منتصر القفاش - ويصعد... قصة

منتصر القفاش.jpg

نظرة من بعيد، تكشف خط الأفق وهو يفتح فى المشهد كله ثغرة، تمنح من بين ثنايا الأشياء، رؤية فتحة الجب...... التى تستقر عندها الأعين مستشفة امتدادها لنقطة تضم كل ما كان.
آثار أقدام لا يحجب تداخلها توقها لنقش الخطو على الأرض الصلبة قبل أن تغيب داخله.
يعرف كل هذا..... ويعرف أن كفه لم تزل كما هى، ترتعش قليلا حينما تبدأ فى تضفير الحبال، وتضم أصابعها وتفردها، متذكرة الطيور التى حبستها برهة ثم أطلقتها للأفق.
أتاه الشيخ بالأمس، وقص عليه الرؤيا، كعادته حينما يريد إخباره بحلول الميعاد، لكن فى هذه المرة، شعر وكأن الزمن ترك أثرا فى صوته .... كان أكثر عمقا، وفترات الصمت تطول بين الكلمات ..... "أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه..."
يقول ويرحل.
ظن فى البداية حين طالت فترة غيابه، ان المكان خطأ، وأنه يخالف ما ذكر عنه فى الكتاب، حاول ان ينفى الظن، فهى ليست المرة الأولى التى يصل فيها.... وليطمئن قلبه فتح الكتاب، وأخذت أنامله تقف عند بعض الكلمات ....بغصنين.... فى قعر الجب تنين فاتح فاه ..... الجرذان ..... كوارة العسل....
اطمأن وظل ينتظره.
تمنى أن يكون هذا المكان آخر الأمكنة، وهذا الحبل المضفور آخر الحبال ... فى كل المرات السابقة غمرته هذه الأمنية، ما تلبث أن تختفى بمجرد أن يدلى الحبل داخل الجب، فيتكشف له أن ساكنه رحل. ورغم هذا، يشعر به دائما لصقه، وربما وهو يعد الحبال يحاوره ويحكى رحلته له من مكان إلى آخر.
فى المرة الأولى ، حينما وقف على أول الطريق، وقُصت عليه الرؤيا، لم يتحملها وشعر لحظتها بمدى وحدته..... حكى لأحد العابرين، حدق فيه ثم قال له:
ــ لا تقلق، هاجس ويمضى........
لم يصدقه وسار خطوات حتى وصل إلى المكان .... أوقف عابرا آخر وسأله فأشار إلى صفحات الكتاب وقال:
ـ لم يعد هذا زمانها ، ولا المكان مكانها .......
أيقن أن وحدته ليست عبثا. وأنها رفيقته إلى المنتهى.
يفتح نافذة الغرفة، ويرى الطيور الصغيرة، وهى تندفع نحو الداخل، لا يهشمها، فقط يسمح لهذا الشعاع الشمسى أن يمتد من تحت أرجلها الدقيقة ليضمها جميعا، ثم يفردها حبلا يوصله بالحبل المضفور.
تأمل حوائط الغرفة، وتوقف عند الكوة الموجودة قرب السقف، والتى تكشف جزءا من السماء..... لم تغب الشوراع، بل صار يراها سهما يسقط فى الأفق،والطيور تحوم فوقه كنجوم تتجاذبها الكواكب وآثار الأقدام المتداخلة .... ارتفع صوت التساؤل القديم..... أقدام من تلك ؟ يوقن أن الجب يسكنه واحد، وأنه لا يوجد غيره من يعرف الحكاية من بدئها لمنتهاها ... هل هو الزمن أيضا من غير آثار أقدامه، وجعلها تبدو كأقدام لعديدين، أم أن الكثرة جزء فى الوصول إليه..؟ ارتاح لهذا الهاجس الأخير... فها هو ينتقل من مكان إلى آخر، والمراد جب واحد، يدلى الحبل فيه ويخرجه.
يحكى له الشيخ قبل قص الرؤيا، أطرافا من حكاية ساكن الجب ... رماه آهله حينما أخذ يكشف لهم رؤاه، وتصدق بعد حين، ويؤول أحلامهم فيكشفهم .... خافوا منه،
وحسبوه مستطيعا المنح والمنع، وأنه ليس منهم، فقذفوا به فتعلق بغصنين كانا على سماء الجب،ثم نظر فإذا فى قعره تنين فاتح فاه، فرفع بصره إلى الغصنين فإذا فى أصلهما جرذان وهما يقرضانهما دائبين لا يفتران.... وابصر قريبا منه كوارة عسل، فذاقه فلم يزل مشغوفا بتلك الحلاوة ..... حتى صار ساكنا للجب[1]
فرغ الآن من تضفير الحبال، عقد آخرها بشدة، حتى بدت العقدة كقبضة يد تحاذر من أن يفلت منها الحبل.
نظر إليه من بين ثنايا الأشياء ووجد الرمال وكأن هبأت ريح خفيفة تثيرها نهض من مكانه جوار النافذة .... وبحركة أتقنها بمرور السنوات، أدلى بالحبل داخل الجب ... أخذ يدلّيه فى حذر، خوفا من أن تقطعه أنياب الفم المفتوح، لم يرحل الساكن .... كان وجوده يكبر، ويداه كانتا مرفوعتين لأعلى، وقد غاص معظمه داخل التنين ... هبط الحبل .... ورأى ....كما حدس فى بداية الطريق... ساكن الجبل يشبهه... وكلما رحل إلى الجبل كان يقينه يزداد أن الشبه عارض وأنه هو فى الحقيقة.
استطال الغصنان ثم تداخلا ظلالا ينعقد على امتدادها أوراق خضراء، ظل يتتبع خطوطها المتعرجة فى صمت... وقبل أن ينتبه... كانت أنياب التنين تقبض على قبضة الحبل المضفور... وفى وهلة تسلق الحبل... وصعد... لم يتوقف عنده، ولم ينظره، فقط ابصر الجذوة المنزوية التى طالما أخفاها عن الأعين، ثم اتجه إلى الباب الموصود، فتحه وخرج فى صمت.


- سبتمبر 1988





[1] - الخط المائل من كتاب كليلة ودمنة، باب برزويه المتطبب (بتصرف...).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى