أمل الكردفاني - لقاء في مكتبة عامة.. قصة قصيرة

إنني حين التقيت بذاتي فوجئت تماماً؛ لم تكن تطاق البتة. وقع ذلك الحادث في إحدى المكتبات العامة، المندسة في أحد الأزقة. إنني عموماً لا أحب القراءة وخصوصاً الكتب، غير أن ما لفت نظري أثناء عبوري مشياً من شارع لآخر هو تلك اللافتة التي تعلن عن مكتبة عامة خيرية. توقفت وتأملت المباني المحيطة ببمنى المكتبة. كان الزقاق يفصل بين حيين، حي بمباني فارهة وحي شعبي يقابله. في الواقع لا يحتاج الأغنياء للقراءة، كما لا يحتاج الفقراء للقراءة. إن من يحتاجون للقراءة هم أبناء الطبقة الوسطى. وبما أنه لم تعد هناك من طبقة وسطى، فالحال الذي توقعته هو أن تكون المكتبة خالية من الطراق. أكلني الفضول لتأكيد التوقعات فحشرت قميصي داخل البنطال حتى أخفي رثاثة ملابسي وشمرت الأكمام وصعدت سلماً ضيقاً أفضى بي مباشرة لباب المكتبة الضيق بدوره. تاكدت من صحة توقعاتي، إذ لم يكن هناك أحد بها، بل لم أجد موظفاً يقوم على شؤون المكتبة. درت حول الأرفف حتى سمعت صوت امرأة. صوتاً أجشاً، وكان يشي بامرأة من الحجم الكبير، وهذا ما كانت عليه بالفعل. امرأة محجبة سمينة، تقضم سندوتشاً كبيراً ولكنه يبدو صغيراً وهو محشور في قبضتها الضخمة. تخيلته يئن من ذلك ويئن حين تفتح فمها الواسع ذو الأسنان المتسخة وتقضم ثلثه، ثم تجهز عليه في ثلاث قضمات.
- آسفة ذهبت لشراء الإفطار..
- أول مرة أعرف أن هناك مكتبة في أحد أزقة منطقة الكوثر.
- مكتبة جديدة..
- من أنشاها؟
- منظمة خيرية..
- وهل هناك زوار؟
دارت حول مكتب قصير ثم فرشت مؤخرتها الضخمة على كرسي من كراسي المعاقين. كان بعجلتين كبيرتين.
ضحكت وقالت:
- انكسر الكرسي الوثير واضطررت لاستخدام احد الكراسي الخيرية.
قلت بود:
- هل يمكنني دعوتك لشرب بيبسي.
قالت:
- سفن أب.
نزلت واشتريت زجاجتين وعدت لها، فوجدتها تتحدث بهاتفها فحملت زجاجتي ومضيت أقرأ عناوين الكتب. عناوين بعضها مثير وبعضها ممل لا يدعو للقراءة وبعضها عناوين منفرة. إلى أن وقع على عيني عنوان كتاب.. كان من كلمة واحدة:..."أنت".
حسبت أنني قرأت العنوان خطأً، لكنني حين استللته من بين الكتب وجدت عنوانه "أنت" بالفعل.
أنا..
لا شك أنه مجرد خدعة من أحد المؤلفين التجاريين أو محتالي التنمية البشرية والبرمجة العصبية. وبغير اكتراث نشرت الغلاف الكرتوني ثم تراجعت إلى الخلف مذعوراً وسقط الكتاب من يدي... لقد رأيت وجهي.
حاولت التماسك، ثم انحنيت ففتحت الكتاب مرة أخرى. ورأيت وجهي. لا شك أنها خدعة، قلبت صفحة وجهي، ووجدت تعليقاً بسيطاً.. لا تفزع.. صُنعت أول صفحة من مرآة مرنة بلدائن خاصة. إنه ليس أنت.. إنما انعكاس صورة وجهك فقط. فهل أنت الصورة؟
قلت بثقة:
- لا.. بالتأكيد أنا لست الصورة..
وهنا احسست بأنني أغوص في أعماقي قليلاً، لقد فقد شكلي أهميته تماماً.. فنزعت قميصي من البنطال ثم فردت أكمام قميصي. بعدها فتحت الصفحة الثانية فوجدت جملة واحدة:
- جيد.. أنت تمضي قُدمًا..
حينها أحسست بالخوف.. أحسست بخوف حقيقي. وبيد مرتعشة قلبت الصفحة فقرأت سطراً قصيراً: "لا تشعر بالخوف..استمر إنك على الطريق الصحيح"..
طويت الغلاف وحشرت الكتاب بين الكتب، ثم وليت فراراً. كانت الموظفة مشغولة بأكل البسكويت مع المياه الغازية، ولم تهتم بخروجي.
- لماذا خفت؟
لا أعرف.. بل أعرف.. يبدو أن خوفي كان من اكتشاف ذاتي.. اكتشاف حقيقتي. تلك التي تندس بين الأفكار والعواطف والحركات في وشيجة متحايثة.. نعم.. إنها ذات بلا ملامح.. لأنها بلا وجه.. ولأن الوجه ليس أنا..
طوال المساء كنت أعيش في حالة من التناقضات النفسية. هناك رغبة ما في أن أعود لأكمل قراءة ذلك الكتاب، وهناك شيء ما يجذبني إلى الخلف، يمنعني من الاعتراف بقبحي. إنه ليس قبحاً في الشكل، لأن قيمة الشكل انتهت تماماً بمجرد أن فتحت الصفحة الثانية من الكتاب. كان ذلك مخيفاً، مخيف جداً أن يتم إقصاء ملامحك بهذه الطريقة الاحتيالية غير الأخلاقية والسريعة في نفس الوقت بحيث لا تمنحك فرصة لرفض النتيجة بل تدفعك للتأمين عليها والتسليم بها كحقيقة مطلقة. أدركت أن هذا الكتاب خطر حقيقي. نعم.. إذا كانت صفحتان منه فقط فعلتا كل ذلك، فكيف سيكون تاثير الصفحات الباقية.
في الصباح، عدت ودخلت إلى المكتبة وأنا أحمل زجاجتي مياه غازية وسندوتش طعمية، أعطيتها واحداً فأكلته في لقمة واحدة وهي تقول:
- طعمه ليس جيداً..
ثم خلطته داخل فمها فانتفخ خداها وهي تكمل حديثها الذي يخرج مكتوماً:
- ولكنني سآكله على أي حال لأنني جائعة..
قلت: سأذهب للقراءة..
لم ترد علي، وذهبت مباشرة إلى رف الكتاب، لكنني لم أجده..
عدت إليها وسألتها:
- هل هناك من دخل للقراءة بعدي..
قالت وعيناها تحولان من فرط صعوبة البلع:
- لا..
وبعد أن جرعَت من زجاجة المياه الغازية قالت:
- نعم.. تذكرت.. جاءت صبية صغيرة البارحة..
- صبية؟!!
- نعم.. منحتني شيكولاتة ثم دارت حول الأرفف وغادرت..
- هل كانت تحمل كتاباً؟
- لا.. لا أعتقد..
زرعت أصابعي بين الكتب وبحث فلم أجد شيئاً.. عدت إلى الموظفة وسألتها عن الصبية فقالت بأنها لا تعرفها..
- صفيها لي..
- هل هناك مشكلة؟..
قلت:
- لقد سرقت كتاباً..
قالت بذعر:
- أرجوك انسَ هذا الموضوع.. سيكلفني وظيفتي لو انتشر خبر سرقة الكتب أثناء دوامي..
قلت:
- لا تقلقي..فقط صفيها لي..
قالت الموظفة:
- سأحاول أن أتذكر..
لكنها فشلت في ذلك.. بل قالت:
- إنني لا أتذكر ملامحها جيداً.. هذه أهمية أن تكون للأشياء ملامح.. أليس كذلك؟..
ثم جرعَت من الزجاجة.. فتركتها ومضيت..
فتاة بلا ملامح..؟
ظللت لأسبوع كامل أعود واقف في ذلك الزقاق منتظراً ظهور تلك الصبية التي بلا ملامح.. ثم خطر لي خاطر غريب:
- ماذا لو كانت تلك الصبية هي ذاتي..ذاتي أنا.. ذاتي التي بلا ملامح..
وبيد مرتعشة أدخلت أصابعي داخل البنطال.. ثم أخرجت الكتاب...
"أنت"..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى