حاميد اليوسفي - الحب في زمن كورونا

وقف عبده على بعد حوالي مائة متر من باب الدرب . لا يريد أن يثير انتباه أحد . منذ حوالي أسبوع وهو يتردد على نفس المكان . في المرة الأولى رآها رفقة أمها . أحست بأنه يتبعها ، فتخلفت قليلا ، والتفتت خلسة . ظل فقط يراقبها من بعيد ؟
تمنى اليوم أن تخرج بمفردها . رآها قادمة . تجاهلته ومرت بجانبه ، وهي تلعب بهاتف (سمارت) ، تنقله من يد إلى يد . تخلف قليلا ، ثم أحست بأنه يلاحقها بنظراته . التقت عيناهما صدفة . في الحقيقة لم يتحرش بها ، فقط غمزها لا شعوريا بطرف عينه اليسرى . لم يتأكد إن ابتسمت أم لا ، احمرار وجنتيها وحركتهما يوحيان بأن السهم أصاب الهدف . لأنها تضع كمامة تُخفي حركة شفتيها ، فهو لم يتأكد هل صدرت عنها ابتسامة خفيفة أم لا ، فتابع متغزلا بصوت عذب لا يخلو من ارتباك ، وهو يبادلها الابتسام من خلف الكمامة :
ـ زدت الشارع نورا بمرورك ؟! كل الفتيات سيغرن منك !
أنزلت الكمامة تحت ذقنها . الآن تأكد بأنها تبتسم . أضاف وهو يبتسم أيضا ، بعد أن أزال الكمامة ، وحملها في يده :
ـ أقسم بأنك جميلة وزيادة . آه من سحر العينين وقصة الشعر ، وتناسق لون صباغة الأظافر ، مع لون القميص والقلادة والعطر ، ووقع كعب الحذاء ، أي ذوق رفيع ، يغمر القلب بفيض من السعادة ؟
ابتسمت مرة أخرى ، ولم تقل شيئا . أحست بدبيب يسري في عروقها . اللعين التقط في لحظات وجيزة كل الأوصاف التي تميز مظهرها الخارجي الذي استغرقت وقتا طويلا في العناية به أمام المرآة . لم يسبق لها أن سمعت مديحا معسولا بهذه الحلاوة من شاب لطيف وجميل ، وخفيف الظل إلا في المسلسلات التلفزيونية .
سرح بها الخيال بعيدا . قد يكون طيف فتى الأحلام ، من يدري ؟ تعتقد أنها لازالت صغيرة على سن الزواج ، وقبل ذلك تفكر في الحصول على شهادة جامعية عليا تضمن لها دخلا واستقلالا اقتصاديا .
استهواها الغزل ، فخففت من سرعتها ، لكن بالمقابل ابتعدت عنه إلى الجانب الآخر من الشارع ، تريد اختبار مدى تعلقه بها . من هنا يمكن أن يتبادلا النظرات فقط . لا يستطيع أن يرفع صوته . لا بد أن يخجل من الناس إذا كان صادقا في مشاعره . لننتظر ونرَ ، هل سيحمرّ وجهه أم لا ؟!
قالت لنفسها :
ـ هؤلاء الشباب مثل أبطال المسلسلات التركية ، لا يحمرُّ لهم وجه . جيل أبي كما حكت أمي انقرض منذ زمن بعيد .
كلما دنا منها ابتعدت عنه ، وحافظت على الابتسامة كخط رجعة حتى لا يعتقد بأنها تتجنبه .
اللعين كلما التقت عيناهما غمزها وابتسم . احمرّ خداها خجلا . لم يسبق لها أن تعرضت لموقف مماثل . تحرش بها العديد من الشباب من قبل . لكن هذه المرة الأمر مختلف . قلبها ينبض بصدق ، شيء ما أصابها في صدرها جعلها تنشرح ، وتتمنى أن تطول الطريق أكثر .
عندما اقترب منها هذه المرة ، سَوّت الكمامة ، وقالت بصوت خافت :
ـ ممنوع الحديث عن قرب . ممنوع السلام . سيدنا كورونا يحذرنا من ذلك ، ويهددنا بأوخم العواقب !
أعجبه تعبير (سيدنا كورونا) ، والصوت الذي نطق العبارة ، تخيل أن فمها الصغير افترَّ عن أسنان بيضاء مثل البَرَد ، لكنه لعن حظه المتعثر . رفع بصره قليلا ، الحاجبان رقيقان يتخللهما سواد شديد ، يحرسان عينين واسعتين . العنق جميل يحيط به خيط جلدي رقيق ، تزينه قلادة فضية بحجر أخضر يميل إلى الزرقة .
استغرب كيف يستقبل بعض المغاربة سيدنا كورونا بمزيج من الخوف والتنكيت والغناء والرقص .
قال متذمرا :
ـ لعنة الله على سيدنا كورونا ! لم يظهر إلا في الوقت الذي وجدت فيه اللؤلؤة التي كنت أبحث عنها .
مر الوقت بسرعة . يبدو أن طريق الفتاة إلى البيت بدأ يضيق ، وعليه أن يوقف المطاردة . وقبل ذلك لا بد أن يتعرف على اسمها ، ورقم الهاتف إن أمكن .
طلبت منه هذه المرة أن يتوقف ، لأنها على أبواب الحي الذي تسكنه ، لكنه ساومها بطلبه ، وأقسم أن يتبعها حتى باب البيت إن هي رفضت . حارت في أمرها . لكنها في العمق لم ترفض ، ورأت أن معه حق في أن يحصل على إحدى هذه المعلومات إذا كانت ترغب في استمرار التواصل معه .
لم توافق ، ولم ترفض . أخذت العصا من الوسط ، وطلبت منه رقم هاتفه ، ووعدته برسالة الكترونية حالما تصل إلى البيت .
قدم لها اسمه ، ورقم هاتفه . وبعد أن كسب نصف المعركة ، قال لها وهو يبتسم :
ـ سلمي لي على سيدنا كورونا ، وبلغيه أن حجم الخوف والوقار الذي نكنه له كبير ، لكن اطلبي منه في المرة القادمة ، أن يخفف ضغطه علينا ، ويسمح لنا بالتواصل عن قرب ، فنحن لازلنا شباب نتنفس بشكل عال ، ولا نعاني من أمراض مزمنة . أخبريه أني تعلقت بك بصدق .
وهو عائد من نفس الطريق ، يدندن مع أغنية عاطفية ، يستمع إليها من الهاتف ، تملكه جزع خفيف . تذكر أنه سمع مرة أخاه الأكبر ، يشبه لأحد أصدقائه بعض بنات مراكش الأصيلات بنساء الأرياف الايطالية في التمنع ، لا يسقطن في شباك الحب حتى يخرج الجمل من سم الإبرة . وعندما يتأكدن من صدق مشاعرك يفتحن لك أبواب الجنة .

مراكش 12 مارس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى