أمل الكردفاني- الفراغ- قصة من الأدب العدمي

تلك اللوحة العجيبة كانت مجرد دائرة ومثلث تحت الدائرة وخط مستقيم يصل بين الدائرة وقائمة لحرف L مقلوب. هذا كل ما في الأمر. كانت اسكيتش داخل فضاء أبيض. أي وجوداً داخل فراغ.. وكان ذلك يقلب المفهوم العام للحياة والموت. لقد أبصرها بعينين مندهشتين وكأنما يشاهد هذا المشهد لأول مرة. ازدرد لعابه وهو يدرك بأن لهذه الخربشة روحاً ما.
وانتهى البينالي، فغادر القاعة وهو يدفئ يديه داخل جيوب معطفه. الساعة الثانية عشر ظهراً، ودرجة الحرارة تتجاوز الثلاث والأربعين درجة مئوية. لكن الحرارة لا تدخل إلى جسده الفارغ، بل يظل الفراغ يتمدد داخل تجاويفه. يحتاج لحمام من الحمم. كان قد جرب ذلك العلاج قبل عقد من الزمان وكاد أن يبقى داخل البركان ليرتاح إلى الأبد غير أن البركان بدأ يخمد بسرعة فغادره على عجل..سقط منحدراً من الحمم المتصلبة، حتى ثبتت قدماه الحافيتان فوق الأرض.
كان عارياً وكان عليه أن يخبئ فراغه من الناظرين، لذلك انتظر حتى حل الليل، وقطع حدود عشرات الدول، قبل أن يستقر في القارة الحارة لتهدأ روحه قليلاً. ليس الوضع مثالياً، لكنه أفضل من غيره.
الدائرة فوق المثلث والخط العمودي، هذا هو مجمل الوجود الذي يثير كل ذلك الضجيج. لذلك كان على العالَم أن يقيس الفراغ ليتعرف إلى حجم وجوده.
وفي منتصف الصحراء اجتمع الخمسة ووقفوا قبالة بعضهم. عيونهم تحدق في بعضها البعض بصمت. كانوا يتحاورون بصمت؛ وكان عليهم أن يصلوا إلى نتيجة سريعة تحسم أزمتهم.
- لا شيء..
- نعرف ذلك..
- هذه قرون طويلة..
- نعرف ذلك..
- الحل إن كان هناك حل..
- لم نتوصل إلى شيء..
- فلنجتمع بعد خمسة قرون أخرى..
- ولماذا؟
- ربما..
- وربما
- يجب أن نحسم الأمر اليوم..
- ولكن كيف..
- هكذا..
- كيف؟
أخرج ورقة من جيبه وفردها..فحدقوا فيها بملامح باردة..
- لا حل سوى هذا..
- سنحشوا أنفسنا..
- صعب..
- بل مستحيل.
- هذا ما يجب أن نفكر فيه..
ثم تفرقوا بعد ضربهم موعداً للقاء بعد خمسة قرون أخرى..
ارتدى حذاءً فوق حذاء، ومعطفاً فوق معطف.. وذهب للقاء أستاذ فيزياء..ليسأله سؤالاً واحداً..
- كيف نحشوا الفراغ..
كان الأستاذ نحيل الوجه والجثة، له أصابع رقيقة ممتلئة بالعروق الخضراء، وقد بقى ينظر إليه في وجهه من فوق نظارته، ثم أدخل بنصره في شفتيه، وظل ساهماً.. بعدها انفجر ضاحكاً.. فنهض هو وغادر وقهقهات الأستاذ تختفي وراءه.
- يجب أن نندمج بالفراغ الكوني.. لا حل سوى هذا.. أن نكون.. لكي لا نكون بمعنى حرفي.. أن نكون لكي لا نكون..وهذا مستحيل.. فلا فراغ مطلق في هذا الكون.. إننا وحدنا الفراغ المطلق..
- علينا بحكمة التيبيت.
- لن يكونوا أكثر حكمة منا..
- فلنجرب..
وكان عليه أن يصعد الجبال، كان ذلك سهلاً لو تخلص من كل ملابسه. فسيطفوا كفقاعة الصابون.. ولكنه فضل الصعود كبشري عادي.
افترشت الحجارة الحادة سطح الجبل ورأى من بينها فجاج طريق قديم، يمتد حتى باغودة مشيدة على حافة الجرف، فمضى نحوها.. كان الراهب يقرفص متأملاً أمام تمثال بوذا.. وحين طرق باب الباغودة التفت الراهب بذعر إلى الخلف وحدق فيه بنظرة جزعة، ثم همس:
- من أنت؟
- أنا رجل..
نهض الراهب متحفزاً وقال:
- لا.. لو كنتَ رجلاً لأحسست بك.. لكنك لستَ بشرياً.. إنك روح شريرة أو شيء من هذا القبيل..
- لا يا سيدي.. لستُ روحاً شريرة.. كل ما أود أن أعرفه هو كيف أحشو الفراغ..
ضاقت عينا الراهب وقال:
- تحشو الفراغ؟!
هز رأسه..
غمغم الراهب:
- إذاً.. فأنت..؟
- بلى
- اللعنة..
رسم الراهب علامة الدائرة فوق المثلث في الهواء وقال:
- كم عددكم؟
- خمسة.
- والآخرون؟
- لا أدري..
- وماذا سيحل بنا..
- لا شيء..
- سينهار الكون..سيبتلع الكون نفسه..
لوى شفتيه وظل الراهب متجهماً..
...

في حديقة صرح جامعي ضخم، جلس إلى أريكة حجرية في انتظار شاب صغير، قيل بأنه طالب من عباقرة الرياضيات. وحين جاء الطالب قال بتوتر:
- من أنت وماذا تريد مني؟
- أريد منك أن تحل لي معادلة صغيرة..
قال الشاب بغضب:
- وهل يستدعي ذلك أن تخترق حاسبي وترسل لي صورة رأس راهب بوذي مقطوع.. أي مجنون أنت؟
- لقد حاولت الحديث إليك كثيراً لكنك لم تعرني التفاتاً..
- ماذا تريد مني؟..
- أريد أن أمنحك فرصة لإثبات عبقريتك أمام العالم..
ثم أخرج قصاصة بيضاء وفردها على فخذ الشاب وقال:
- ابحث لي عن حل لهذه المعادلة..
رفع الشاب الورقة وتأملها ثم نهض مصعوقاً..
- اللعنة.. من أنت؟ هل أنت شيطان..
- لا.. صدقني.. إنني في أزمة حقيقية.. نحن في أزمة حقيقية.. لو استطعت أن تحل هذه المعادلة فسيعرفك العالم كله وتنقذنا نحن..
قال الشاب وهو يعيد قراءة المعادلة:
- ولكن هذا مستحيل.. لم أرَ معادلة كهذه من قبل.. هذا جنوني.. هذا خارج الكون..
- إنها كذلك..
ثم نهض ووقف أمام الشاب:
- ستصبح مقدساً لو نجحت..
ثم دفأ يديه داخل جيب معطفه وغادر بخطوات بطيئة.
...
"هذا مستحيل.. مستحيل.. سأقضي قروناً قبل أن أصل إلى حل.. وعمري كبشري لن يسعفني أبداً.."
كان قد توقف عن التدخين منذ سنوات، لكنه احتاج لتدخين سجارة واحدة.. وتحولت السجارة إلى آلاف السجائر خلال سنوات.. كانت جبال من أعقاب السجائر تتكوم حوله، حتى ارتخت عضلات رئتيه، وشحب وجهه.. وحينها قرر التوقف عن البحث، فأطفأ سجارته في ورقة المعادلة، لتلمع عيناه حين رأى الحل في الثقب المحترق. وبأصابع مرتجفة أمسك برأس الكبريت الكربوني وبدأ في الكتابة.. وحين انتهى تراجع للخلف إذ رأى أكوام السجائر تدور في الهواء ثم تنقض إلى فمه ليبدأ جوفه بابتلاع كل شيء، السجائر الأقلام، الطاولة، المراتب، الملاءات والستائر،.. ارتجت الأرض، وكان الخمسة يقفون قبالة بعضهم البعض في منتصف الصحراء:
- لقد نجح على ما يبدو..
- إنه يبتلع كل شيء..
- ونحن..
- ونحن عما قريب..
- إذاً.. اخلعوا معاطفكم..
خلعوا معاطفهم فلم يكونوا إلا محواً في المشهد..
ارتجت الأرض..
- تماسكوا..
تماسك محوهم..واستعدوا وعيونهم مغمضة..
- الآن..
تقلصت الأرض تحتهم وتقلصوا معها، ثم طاروا في اتجاه واحد... نحو فم الطالب الذي كان يبتلع كل شيء.. النجوم والكواكب والأقمار والغبار الكوني والنيازك والشهب... وبعد ستة أيام وجد نفسه يسبح في فراغ عظيم...فراغ مخيف.. وكان عليه أن يبعث الكون إلى الوجود من جديد..وأخذ يفكر في المعادلة التي تنقذه من ذلك العدم..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى