علي حسن - مي والذين معها.. بين الرافعي والآنسة مَيّ

أدباء عصر النهضة كثر! وعلى كثرتهم، جميعهم بلا استثناء، حجوا إلى بيت الأديبة النابغة، ودرة الزمان اليتيمة "الآنسة مي زيادة"، سواء كان البيت قديمًا في ١٤ شارع مظلوم عام ١٩١٣، أو في الطابق الخامس في ٢٨ شارع المغربي، قرب المعبد اليهودي بشارع عدلي عام ١٩١٤ أو صار بيتًا رحبًا فخمًا في ١ شارع علوي، خلف مبنى جريدة الأهرام منذ العام ١٩٢٧ وحتى العام١٩٣٢عندما ماتت أمها السيدة "نزهة خليل معمر" في ٢٨ فبراير١٩٣٢. ومَن لم يحج من هؤلاء راودته دعوة لطيفة من الآنسة بخطها الكوفي الرشيق، ليَطَّوَف بالبيت ممسكًا بباب الفكر والثقافة والفنون وسحر الشرق العتيق!

شخصيات جميعا تملك حضورًا وسطوةً أدبية لا يستهان بها، جميعها لعبت دورًا ثقافيًا وأدبيًا رسم خريطة الثقافة في مصر والعالم العربي على مدى تجاوز النصف قرن منذ ١٩٠٠ وحتى ١٩٥٢، فترة الليبرالية وحتى قامت ثورة يوليو، وغيرها من الثورات العربية التي أزاحت عروشًا وملوكًا واحتلالًا.
أحمد لطفي السيد، أحمد بك شوقي، شبلي شميل، إسماعيل باشا صبري، ولي الدين يكن، سليم سركيس، يعقوب صروف، الأمير شكيب أرسلان، الشيخ الفيلسوف مصطفى عبد الرازق، نجيب هواويني، عباس محمود العقاد، طه حسين، زكي مبارك، أحمد حسن الزيات، منصور فهمي، خليل مطران، أنطوان الجميل، مصطفى صادق الرافعي، وعشرات غيرهم، لا يستطيع أحد حصر اسمائهم إلا صاحبة الصالون.
كل واحد من هؤلاء الكبار سيأتي ذكره تفصيلًا فيما بعد في مقالات قادمة، فَهم رجال بمفهوم الشرق، هاموا حول امرأة وإن كانت تتحصن بالفكر والثقافة وتسع لغات تتحدث بهن في لسان طلق وبيان ساحر مذهل!
مصطفى صادق الرافعي، ذلك الأديب العلم، أعظم أدباء عصر النهضة بلا منازع، رغم أنه الحاصل على شهادة الابتدائية فقط لا غير من إحدى مدارس دمنهور!
كان لهذا الأديب تاريخ خلفي، يستحق تسليط الضوء عليه، طالمًا نريد الحق ونبتغي التأريخ لمرحلة مهمة، توضح طريقتهم في التعامل فيما بينهم، وحتى تتضح الصورة أمام شبابٍ لا يعرف الكثير عن هؤلاء، إلا ما أراد الأسلاف أن يوردوه، بتحفظ مبالغ فيه، وحيادية قلما نجدُ أثرًا لها.
ولأن التاريخَ هو الآن ماضٍ نحن نملكه، وبالأمس كان حاضرًا هم أصحابه وصانعوه، وما دامت الوثائق تحت أيدينا فنحن لا نهاب الدراويش، أو الذين يجندوا أنفسهم للدفاع عن مردييهم! فلا عصمة إلا للأنبياء. والتأريخ لحقبة عصر النهضة، سواء للآنسة مَيّ بمفردها أو بعلاقاتها مع هؤلاء الأدباء، طالها كثير من التجني، والظلم، وبحكم أنها امرأة، أصابها الكثير من الحيف والضيم، وخرج الرجال كعادتهم منتصرين، فرحين بما جلبته لهم ذكوريتهم من انتصارات زائفة كاذبة خاطئة!
لهذا الأديب "مصطفى صادق الرافعي مع "الآنسة مي زيادة" وخاصة بعد وفاته، الكثير من القصص وشطحات خيال أدباء فشلوا في كتابة رواية واحدة ذات قيمة، أو قصة قصيرة مؤثرة، فحاولوا أن يجربوا فن التلسين وإلقاء التهم جُزافًا على امرأة لن يجود الزمان بمثلها إلا إذا توفر لدينا ما توفر لهذا الزمان من ثقافة عميقة وعلم وتحضر وليبرالية حقيقية ورغبة في التميز والانطلاق، ومن أسفٍ أن هذه الأكاذيب نجحت وانتشرت وبقيت حتى صارت حقائق يجب علينا أن نأتي بالبراهين لدحضها وكشف زيفها!
نبدأ الحكاية من أولها؛ تمامًا وعلى نقيض هؤلاء أصحاب الخيال المريض، هؤلاء الفاشلون، ولا أقول الكاذبين، ولكن لكي نفهم علاقة الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي (١٨٨٠ – ١٩٣٧) بالآنسة مي زيادة" (١٨٨٦ – ١٩٤١) يجب علينا أن نفهم ونستوعب أشياء بعينها؛ شخصية الأديب مصطفى صادق الرافعي، شخصية الأديبة ميّ زيادة، علاقة الرافعي بالدكتور طه حسين والأستاذ عباس محمود العقاد، علاقة الآنسة مي زيادة بالدكتور طه حسين وبالعقاد. وبعدها سنعرف لماذا كتب الأستاذ الرافعي ثلاثيته العبقرية في الحب والوجد والحزن الشفيف "رسائل الأحزان ١٩٢٤، السحاب الأحمر ١٩٢٥، أوراق الورد ١٩٣١."
ومن بعد ذلك سوف نفهم رسائله لمي زيادة المرأة، ثم المبالغات والأكاذيب في كتاب "حياة الرافعي" الذي خطه الأستاذ محمد سعيد العريان في ثلاث مقالات في مجلة الرسالة، في أعدادها ٢٢٧، ٢٢٨، ٢٢٩ بتاريخ ٨ و١٥ و٢٢ من شهر نوفمبر عام ١٩٣٧، أي بعد وفاة الأستاذ الرافعي بستة أشهر تقريبًا، وفي أوج اندحار وانسحاق مي ووحدتها، حين كانت في العصفورية، تتلظى بجحيم القهر وسعير الظلم من بعض أفراد أسرتها، وهي التي اعتقدت أنهم سند لها ومؤازرون لها، وتحديدًا الدكتور جوزيف زيادة ابن عمها، حبيبها الأول والأخير!
مصطفى صادق الرافعي، واحد من كبار أدباء عصر النهضة، وأديب لا يقف أمام بيانه مَن اتخذ الأدب له حرفة، فقد وصف أُسلوبه الدكتور منصور فهمي بأنه " كالذهب في رنينه"، وقال عن بيانه الزعيم سعد زغلول: " كأنه تنزيل من التنزيل، وقبس من نور الذكر الحكيم" والزعيم كان مفوهًا، لا يعرف التسكين في وقفاته ليأمن السقطات والخطأ!
كتب "تاريخ آداب العرب" متطلعًا به أن يصبح أستاذًا في الجامعة المصرية عند نشأتها عام ١٩٠٨، لكن أحدًا لم يلبي رغبته وهو الحاصل على شهادة الابتدائية من مدرسة في دمنهور، وأسرته كلها عملت في مجال القضاء الشرعي، ووالده جاب أقاليم مصر قاضيًا شرعيًا ورئيسًا لمحكمة القضاء الشرعي في أغلب أقاليم مصر، منها دمنهور وطلخا وطنطا وهو المنتمي لأسرة عريقة أصلها من حلب الشهباء.
أصيب الرافعي بالتيفوئيد وهو صغير، ونتيجة للحمى فقد القدرة على السمع، وتدريجيًا فقد حاسته تمامًا حين بلغ الثلاثين من عمره، وأصبح معتمدًا في التواصل بين الناس على قراءة شفاهَهم أو على قراءة بعض الورَيّقات، التي يدونون عليها ما يردونه منه!
كان الرافعي شديد الحساسية نتيجة هذه العاهة التي أصابته، ولم يكن ليتهاون مع مَنْ يركن إليها في تعامله معه، وربما لم يتأثر بشيء مثل تأثره بهذه العاهة، وشعر بالنقص وسوء الطوية ناحية كل مَن يتعامل معه ويتناجى مع آخر في حضرته، وذلك من حقه، ومن موجبات الذوق والرقيّ أن لا يتناجى اثنان دون الآخر.
تزوج الأستاذ الرافعي عام ١٩٠٤ من سيدة عظيمة سليلة بيت كريم، أخوها هو الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة البيان، التي كتب الرافعي فيها كثيرًا من مقالاته وأشعاره في بداياته، وأنجبت له زوجته البنين والبنات، وكانت كأي امرأة في ذلك العصر، لا تهتم إلا بأولادها وبتربيتهم، فكانوا كما أرادا، لكن يظل الرافعي شاعرًا وأديبًا يحتاج إلى عروس إلهامه!
كان الزواج روتينيًا، كعادة كل أبناء هذا الزمن، لكن الرافعي أحب واختار ملهمته، فتاة من مدينة كفر الزيات، القريبة من مسكنه في طنطا، وكان يلتقي بها على جسر بلدتها، ثم يعود فيكتب الشعر متأثرًا بولهه ولوعته وحبه، ثم التقى بالآنسة مي عام ١٩٢٣ في حفل تأبين الأديب "فرح أنطون" وكلاهما يعرف الآخر حق المعرفة، وكيف لا يعرف كل منهما الآخر وهما الأديبان العظيمان اللذان ملئا الدنيا أدبًا، شعره ونثره ومقالات قرأها العامة قبل الخاصة!
دعته الآنسة مي لصالونها، وكان شرفًا لها أن تدعو صاحب تاريخ آداب العرب، الشاعر الذي لا يعترف بالشعراء ولا يشرفه أن ينتمي إليهم بل هو - كما يرى نفسه - أديبًا أريبًا لم يجد الزمان بمثله!
وكان يحضر مع الأستاذ الرافعي لمجلس ميّ وصالونها العامر، طه حسين وعباس محمود العقاد، الخصمان اللدودان اللذان لا يتهاونان مع كل مَن اعترض طريقهما أو تسبب في انحناء جبهتيهما، وقد كانا يظنان أن أحدًا غير قادر على خفض جبهتيهما قط!
بدأ الخلاف بين العقاد والرافعي عام ١٩١٢ عندما أصدر الرافعي كتابه "إعجاز القرآن" وكال العقاد له بكلتا يديه، وزاد وأفاض في نقده والهجوم عليه، وقال أنه ليس بإعجاز وإنما جمع الرافعي جملًا وعبارات مما كتبه الأولون، فكتب الرافعي عدة مقالات في مجلة "العصور" ينقد شعر العقاد ويسفه تفكيره وأدبه، ثم جمع هذه المقالات في كتاب اسماه "على السَّفود" كان نارًا حامية، شوى العقاد عليها، وأكل لحمه ناضجًا ولذيذًا ساخنًا. ثم قام العقاد، وما أدراك ما العقاد! فليس من عادته الاستسلام أبدًا، وكذلك لا يجرؤ أحد الوقوف أمام قلمه الجبار أبدًا، وزاد الصراع بينهما حين أصدر العقاد مع الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كتابًا من جزأين، بعنوان "الديوان في النقد والأدب" صدر الجزء الأول في يناير عام ١٩٢١ ثم تبعه الجزء الثاني في العام نفسه، يكيل الرجلان في الجزأين نقدًا لاذعًا، شديد القسوة فجًا لأمير الشعراء شوقي وعبدالرحمن شكري والمنفلوطي ومعهم مصطفى صادق الرافعي.
أما الدكتور "طه حسين" حينما كان طالبًا، وكان من عادته، إذا أراد أن يُهلِك كبد أحدٍ من غرمائه، لا يقول سوى: " قرأت فلم أفهم شيئًا مما قرأت وأراد الكاتب قولَه!"
كان طه حسين طالبًا في الجامعة المصرية القديمة، حين أصدر الرافعي كتابة الأكبر "تاريخ آداب العرب" فهاجمه الطالب الفسل، وردد في بعض مقالاته التي كانت في بداياتها، أنه لم يفهم شيئًا، وأنه يعلم أن المؤلف أديبًا، وليس مؤرخًا، فلماذا يتعرض الأديب لتاريخ الأدب، وهو البعيد عن تخصصه؟
ثم تمر الأيام، ويتوالى كر السنين، ويصدر الرافعي كتابه "رسائل الأحزان" الذي يعتز به ويتفاخر بأنه يحلق في عالم الأدب بين القراء، وقد كتبه في ستة وعشرين يومًا فقط! ومع هذا فقد جاء الكتاب حجة في البلاغة والبيان، عظيم في الأسلوب والمعنى، وهو أول كتاب من ثلاث كتب وضعها في ملهمته الجديدة "مي زيادة".
ومع هذا قال طه حسين في جريدة السياسة الأسبوعية أن الكتاب لم يأت بجديد، وأنه طلاسم لا يستطيع فك رموزها! فاشعل بذلك نيران معركة لم تنتهِ بينه وبين الرافعي الشرس! وانتظر الرافعي وتحين الفرصة حتى جاءته على طبق من ذهب.
قامت الدنيا ولم تقعد حول كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" فسن الرافعي السكين، وبكل صدق استطاع أن يذبح طه حسين، بعد أن طرحه على الأرض ممددًا لا حول له ولا قوة! كتب الرافعي عدة مقالات في مجلة "كوكب الشرق" خاطب فيها ود القارئ المحافظ، وناشد هبة المدافعين عن دينهم، ورحب بهذه المقالات صاحب المجلة، إسماعيل باشا مظهر.
ألهبت هذه المقالات مشاعر القراء، فصبوا جام غضبهم على الكافر الملحد "طه حسين" الذي رفع الراية البيضاء سريعًا وأعلن أنه لم يقصد شيئًا، بل إن كتابه لا يتعدى البحث العلمي، ثم غير بعد ذلك عنوان الكتاب إلى "في الأدب الجاهلي" وحذف بعض الجمل من الكتاب، تلك التي أثارت الرأي العام، والأزهر، ولولا أن رئيس النيابة كان رجلًا مثقفًا لما استطاع الدكتور طه حسين الفكاك من هذا المأزق.
جمع الرافعي مقالاته ضد طه حسين في كتاب اسماه "تحت راية القرآن.. المعركة بين الجديد والقديم" فكان لهذا الكتاب صدًا عظيمًا في نفوس القراء، وربح الرافعي جولة بألف جولة، ومعه عامة الناس والأزهر والمحافظين.
تلك كانت علاقة الرافعي بطه حسين والعقاد، خارج الحلبة، فما بالك حين يدخل الجميع حلبة واحدة، ويجمع بينهم صالون واحد، هو في الظاهر صالونًا، ولكنه في الحقيقة ساحة قتال لن يترك واحد منهم وسيلة تسمح له بالانتصار والفوز على غريمه إلا واستغلها!
لامس صوت "الآنسة مي زيادة" أذن طه حسين في يوم الخميس ٢٤ أبريل ١٩١٣حين استمع إليها لأول مرة، في بهو الجامعة المصرية، عندما أنعم الخديوي "عباس حلمي" على شاعر القطرين "خليل مطران" بالوسام المجيدي الثالث، وحضر الحفل الأمير "محمد علي توفيق" ولم يعر طه حسن لأحد اهتمامًا قط، إلا "الآنسة مَيّ" الخطيبة المفوهة، وصاحبة الصوت الرقيق، والكلمات البليغة، في حضرة فطاحل الأدباء والشعراء!
عشقها "طه" بأذنه، بينما عشقها الرافعي بعينه، حين التقى بها في القاهرة أثناء حفل تأبين "فرح أنطون" في مارس عام ١٩٢٣، ويومها رأى الرافعي ملهمته، وإن كان لم يسمع شيئًا مما قالته!
من هنا نبدأ، ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف للعاهات أن تتحكم، وتصول وتجول، كيف لكفيف أن يحارب من أجل مَن عشق صوتها بأذنيه، وكيف لأصم أن يصارع من أجل ملهمة عشقت عيناه جمالها الأخاذ، وكيف إذا اجتمع الخصمان المتيمان عشقًا في حضرة المعشوقة الملهمة؟
لا ريب سيتقاتل الخصمان، والصراع بينهما يزداد أَوجَهُ حين يندس بينهما مصارع ثالث، وهو العقاد!
لقد ارتاب الرافعي من تهامس هؤلاء الأنداد، وغضب بعد عدة جلسات، حين شعر بهواجسه وعُقَده، وأن ميًا تفضل ضيوفها عليه، وانهالت الرسائل من الرافعي على مي منذ الليلة الأولى لحضوره الصالون!
أرسل الرافعي لمي خمس رسائل في غضون شهر واحد عام ١٩٢٣، أعرف أنني أشق على القارئ إذا ذكرت ما تحتويه هذه الرسائل، ولكن لا ضير إذا اختصرت بعض ما فيها، وأتيت بشيء يزيد الصورة وضوحًا وجلاءً، وتنجلي بذكرها الحقيقة وتنصَع كالنهار بعد ظلمة ليل دامس وأكاذيب يستطيع دحضها كل لبيب بغير عناء!
حج الرافعي إلى صالون "مي زيادة" للمرة الأولى، يوم الثلاثاء الموافق ٦ مارس ١٩٢٣، ثم بعدها بيوم واحد أرسل من بلدته طنطا، التي يقيم فيها مع أسرته رسالةً يقول فيها: "سيدتي الآنسة النابغة.. ثم ختمها بعبارته "حفظك الله للفضل والأدب وللمعجب بك" وقيد توقيعه باسمه كاملًا، مصطفى صادق الرافعي.
فما زال الرافعي يبحث عن ملهمة ينظم فيها شعره، ويهيم فيها حبًا فيناطح نثره رقيق الشعر.
ولأن الرافعي رجل صاحب دين وخلق، فلم يكن سهلًا عليه أن يستشعر الخيانة، أو يسقط في براثن الحب والوجد وهو الزوج والأب لحفنة من الأولاد. فما كان منه إلا أن أخبر السيدة زوجته، بوجده وهيامه بالآنسة مي قائلا لها أنه ينظر إليها على أنها ملهمة للقصائد، وباعثةً إلى الكتابة، وما الرسائل بينهما إلا وقود يحتاجه الإبداع وينشده!
اتفق مع السيدة زوجته على أن تقرأ رسائله قبل أن يرسلها إلى ملهمته، وتقرأ رسائلها حين ترد إليه! كان هذا كما نقول: عقدٌ بينهما والعقد شريعة المتعاقدين!"
كل ما كان يصل إلى الرافعي من مي، وما أندره، كان يمر على زوجته قبل أن يتسلمه الرافعي بقلبه ويده، وكل ما يبعثُ به إلى مي من هيام أو سخط وغضب، كان يأخذ جواز مروره إلى مي من خلال السيدة زوجته!
مع كل هذا؛ أرسل الرافعي برسالة ثانية يوم الاثنين ١٢ مارس ١٩٢٣، بمجرد أن استلم رسالة من مي، ولو انتظر لقابلها في صالونها العامر بعد يوم واحد فقط! لكنه كتب يقول: "سيدتي، تلقيت رسالتك باليدين، وكنت أحسبني جئت باختراع في "أما قبل" فإذا بك أبطلتيه بما أتممتِ عليه وبما ابدعتِ من قولك: " أما قبل تُبشر بأما بعد".
ولم ترد مي على هذه الرسالة، فكتب الرافعي يوم الجمعة، الموافق ٦ إبريل ١٩٢٣ رسالة يقول فيها: "سيدتي الفاضلة.. ثم طلب منها ما لديها وما تحفظه من أشعار إسماعيل باشا صبري، ثم ختم رسالته قائلًا: أرجو ألا تذهبي بالضن بهذه الأبيات مذهبك مع كتاب أرسلته إليك، فكان كلامًا لمن لم يقبله بذلناه، وسلامًا لمن لم يُرده أرسلناه، وقولًا يا ليتنا ما قُلناهُ، والسلام."
كان الرافعي رحمه الله عجولًا، شديد الحساسية، لا يقدر على الصبر، ثم كان غضوبًا، شديد الثأر والأخذ، فعاجلته الآنسة مي بما طلب من أبيات إسماعيل باشا صبري اتقاءً لغضبته وثورته، وكان رحمه الله لا يقدر أحد على صد نقده أو الوقوف أما أعاصيره!
أرسلت مي الأبيات كما طلبها الرافعي، ثم وصفته بأنه "صاحب البحور والأوزان" ولأنه لا يحب وصفه بالشاعر، ويحتقر الشعراء ولا يريد الدخول في زمرتهم، فلقد رد عليها برسالة يوم الخميس ١٢ إبريل ١٩٢٣ذكر فيها: "أرجوك أن تخففي من ايلامي باعتباري من أهل البحور والأوزان، وأهل القريض، وما التف بهذا المعنى الذي دار في كتابك إلى جهات، فما كتبت ما كتبت من تاريخ الأدب، إلا لأخرج نفسي من هذه الفئة، وهم على ما رأيت في بلادهم وفي أنفسهم سواء، ولست أكره إلا أفعالهم وطباعهم، ومن مشاهيرهم ما لم أره حتى الآن، وأشهرهم رأيته مرة واحدة، ولم أعد!" ثم وصفها بأنها "سيدة القلم العربي في التاريخ كله".
ثم حضر جلسة في صالونها، لم يكن الترحيب به كما يرغب، ولم يرق له انشغال مي مع ألد أعدائه العقاد وطه حسين وانصرافها عنه، فخرج غاضبًا، بعد أن شعر بأنه غير مرغوبٍ فيه مُهانٌ. ثم في حديقة قصر النيل بعد أيام خط بقلمه قصيدة لمي، ثم بعث بها مع رسالةٍ بتاريخ ٧ يوليو ١٩٢٣، ليست إلا عتابًا وسخطًا من عاشق آلمه الصد والجفاء!
لم ترد "مي" على رسالته، ولم يحضر الأستاذ إلى الصالون الذي يعشقه، ولم تسأل مي عن سبب غيابه برسالة رقيقة، فأرسل يوم الاثنين١٠ سبتمبر ١٩٢٣ برسالة قال فيها: "حضرة الفاضلة.. أما بعد، فقد حطمت القيود، وستعرفين ذلك، وتالله ما كنت أحسبك في أدبك ورقتك ترمينني قبل هذا، ولكن كم تصنع الجرأة وكم تَغُرْ، ولعلنا ابتلينا بطه حسين مذكرًا ومؤنثًا، والسلام. مصطفى."
وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير كما يقول الأعراب، وأهل البلاغة، حين كتبت "مي" في بداية عام ١٩٢٤ مقالةً عن " عائشة التيمورية في جريدة المقتطف، تناولت فيه المتطفلين الثقلاء، وشعر الرافعي أنه المقصود بهذا الوصف، حيث قالت مي في مقالتها: "أن عائشة التيمورية قد اضطرت إلى إخفاء أساها وحزنها من تطفل المتطفلين الثقلاء، تُخفيه احتشامًا وصيانة لكرامة الألم، وقيامًا بالواجب الذي يمتهنه أولئك الذين يُكْرِهون الناس إكراهًا على مخاشنتهم ومقاطعتهم، لأن الجفاء هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من تطفلهم.." وقالت ما لم يستطع الرافعي أن يحتمله، كأنه كُتِبَ خصيصًا له، فكتب هو برسالة مؤرخة في ١٩ يناير ١٩٢٤ قال فيها: "سيدتي.. لم أتناول المقتطف في يناير إلا اليوم، وقد كان منذ ورد في يد أخرى، وقرأت مقالك، فنفذ إليَّ من بعضه كلام مسموم، لا يكذبني فيه الحس أبدًا، وما كنت أحسبني أقع منك هذا الموقع! ولا أنا ممن يمضغون هذا المضغ، فإن كان لا يرضيك في الاعتذار إليك إلا أن اعتذر حتى من معرفتي بك، فتقبلي اعتذاري، ولك الفضل.. مصطفى"
فكتبت إليه "مي" وما أتعس حظها! إذ أوقعها أمام رجلٍ لا يستطيع أشد الرجال صمودًا أمام فصاحته، وغضبته وشكوكه وحساسيته المفرطة!
كتبت إليه مي تبرئ نفسها من هذا الاتهام، وتنكر أنها عنته بمقالها، فرد عليها الأستاذ الرافعي سريعًا برسالة متشككة في نواياها بتاريخ ٢٣ يناير ١٩٢٤ قائلاً: "استحلفك بحقك أنت، ألم أكن في خيالك بعض تلك الأسطر أو كلها؟ وقد استحلفتك فأجيبي" ثم كتب شعرًا يتمنى فيه وصلها ويُعَبر من خلال أبيات قصيدته عن حبه وهيامه بها، وحزنه لمعادته له.
وهدأت أخيرًا الأمور بينهما، لا تطفل ولا شكوك ولا ثورة، تطيح بالصداقة والود!
ثم في أوائل عام ١٩٢٤ صدر كتابٌ للآنسة "مَيّ زيادة" بعنوان "الصحائف" فأرسلت له نسخة، فتلقف الرافعي النسخة وأخذ القلم ليكتب رسالة قصيرة في ١٥ يناير ١٩٢٤ يعبر فيها عن سعادته بالكتاب، قائلًا: "سيدتي تلقيت هديتك الثمينة من كتاب الصحائف" الذي زاد في صحائف حسناتك، ولا ريب في أن كل كتاب تضعينه يتحول كتابًا في الثناء على فضلك وأدبك فيغني عن كثير، على أنه إن فاتني ثناء أهديه، لم يفتني واجب من الشكر أؤديه والسلام."
ثم بعد أن انتهى من كتابه "رسائل الأحزان" في ١٧ فبراير ١٩٢٤، حيث استغرق ستةً وعشرينَ يومًا في كتابته، سلم الأستاذ فؤاد صروف نسخة ميّ، فلم يتلقَ رسالة تفيد بتسلمها الكتاب، أو تشكره، فبعث إليها برسالة من طنطا قال فيها: "كانت النسخة الأولى التي خرجت من رسائل الأحزان، هي التي سلمتها للصديق فؤاد صروف، ليرسلها إليك، وقد أرسلها كما أخبرني، غير أني ما زلت أخش أن يكون خادمهم طمع فيها بتأثير اسم الكتاب عليه، وإلا فإن كانت قد وصلت وقوبلت بهذا الصمت الطويل فذلك شر من فقدها!"
ومن الطريف أن الرافعي على قدر جلاله وكبريائه وعظيم مكانته، كان يفرح إذا جاءه خبرٌ أن ميًا تذكره بخير، أو تمدحه، لذلك، نراه يرسل إليها برسالة في١ سبتمبر١٩٢٤ يقول فيها: "سيدتي.. قدم إلينا أخي محمود، فأخبرني بما لقى من سلام التحية عندك، وما وسعك من أدبك وفضلك، ثم وصف فأجمل، وأثنى فأحسن، ثم نقل إليَّ تحيتك الغالية، وقد جعلني مثابة شكره لك، وألزمني الكتابة في الشكر إليكِ"
هنا أرادت مي أن تأمن غضبه، وتحتفظ بهدوئه، فلا تثير حفيظته، فشكرته، فرد عليها في الحال برسالة مؤرخة بتاريخ ١٧ يناير ١٩٢٥ يقول فيها: "سيدتي الفاضلة.. لو جاءت رسالتك تلك من سنة لمنعت كتابين، وأُرَجِح أنها منعت ثالثًا كان يسوؤني جدًا أن أكتب فيه."
وهو ما كتبه فعلًا في أوراق الورد آخر ثلاثية الحب والأحزان وفلسفة الأحزان. لكن بعد هذه الرسالة ران السلام بينهما، وهدأ أستاذنا الرافعي، وكتب في١٠ يوليو١٩٢٦ رسالة لمي يقول فيها: "ها أنذا أكتب إليك وما أنا وحدي كتبت. بل هناك مَنْ يُملي، إن الأفكار تلح عليَّ شديدًا، وقد جاء ذلك الطيف فعتب واستعتب، ورضي وأرضى، أفلا يؤخذ الموكل بما تكفل به وكيله؟ لا أريد لكِ ولا لي هذا الموقف المتعب بالرضا الغضبان، والغضب الراضي، فليتها لم تكن صداقة إذا كانت لا تبقى كما هي، ولا تنقلب كما تكون العداوة، وأنا واثق أني غير متطفل إذا قلت لكِ إني في حاجة للعودة إلى ذلك الينبوع الحي الكامن في داخلي، إن لك يا مي كلمات تكتبينها فلا تمسين الصفحة بقلمك بل تمسين هذا القلب، ولقد بالغتِ في إيلامي بكثير منها، لأنها تصنع في قلب واحدٍ ألم قلبين. هل قرأتِ كتاب طه؟ وهل رأيتِ شيئًا مما كتبته عنه؟
انتظر ردكِ، فلا تُسيئي إليَّ وإليكِ معًا، وهبي الذنب كان مني، فليكن منك الذي هو أحسن وأجمل، ولعل هذا يرضيكِ، والسلام. مصطفى"
وكان آخر رسالة للمرحوم مصطفى صادق الرافعي أديب الشرق الأول بلا منازع إلى محبوبته "الآنسة مي زيادة" بتاريخ ٢٥ ديسمبر ١٩٣٣ تهنئة منه بعيد الميلاد المجيد قال فيها: "أرجو أن تتقبلي مني خالص تهنئتي بعيدك، ما استزيد الله لكِ منه، واستديمه عليك داعيًا أن يحفظكِ للعربية غرةً لائحة في مجد آدابها، ودرةً واسطة في عِقد كُتابها، والسلام. مصطفى"
ما كتبنا شيئًا إلا من وثائق، وما هو إلا تاريخ عظيم لعظماء، هم بشر، وليسوا ملائكة وليست مي قديسة، وأجمل ما في تراثهم أن الحب عندهم يستحق الألم والصبر ويستحق الحياة من أجله والكتابة عنخ بعز وفخر، وأحيانًا بألم وعناء.

علي حسن / مصر
أعلى