . حصلت على وظيفة .
صرختا معاً :
- كيف ؟ أين ؟ ماذا ؟

و خيل إليّ أن الزجاج يذوب , ويذوب على عينيّ الأخت الكبرى , وأن في عينيّ الأخت الصغرى رجالاً اقزاماً , حاصرتهم العين وهم في مكاتبهم يدخنون , ويصفرون , ويغازلون .
وانقضت الشقراء عليّ تتحسس كتفي وعنقي بأصابعها الجامدة , كأنني استحلت كائناً خطيراً , مزاحماً لها . فدفعتها بعيداً , أزمجر :
- سأقطع يدك إن لمستِ عنقي مرة أخرى ! .
فأخرجت لي لسانها , و هربت . وسألتني الكبرى , بوجل :
- هل جننتِ ؟ كيف ستعملين . . .
قاطعتها :
- اهتمي بشؤونك !
فلملمت هيكلها الدقيق , و ركزت النظارتين على أنفها تنوي الانسحاب , فاستوقفتها أوشوشها عند الباب :
- أعطيني خمسين ليرة , أعيدها لكِ آخر الشهر .
فضحكت بحزن :
سأقرضك الخمسين ليرة .






صورة مفقودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى