ياسر أنور - البلد والبلدة في القرآن الكريم

تحدثنا في مقالة سابقة عن (طريقة) القرآن في الاستعمال اللغوي والدلالي لكلمتي (القرية) و(المدينة)، وقلنا إن كلمة القرية تستعمل أكثر إذا كان المعنى المقصود هو الناس وطبائعهم وأحوالهم ، مثل قوله تعالى وتلك القرى (أهلكناهم) لما (ظلموا) ، فلم يقل (أهلكناها) لما (ظلمت ) ، وقوله تعالى: وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ، (أهلكناهم) ، فلا ناصر( لهم). ومعلوم بداهة أن الذي يخرج هم سكان القرية . وفي قوله تعالى فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد، فيتضح أيضا برغم صورة الإفراد في جميع كلماتها أن المقصود هم الناس ، وذلك في عبارة (وهي ظالمة)، فالناس هي التي تظلم لا الأبنية، كما أن ذكر كلمة قصر هنا ، دليل آخر ، على أن القرية (التي هي الناس) يمكن أيضا أن تحوي مباني فخمة كالقصور، فالقرية لا تعني مجرد الزروع فقط، فالقرية قد تكون مدينة والمدينة قد تكون قرية ، ولكن الفرق دائما هو المعنى المقصود .، فكلمة المدينة تستعمل عندما تكون الدلالة المقصودة هي فكرة (الحدود الجغرافية) التي تضم مجموعة من (الناس) و (الأبنية) وليس الطبائع و الأحوال، فإذا ما انتقلنا إلى كلمة (بلد) أو (بلدة) ، فإنها تشير وفقا للاستعمال القرآني إلى قطعة من الأرض أو مكان من الأرض سواء كان به سكان أم أم لا ، ولذلك قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : رب اجعل هذا (بلدا) آمنا ، وقال : رب اجعل هذا (البلد) آمنا، وكان هذا البلد ساعتها مجرد واد غير ذي زرع غير مأهول بالسكان. وقال تعالى : وأنت حل بهذا البلد، فالمقصود هو المكان سواء كان به سكان أم لا ، وسواء كان سكانه مؤمنين أو غير مؤمنين، ولذلك قال في موضع آخر : والتين والزيتون ، وطور سنين ، وهذا البلد الأمين، فهو عطف على أماكن فقط ،بغض النظر عن حالة سكانه، فمكة بلد أمين برغم وجود الكفار فيه ، ثم هو بلد أمين مع وجود المؤمنين فيه، فحالته لا علاقة له بدين أو حال أو طبيعة من يقيم فيه.ومنه قوله تعالى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، فالمقصود هو التربة و المكان، وكذلك قوله تعالى : رزقا للعباد و أحينا به بلدة ميتا. وقال : والذي نزل من السماء ماء فأنشرنا به بلدة ميتا. فالمقصود هو تلك القطعة من الأرض. ويبدو من السياقات المختلفة للآيات القرآنية أن كلمة بلدة تشير عند استعمالها إلى مساحة أقل من كلمة بلد. وفي قوله تعالى : الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ، فالمقصود هو الطغيان في تلك البقاع سواء كان سكانها صالحين أم لا ، فطغيان فرعون وقومه لا علاقة له بأحوال الناس وطبائعهم ، ولكنه طغيان متأصل فيهم لنهب الخيرات من تلك البلاد ونشر الفساد فيها . ، أما في قوله تعالى:إنما أمرت أن أعبد رب هذه (البلدة ) الذي حرمها، واستعماله كلمة (بلد) مع (آمن وأمين) ، وكلمة بلدة مع (حرام) أو حرمها ، فهذا يمكن مناقشته في مقالة أخرى. .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى