علي الستراوي - مبدعون جياع!

‬عندما‭ ‬يشعر‭ ‬المبدعون‭ ‬بأنهم‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬يحبون،‭ ‬ولا‭ ‬يقتني‭ ‬كتبهم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬قدم‭ ‬لهم‭ ‬كإهداء،‭ ‬عندها‭ ‬تتوقف‭ ‬رسالة‭ ‬الإبداع‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬القيمة‭ ‬والجهد‭ ‬المبذول‭.‬

فكيف‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬المبدعين‭ ‬وهم‭ ‬يسهرون‭ ‬الليالي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يغفو‭ ‬لهم‭ ‬جفن‭ ‬في‭ ‬تحبير‭ ‬دماء‭ ‬قلوبهم‭ ‬الموزعة‭ ‬بين‭ ‬واقعين‭ ‬مؤلمين،‭ ‬قارئ‭ ‬ينتظر‭ ‬من‭ ‬المبدع‭ ‬أن‭ ‬يُقرع‭ ‬باب‭ ‬بيته‭ ‬ليهديه‭ ‬عصارة‭ ‬قلبه،‭ ‬وعموم‭ ‬متمثل‭ ‬في‭ ‬شرائح‭ ‬المجتمعات‭ ‬الممثلة‭ ‬في‭ ‬تقدير‭ ‬الدولة‭ ‬له‭ ‬كمبدع‭ ‬يستحق‭ ‬التكريم‭ ‬والدفع‭ ‬بنتاجه‭ ‬إلى‭ ‬الصدارة‭.‬

من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬أتساءل‭ ‬ما‭ ‬الفرضيات‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقدمها‭ ‬المبدع‭ ‬كي‭ ‬يلتفت‭ ‬إليه‭ ‬وإلى‭ ‬إنتاجه،‭ ‬رغم‭ ‬إدراكه‭ ‬بالحقوق‭ ‬المترتبة‭ ‬عليه‭ ‬والمفترض‭ ‬أداؤها،‭ ‬وهذا‭ ‬واجب‭ ‬وطني‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬المبدعين‭ ‬يقدسونه‭ ‬وملتزمون‭ ‬به‭ ‬كرباط‭ ‬قسم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬المبدع،‭ ‬مثل‭ ‬قُدرته‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬من‭ ‬إنتاجه‭ ‬الإبداعي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتوسل‭ ‬القارئ‭.‬

فمن‭ ‬الغبن‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬ونسمع‭ ‬أن‭ ‬مبدعاً‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق‭ ‬يبيع‭ ‬نتاج‭ ‬عمره‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬ليسد‭ ‬به‭ ‬جوعه‭ ‬ويعيد‭ ‬دورة‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬عالمه‭ ‬الصغير‭ ‬للحياة،‭ ‬على‭ ‬رغم‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬يقضيها‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬تحبير‭ ‬مادة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬مؤلفاته‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الصح‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬التقدير‭ ‬والثناء،‭ ‬يبخسها‭ ‬من‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬وأبواب‭ ‬الثقافة‭ ‬مكون‭ ‬معرفي،‭ ‬فمن‭ ‬المؤلم‭ ‬أن‭ ‬نضيع‭ ‬المبدع‭ ‬ونخسره‭ ‬ولا‭ ‬نشد‭ ‬من‭ ‬خياط‭ ‬جروحه،‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬أول‭ ‬المساهمين‭ ‬في‭ ‬قتله‭.‬

ففي‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬يقع‭ ‬المبدعون‭ ‬في‭ ‬التهميش‭ ‬وقصص‭ ‬كثيرة‭ ‬نقلها‭ ‬هؤلاء‭ ‬المبدعون‭ ‬ليذكروا‭ ‬المجتمع‭ ‬بأنهم‭ ‬يغزلون‭ ‬من‭ ‬أجسادهم‭ ‬فطيرة‭ ‬جوعهم‭ ‬ولا‭ ‬يريدون‭ ‬سوى‭ ‬التفاتة‭ ‬تعيد‭ ‬إليهم‭ ‬نشاطهم‭ ‬وتمنع‭ ‬الجوع‭ ‬عنهم‭.‬

فكثيراً‭ ‬هي‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬المبدعين‭ ‬والتي‭ ‬حملت‭ ‬شهادات‭ ‬من‭ ‬تهميش‭ ‬المبدع‭ ‬وإقصائه،‭ ‬سجلت‭ ‬ودونت‭ ‬ونقلت‭ ‬لنا‭ ‬ظروف‭ ‬معيشتهم‭ ‬وكيف‭ ‬يعيشون‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬يرصفون‭ ‬الطريق‭ ‬بالحلم‭ ‬والأمل‭ ‬والإصرار‭ ‬للقلوب‭ ‬الضعيفة‭ ‬ويشدون‭ ‬من‭ ‬جراحهم،‭ ‬هم‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانون‭ ‬الذين‭ ‬يسهرون‭ ‬ليوقظوا‭ ‬النور‭ ‬من‭ ‬فتيل‭ ‬شموع‭ ‬صغيرة،‭ ‬تكبر‭ ‬وتنير‭ ‬موقظة‭ ‬عالم‭ ‬الآخرين‭ ‬بالفرح‭ ‬والأمل،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتلقوا‭ ‬من‭ ‬آخرين‭ ‬رسائل‭ ‬شكر‭ ‬أو‭ ‬تقدير،‭ ‬يظلون‭ ‬قابعين‭ ‬في‭ ‬ظروفهم‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬حملتهم‭ ‬رسالة‭ ‬الكلمة‭ ‬ورسالة‭ ‬الحب‭ ‬نحو‭ ‬الآخرين‭.‬

هؤلاء‭ ‬ألا‭ ‬يستحقون‭ ‬منا‭ ‬وقفة‭ ‬إجلال‭ ‬وتشجيع‭ ‬واقتناء‭ ‬نتاجهم‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬نتركهم‭ ‬على‭ ‬أرصفة‭ ‬الطرق‭ ‬يبيعون‭ ‬نتاجهم‭ ‬ليسدوا‭ ‬به‭ ‬جوعهم‭.‬

‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬جنون‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬جنون‭ ‬يقيدنا‭ ‬ويضيعنا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تتسابق‭ ‬فيه‭ ‬معالم‭ ‬المعرفة‭ ‬وتضيع‭ ‬فيه‭ ‬حقوق‭ ‬من‭ ‬لهم‭ ‬واجب‭ ‬علينا‭ ‬الحفاظ‭ ‬عليهم‭ ‬وألا‭ ‬نتركهم‭ ‬يقتلون‭ ‬وجعهم‭ ‬بقميص‭ ‬يستر‭ ‬ضياعهم‭ ‬من‭ ‬دماء‭ ‬أجسادهم‭ ‬يفتلونه‭ ‬ويخيطونه‭ ‬بصبر‭ ‬الليالي‭ ‬الطوال‭ ‬وهم‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬الجمر‭ ‬يكتبون‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفزعوا‭ ‬الآخرين‭ ‬أو‭ ‬يتوسلوا‭ ‬لهم‭ ‬لإنقاذهم‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬البطيء‭.‬

مفاهيم‭ ‬تثير‭ ‬بداخلي‭ ‬الشفقة‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬جدران‭ ‬غرفهم‭ ‬يعيدون‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬عيونه‭ ‬الضائعة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬هم‭ ‬فيه‭ ‬يفقدون‭ ‬عيونهم‭ ‬من‭ ‬السهر‭ ‬وحمل‭ ‬رسالة‭ ‬المعرفة‭ ‬للعالم‭ ‬الكبير،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلتفت‭ ‬إليهم‭ ‬ويقدر‭ ‬نتاجهم‭. ‬

هؤلاء‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسات‭ ‬تقدر‭ ‬نتاجهم‭ ‬وتقتنيه،‭ ‬وتدفع‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬العالمية‭ ‬لأنهم‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬يمثل‭ ‬الأوطان،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬نتركهم‭ ‬للضياع‭ ‬ونهمشهم‭. ‬

بقلم: علي الستراوي
السبت ١٢ مارس ٢٠٢٢




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى