أدب السجون حنان عبدالهادي - مفكرون خلف القضبان (9) / الأبنودي وعيسى وحجاب رافقوه (1 من 2) جمال الغيطاني... السجين 37

السجن قد يقيد الأجساد، لكنه حتماً لن يقيد الأرواح، ولن يكبح جماح بركان الابداع، بل قد يضاعف ثورتها وفورانها، ويزيد اشتعالها.

وهذا ما حدث مع نخبة من المفكرين والكتاب والصحافيين والادباء والشعراء والمبدعين والعرب وغير العرب، الذين اقتيدوا الى السجن، في عهود متباينة، لاسباب سياسية في الغالب، وفكرية وثقافية ودينية أحياناً، أغلبها مفتعلة، تنحصر في عدم تأييد لمواقف الأنظمة من قضايا داخلية أو خارجية.

وبالرغم من صور الذل والاهانة والقمع، التي تعرض لها أبطال هذه السلسلة من حلقات «مفكرون خلف القضبان» - التي تنشرها «الراي» تباعاً في «فوانيس رمضان» فإنهم لم يركنوا أو يخنعوا أو يخضعوا أو «يبيعوا القضية»، بل ظلوا صامدين على آرائهم ومواقفهم، كما أن ينابيع الابداع ازدادت تدفقاً، فأثمرت أعمالاً، يتضاعف لمعانها وبريقها بتقادم السنين.

وفي هذه الحلقات نعرض لـ15 شخصية مصرية وعربية، من الرجال والنساء، زج بهم خلف القضبان لأسباب سياسية بحتة، ونعرض جانباً من معاناتهم ومأساتهم «وهذا هو الجانب المظلم»، أما الجانب المضيء، فيتجلى في أن تلك الشخصيات، استفادت من محنتها في انتاج وابداع روايات وقصص وأشعار وكتب، تبقى عنواناً مهماً لحقبة من تاريخ هذا الوطن، كما تبقى عنواناً على ان قائمة الابداع أعلى وأطول من أسوار السجون، حتى لو عانقت السماء.



عانى الأديب المصري الكبير والكاتب بـ «الراي» جمال الغيطاني كثيرا في السجن الذي عاش خلف قضبانه فترة لا تنمحي آثارها من ذاكرته، رغم مرور أكثر من 40 عاما عليها، حيث تعرض للتعذيب والضرب والإهانة حتى يعترف على زملائه لكنه آثر أن يسلم نفسه للموت، على أن يعترف على زملائه.

يقول جمال الغيطاني عن تلك الفترةـ وكان يتحدث في ندوة بعنوان «أدب السجون» نظمها مركز الدراسات العربية والأفريقية بالقاهرة ـ: «عانينا من الرقابة في الستينات وأسلوب التعامل البوليسي، وأتصور أن هذا كان أحد أسباب علاقتي القوية بالتاريخ، كنت مهموما بالبحث في تاريخ مصر، وبقراءة هذا التاريخ خاصة الفترة المملوكية، التي وجدت تشابها كبيرا بين تفاصيلها وبين الزمن الراهن الذي نعيش فيه».

في العام 1966 اقتحمت قوة أمنية شقة الغيطاني وأخذوا يفتشونها من الفجر وحتى شروق الشمس قبل أن يقتادوه بتهمة الانتماء لتنظيم «وحدة الشيوعيين»، وكان مشتركا فيه معظم المثقفين في تلك الحقبة... وقال الغيطاني: «كنت مهموما بهاجس الرقابة وهاجس المطاردة قبل أن أدخل المعتقل إلى درجة أنني كتبت عددا من القصص القصيرة عن السجن نشرت منها قصة رسالة «فتاة من الشمال» في مجلة الآداب في يوليو العام 1964، وقصة «القلعة» في مجلة الأدب اللبنانية العام 1964، وكتبت رواية كاملة عن فكرة المطاردة وظروف المطاردة، فقدت عندما اعتقلت العام 1966، والغريب أنني عندما دخلت المعتقل لم أفاجأ بالتفاصيل، فقد كنت أسمعها من زملائي الذين سبقوني في تلك التجربة.

في ليمان طره ـ حيث تم اعتقال الغيطاني ـ وجد زملاء كثيرين كان يعرفهم، منهم الشاعر عبدالرحمن الأبنوي وصبري حافظ وسيد حجاب... ويحكي عن تجربة اعتقاله في سنوات شبابه الأولى وهو في العشرين من عمره ـ قائلا «منذ فترة مبكرة اتجهت للفكر الاشتراكي الماركسي، وتعرفت على مجموعة من المثقفين الذين لعبوا دورا مهمّا في حياتي، كان على رأسهم صلاح عيسى ومجموعة خريجي مدرسة الخدمة الاجتماعية وتعرفت عليهم في منزل عبدالرحمن الخميسي».



وحدة الشيوعيين

في العام 1964 كان الغيطاني انضم إلى تنظيم صغير معظمه من المثقفين وهو «وحدة الشيوعيين» وكان الأب الروحي له هو إبراهيم فتحي واثنان آخران هربا من المعتقل، هما بهجت الناجي وعادل رفعت، وكانوا يكتبون تحت اسم مستعار «محمود حسين» وفي هذا العام ـ حسب قول الغيطاني ـ فوجئنا بحل الحزب الشيوعي المصري وحل الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني «حدتو» وقد تم نشر الخبر بطريقة بها ازدراء في الصفحة الأولى لجريدة الأهرام، حيث جاء بالخبر أنه تم حل ما يسمى بـ «الحزب الشيوعي المصري» أما «وحدة الشيوعيين» فقد رفضت الحل واستمرت في العمل التنظيمي.

في العام 1965 كان قرار جمال الغيطاني الذي اتخذه للخروج من التنظيم، فيقول «إن القرار تم اتخاذه في وقت واحد من دون اتفاق، وكان من اتخذ هذا القرار صلاح عيسى وصبري حافظ وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وأنا... وكان التنظيم أقرب للحلقات وأدين له بتكويني ومنحي أساسا لرؤية العالم حتى الآن».

الغريب أنه حدث شيء لم يكن يتوقعونه حيث كشف الغيطاني يقول «بعد الخروج من التنظيم في العام 1965 علمنا أن أحد الزملاء سلم أسماءنا إلى المباحث العامة».

سرد الغيطاني تجربته عن السجن قائلا «كنت كثير التفكير في السجن حتى يمكن القول إنني سجنت قبل أن أسجن، فعندما بدأت دخول الحياة الثقافية كانت ندوة «نجيب محفوظ» مراقبة، وكان وجود المخبر أمرا عاديا، وفي نفس الوقت كنا نسمع عما يجري في معتقل «الواحات»، وقد كتبت قصصا قصيرة من المعتقل قبل أن أدخل المعتقل منها «رسالة فتاة من الشمال» و«القلعة» و«أحراش المدينة» و«أمي»، حيث كانت فكرة السجن تشغلني وتملأني باستمرار» وكان الغيطاني يكره فكرة السجن حتى أنه يعلق على ذلك قائلا: «أنا لا أغفر لأي نظام ارتكب هذه الجريمة مهما كان».



مدمر البشر

وصف جمال الغيطاني قسم مكافحة الشيوعية في المباحث العامة في ذلك الوقت أنه كان عقائديا، فيتم اختيار ضباط لهم موقف عقائدي وبعضهم درب في أميركا مثل: حسن مصيلحي الذي استقال احتجاجا على الإفراج عن الشيوعيين، وكان ذكر اسمه يثير الرعب لأنه كان خبيرا في تدمير البشر وحياتهم الخاصة... وعن ذكره للأسماء كان الغيطاني قال: «أنا حريص على ذكر الأسماء لأنه لابد أن نعرف من عذبونا».

وفي العام 1966 تم اعتقال صلاح عيسى وتوقعنا ـ بحسب الغيطاني ـ أن دورنا قادم، وبالفعل في 9 أكتوبر من العام نفسه تم توقيف وحدة الشيوعيين ومجموعة القوميين العرب وبعض الأسماء الأخرى بالنسبة لي طرق الباب فجرا وكانت شقتنا صغيرة متواضعة ودخل الضابط ونتيجة الاقتحام أصيب أخي الأصغر «علي» بصرع تحول بعد ذلك إلى شيزوفرينا ولايزال يعاني منها، حيث نتج عنه التهاب في السحايا وأشياء كثيرة جدا تحملتها الأسرة.

ويواصل الغيطاني الحديث عن المعتقل الذي وضع فيه: «أتذكر أن تمام هذا العنبر كل يوم كان 2800 معتقل لا توجد بطاطين أو فراش أو أي شيء والكتب ممنوعة وحتى الخدمة ممنوعة ويكلف بها مساجين من «الليمان»، ومن عملية التدمير النفسي أن يبقى الإنسان بلا عمل وكان أغلبية المعتقل من الإخوان، وأشهد أن ما سمعته منهم كان مروعا... وعن التعذيب الذي وجدوه في المعتقل.

أما السجن في مزرعة طرة فقد منعت عنهم ـ بحسب الغيطاني ـ الجرائد والألوان حتى صور الأطفال والنساء، وقال: «حتى الجريدة لم نكن نراها، ومن ملاحظاتي اختفاء الألوان إذ كلها رمادي كذلك اختفاء الأطفال والنساء، وأذكر مرة جاءت لنا قصاصة ورق من «أخبار اليوم» كان عليها صورة ممثلة فكنا نتخاطفها وبعد أن خرجت في أول يوم كان المبهر لي هو الألوان».

ووصف سجن مزرعة طره بقوله «نحن في مزرعة طره كنا مثل قصة السندباد الذي نزل جزيرة بها وحش يربي البحارة ويسمنهم ليأكل منها واحدا كل يوم»... ثم يبدأ استدعاءهم للتحقيق في سجن القلعة.

يتذكر الغيطاني: «في يوم من الأيام بدأ سحبنا اثنين اثنين إلى المعتقل، وجاء عليّ الدور فترحلت مع الدكتور صبري حافظ ولمحت الجواب الذي ترحلنا به «ترحيل المعتقلين الخطرين فلان وفلان تحت الحراسة المشددة»... فكنت طوال الوقت أردد «أنا خطير» وطول الطريق من مزرعة طرة إلى القلعة كنت أودع الأشياء على أساس أني لن أراها ثانية، وهذا بسبب السمعة السيئة وما سمعناه عما يجرى بسجن القلعة».

وقال الغيطاني عن سجن القلعة: «كان وضعه مختلفا وأصبح بالكامل يتبع المباحث العامة ولا يوجد به أحد يرتدي زيا مدنيا، وعندما دخلنا لم تسجل أسماؤنا في دفاتر حتى إذا مات أحد تحت التعذيب فلا تقع مسؤولية على أحد، ويكتب الإنسان مثل العهدة حتى إذا مات يكتب أنه هرب في الطريق.

واستطرد قائلا: دخلت سجن القلعة وأصبحت من دون اسم ورقمي 37، والذهاب للحمام مرتين في اليوم السادسة صباحا ومساء، وبدأت أعرف الحبس الانفرادي، وفيه خلقت لنفسي برنامجا للاستغراق فكنت أستدعي في ذهني كتابا وأبدأ في استعراضه.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى