عمار علي حسن - ينتظرون دموعه

لم يبك عليها وهي تغيب أمام عينيه تدريجيا حتي انطفأت شمعتها إلي الأبد. لم تنجب ولدا فاعتبرته ابنها, وأخذته من أمه التي هي ابنتها. الجدة العجوز تهدهد سكرات الموت وهو إلي جانبها لا يفعل شيئا سوي التحليق في سقف الغرفة الضيقة, وترويض العجز التام والفادح. ورآه الناس علي حاله فتعجبوا وهم الذين توقعوا أن يأتي من سفره مولولا كالنساء حين أخبروه أنها ترقد مريضة وتريد أن تراه.
ومن خلف ظهره قال صاحبه للناس حتي يكفوا عن أسئلتهم التي لا معني لها:
شدة الحزن تجف لها الدموع.
وراح يقنعهم أكثر بوجهة نظره, من خلال شرح القاعدة التي تقول: ما زاد عن الحد انقلب إلي الضد, ثم قال لهم:
لو رأيتموه يضحك فجأة فلا تلوموه ولاتتعجبوا.
لكنهم تعجبوا علي حزن لم يكابدوه من قبل. أحدهم شكك في هذا التبرير, وقال بلغظة:
طول الغربة أنسته أعز أهله.
لم يكن هو يدر شيئا عن هذا الغمز واللمز وهو ساهر طوال الليل إلي جانبها وهي تحتضر, قلبه موجوع, ولسانه صامت وتقتحم أذنيه ثرثرة النسوة اللاتي جئن لتوديعها تكلموا طويلا عن حالتها التي كانت علي مايرام قبل يومين, وكيف رآها أهل القرية جميعا وهي تستقل عربة ربع نقل مع الذاهبين إلي مدينة المنيا لدفع فلوس السلع التموينية؟ وكيف وقفت بالأمس فقط ساعات طويلة في الدكان تبيع للناس من دون أن تظهر عليها علامات المرض؟
غسلتها صديقة أيامها وكفنتها, ووضعوها علي الخشبة, لينطلقوا بها إلي مدافن العائلة شرق النيل. كل ما فعله هو أن رفع الغطاء عن وجهها الساكن وطبع قبلة علي جبينها, وقال لها في تأثر:
مع السلامة يا أنبل وأغلي الناس.
وشفع له ما فعله عند البعض, لكن هناك من رآها لمحة باهتة لاتكفي لوداع من تربي في حجرها, ولا ترقي لتوقعاتهم التي اطلقوها وهم يخبرونه بمرضها في حذر. قالوا له مريضة وحالتها مطمئنة وتريد فقط أن تراه لأنها اشتاقت إليه, خافوا أن يطلعونه علي الحقيقة فينهار. هكذا اتفقوا قبل أن يرن هاتف مكتبه, ويأتي إليه صوت أحدهم ليسأل السكرتيرة:
الأستاذ موجود.
عادوا من المقبرة فوجدوه جالسا علي طرف سرادق العزاء ينتظر المواسين. فلما وصلوا اليه دفعوا اياديهم الي يده, وجلسوا صامتين
قبيل المغرب ظهرت في انحناء الشارع عربة كارو محملة بالسلع التموينية, وجاء مختلطا بصهيل حصانه المجهد صوت العربجي يسأل احد الصبية عن مكان الدكان. عندها هب من مكانه, وجري الي العربة كما كان يفعل وهو طفل.
يجري اليها حين تهل علي اول الجسر المؤدي الي القرية, فيرفعه اي من الرجال الي جانب جدته, وهي تجلس فوق بضائعها والسعادة تنطق في وجهها. تمد يدها الي كيس بلاستيك راقد بجوارها وتعطيه الحلوي التي أحضرتها له.
جري اليوم لكنها لم تكن متربعة فوق عرشها الذي طالما انتفع منه الناس. جري حتي وصل الي الحصان فمسح علي رأسه, ثم مد يده الي طرف العربة الأيمن, وراح ينتحب ويجهش بصوت زاعق سمعه كل أهالي القرية.


عمار علي حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى