جوزيفين بلا عنوان

كان المشهد ضبابيا ... تأتي صوره بطيئة و أصواته لا أقدر على سماعها ... و لكن حينما رأيته ملفوفا في طبقات عديدة من القماش الأخضر المزركش بٱيات مذهّبة كتبت بخطّ كوفي ... محمولا على ما يشبه المصطبة الخشبية فوق أكتاف الرجال تتعالى أصواتهم بالتكبير و الدعاء ... أدركت بيقين أنني لن أرى جدّي مرّة أخرى ... و هالتني الفكرة فوضعت يدي على فمي لأكتم صرخة أو سبابا ....
كان جدّي إستثنائيا ... مجموعة من الألوان و الروائح و الحكايات و الأزجال و غناء الأعراس الحزين ... نجا من حربين كونيتين و مجاعتين و عدّة أوبئة و جور الأتراك و الفرنسيين و ذوي القربى ... جاوز المائة محتفظا بسواد شعره و كامل أضراسه و لم تَعُزْه الحركة و لا النكتة و لا الفرحة بالزائرين ... و كان يؤكّد لي دائما أنّه " مغبون حديث " بعد رحيل الجميع الى قرى تتكدّس بيوتها فوق بعضها " كيف باكوات الحشيشة " ...
حين ولدت ... وضعني في غربال مليء بالنمل ... ثم خبّأني في برنسه و نمت بجانبه ليلة كاملة ... و لا تزال أمي تقسم الى الٱن أنه ختم القرٱن ليتلها و دموعه تتساقط على تجاعيد وجنتيه ... في سنتي الأولى ... بات في الجبل ليلتين و لم يعد الّا بعد ان اصطاد ذئبا و أطعمني "لاسوڨه" و كبده ...
بعد ذلك بسنين ... ذكر لي الأمر ... فأعلمته أن لا ذئاب في تونس فقط أبناء ٱوى ... فنهرني غاضبا : " ما فسداتك كان الكتب " ...
حين مرض مرضه الأخير طلب منهم : " هزّوني لحفيدي " ... بعض الهزال و أصفرار الوجه ... خبأته في برنسي و نمت بجانبه ليلة كاملة ... أحرسه من عواء الذئاب تحاول أن تأخذه فوق مصطبة خشبية لحفرة عميقة مليئة بالنمل...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى