عبدالسلام بنعبد العالي - في الازدواجية اللغوية عند عبد الكبير الخطيبي

«كل لغة هي، بمعنى ما، لغة أجنبية عن نفسها، عن إطارها القومي. لأن الأدب ينغرس في شجرة أنساب نصية، وهي نفسها شجرة أسطورية» – عبد الكبير الخطيبي


في رسالة كان عبد الكبير الخطيبي قد وجَّهها إلى جاك دريدا([1]) يصف فيها صاحب «النقد المزدوج» الوضع اللغوي في المغرب على النّحو التّالي: «من جهة هناك العربية والأمازيغية والفرنسية والإسبانية، ومن جهة أخرى، فإن العربية تجد نفسها في وضع ثنوي، أعني أنها تحيا جنيالوجيتين: الذاكرة المكتوبة، و”السّرد الشفوي المؤسس”»([2]). نحن أمام واقعين أساسين «ليس في وسع أي كاتب مغربي أن يلتزم الصمت إزاءهما». هذا «التقسيم» اللغوي كان تقسيمًا مؤسسيًا في عهد الحماية حيث كان التعليم يتمّ «تحت سلسلة من الممنوعات، حفاظًا على الفصل بين الجماعات: وهي دلالات مميِّزة عرقية ودينية، ومن ثمة لغوية بالضرورة. أكتفي بالتذكير ببعض السمات:

كانت العربية المكتوبة تمنع منعا كليًا في مدارس الطائفة اليهودية والمدارس الفرنسية –الأمازيغية.
كانت الأمازيغية ممنوعة في المدارس الفرنسية الإسلامية (وكنت أحد تلامذتها) وفي التعليم الإسلامي التقليدي.
كانت العربية تعتبر في الثانويات الفرنسية لغة أجنبية إجمالًا. لكن عمليًا، أنشئت مسالك موازية لتعلّم العربية والأمازيغية. ذلك هو عهد الحماية وحمايته للغات، ووضعها في وضعية حرب».([3])

وضعية الحرب هذه تحشر الكاتب ضمن حركة لا تتوقف بين هذه اللغات والثقافات. يستخلص الخطيبي من هذه الوضعية اللغوية ما يعنيه هو ككاتب فيقول: «بوصفي كاتبًا مغربيًا، لا يمكنني السكوت على واقعتين ذاتَي أهمية:

التكوين اللغوي الفعلي في المغرب عربي وأمازيغي، فرنسي وإسباني ولو بشكل هامشي، من جهة،
أما من جهة أخرى، فاللسان العربي مزدوج، إذ هو موزّع بين تراثين: أحدهما يعود إلى الذاكرة المكتوبة، فيما الآخر يعود إلى الحكاية الشفوية.

هذا ما يفسر احتواء المغرب لأربعة آداب متوازية، أحدها يكتب بالعربية، ويحيل إلى الأمة العربية الإسلامية (وليس عليها وحدها) وشجرة نسبها النصي. أما الثاني فهو أدب يرتحل بين الأشعار الشعبية والحكايات، والغناء وممارسة الشعوذة والطرق الصوفية، نظرًا لكونه يتخذ العربية الشفوية لغة، ولا يحظى بالتقييد والكتابة. أما الأدب الأمازيغي، وهو الأكثر قدمًا، فبالرغم من كونه خضع للاحتجاب، فهو يرتحل كذلك بين فضاءات ثقافية مختلفة من الثقافة الشعبية. وأخيرًا هناك الأدب الذي يستعمل اللغة الفرنسية، وهو ذو أصول مزدوجة. فليس من قبيل الصدفة أن يكون الكتّاب المغاربيون أسيري السيرة الذاتية، ذلك أن الكتابة بلغة أجنبية تشكل طريقة لتأسيس مشروعية فعل الكتابة. فالكاتب باللغة التي كانت أجنبية يقول في البدء: هذه هي ولادتي، وذلكم اسمي، وهذه أرضي، وذلكم قلبي الذي لا ينبض إلا من أجلكم»([4]).

يعمد الخطيبي، وهو يتوجه إلى دريدا، إلى إعطاء صورة مجسدة لما سبق أن قاله فيلسوف التفكيك حول التفرقة التي عاشها في الجزائر، فيميز هو كذلك بين الفرنسي-المغربي وبين «الكاتب المغاربي الفرنكفوني» انطلاقًا من تجربته هو مع اللغة الفرنسية، التي كانت لغة كتابة بالنسبة لمسلم شاب مزدوج اللغة تكوّن في المدرسة الفرنسية-المغربية تحت الحماية. نقرأ في الرسالة نفسها: «كانت الفرنسية خلال طفولتي لغة صامتة، موقوفة على القراءة، وعلى باقي التمارين المدرسية. إنها كانت لغة صامتة ولم تكن لغة ميّتة شأن ما كانت عليه اللغة اللاتينية أو الإغريقية بالنسبة للفرنسيين من جيلي. كانت تمثل لي واجبًا مدرسيًا، قسمًا من الدراسات، زهدًا كان يسجننا في محراب تخشّع وتشكك وتيهان. لم نكن نكلّم أحدًا. هذا اللاأحد كان محتجبًا، وكنت أحاذيه في المدرسة، في الشارع، هناك. كانت الفرنسية، بمعنى ما، لغة صمت مفروضة علينا. وكان علي أن أتأقلم معها، وأن أتعلّم الإصغاء إلى الصمت، همساته وصيحاته، انخفاته وانبهاره … هل مهدت قوة الصمت هذه طريقي إلى الكتابة، أعني أن أتخذ مسافة إزاء الكلمات، داخل اللغة، وأن أدركها وفق انتشارها المكاني والحركي على الدفتر، وعلى السبورة وعلى الكتاب؟ … إنها لغة نصف ميتة، لغة صامتة، منفتحة على حركات الطبيعة وعلى مناخها المعتدل. ذات يوم، أخذت اللغة الفرنسية تتكلم فيّ. باحتشام وحياء وخجل. تعلمت كتابة اللغة الفرنسية قبل أن أتعلم التحدّث بها. وبما أننا لا نتكلم مثل كتاب، كان عليّ أن أعاود الكرّة منذ البدء … تعلمت عن ظهر قلب، وبفعل ما يفرضه عليّ واقع الحال، عدم تماثل بين اللغات. ذاتَ يوم، احتجب الصمت. فأخذت أحدّث نفسي في مونولوغ داخلي»([5]).

مقابل «العضو المزروع أصلًا»، أي ما يضعه دريدا عنوانًا صغيرًا لكتابه «أحادية لغة الآخر»([6])، وهو عنوان يستبدل اللغة الفرنسية باللغة الأم، الغائبة عند «اليهودي الجزائري»، يضع الخطيبي ثنائية الفرنسية، لغة الكتابة، والعربية، لغة الكلام: «بهذا المعنى، فإن الأمر لا يتعلق باستبدال لغة الأم، وإنما يتعلق بلغة كتابة تتسم بازدواجية لا تصدق. لأن الأمر كان يتعلق بالتحدث بلغة والكتابة بأخرى. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلاف بين اللغات السامية واللغات اللاتينية، فإن الأمر كان يعني صراعًا لا هوادة فيه»([7]). لا يتعلق الأمر باستبدال اللغة الأم، وإنما باستبدال الكتابة بلهجة دارجة: «لأنه كان عليّ أن أتكلم لغة وأكتب بأخرى»([8]).

هذه الثنائية تضع الكاتب دائمًا في وضعية ترجمة. لأن هناك على الدوام حركة انتقال وترجمة بين لغتين، وحوارًا خفيًا بينهما لا يمكن لا رصده ولا فهمه. لا يعني هذا «أن الازدواجية اللغوية، أن تعدّد اللغات هو مجرد علائق خارجية بين لغة وأخرى-بين اللغة المصدر والهدف على حد قول اللسانيين-، وإنما هي عناصر تدخل ضمن النسيج البنيوي لكل فعل كتابة، لكل غزو للمجهول تعبر عنه الكلمات. في كل كلمة، وفي كل اسم أو لقب ترتسم دوما كلمات أخرى، كتابتها الضيفة. في كل كلمة كلمات أخرى، في كل لغة تقيم لغات أخرى»([9]).

يلفت الخطيبي انتباهنا إلى أن مفهوم ما تتعذر ترجمته «لا يعني هنا فحسب ما يشكل عائقًا لنقل لغة إلى أخرى، إلى لغات أخرى، وإنما يعني القوة الباطنية التي تسكن كل كتابة، أي تلك الازدواجية الفعلية (بين الصوت والمكتوب)، أقصد تلك الازدواجية اللغوية البنيوية التي ينطوي عليها كل لسان، وأعني تلك الحركة اللامتناهية بين الكلام والكتابة»([10]).

ذلك أن اللغة الأم تعمل عملها في اللغة الأجنبية: «تتم بين اللغتين عملية ترجمة دائمة، ويدور بينهما حوار خفي يتعذر كشفه وتبيانه … علينا أن نتبنى الازدواجية اللغوية، لكن، لكي نرى فيها تلك الهوة ومتعة الغريب التي ينبغي أن تعمل باستمرار في الهامش»([11]).

الازدواجية اللغوية مبدعة وخلاقة، وهي تدفع الكاتب إلى أن يكتشف لغته الخاصة. ذلك أن الكتابة، في نهاية الأمر، هي تجربة فقدان ما نملك désappropriation : «عندما أكتب، أقوم بذلك في لغة الآخر. هذه اللغة ليست ملكا لأحد»[12]. كل لغة هي بمعنى ما، لغة أجنبية عن نفسها. وهي، عندما تتجسد في كتابة، تنغرس في شجرة أنساب نصية تتجاوز صاحبها، ولا تعود تتبين شجرة نسبها. إنها تغدو غريبة حتى على نفسها. الكاتب عند الخطيبي، كما عند دريدا، لا يمكن أن يكون إلا «غريبًا محترفًا»[13] étranger professionnel. وهو غريب لا يكفّ عن الوقوف ضد وهم كل هوية متخشبة.

[1] A. Khatibi, Abdelkebir, « Lettre ouverte à Jacques Derrida », Revue Europe, n° 901, 2004, p. 208. Dossier « Derrida », sous la direction d’Évelyne Grossman

[2] A. Khatibi, Abdelkebir, « Lettre ouverte à Jacques Derrida »,

[3] المرجع نفسه.

[4] المرجع نفسه.

[5] A. Khatibi, « Lettre ouverte à Jacques Derrida », Revue Europe, n° 901, 2004, p. 208.

[6] J. Derrida, Le monolinguisme de l’autre, Paris, Galilée, 1996.

[7] A. Khatibi, Abdelkebir, « Lettre ouverte à Jacques Derrida »

[8] المرجع نفسه.

[9]ع. الخطيبي، Nationalisme et internationalisme littéraires”

” in Figures de l’étranger dans la littérature française, Denoël, Paris, 1987, pp. 201-214.

[10] المرجع نفسه.

[11] « Bilinguisme et Littérature », in Maghreb pluriel, Denoel, p. 179.

[12] A. Khatibi, Le scribe et son ombre, Paris, Éd. de la Différence, 2008, p. 119

[13] على هذا النحويعيد دريدا صياغة عبارة بروست: «لا نكتب أبدا لا في لغتنا الخاصة ولا بلغة أجنبية» أنظر

« On n’écrit jamais ni dans sa propre langue ni dans une langue étrangère.» Voir : Parages, Galilée, 2003. p47.
أعلى