حسام المقدم - أقوال جديدة في سيرة أمنا الغولة

إهداء مبدئي:
إلي الأحِبّاء الصغار الذين شاركوا في الحكي بأعين مفتوحة. سبع وردات لكم ولدوركم في حكاية المسعورة. وإلي آبائكم المحترمين، وأهالي بلدتنا المتحمسين.
روحي فيكم أيها الأفذاذ الصغار. ما كنت لأذيع شيئا مما حكيتموه لي، أو مما حدث في بلدتنا الصغيرة، لولا ضيق ذات العقل عن كل خيال. ها أنتم ترون: الفيل دخل الثلاجة، وتكلم الحديد ومشي وبصق، وصراصير البالوعات استطالت شواربها حتي صارت تلحس وجوهنا فيما نحن مستريحون علي الأسِرّة.
لو كان الأمر بإمكاني يا أحبابي لأسكنتكم جنة صغيرة، أخصّ ما يميزها أن الزمن سيمر بكم مثل نسمة حنون. وستكونون خالدين باقين في أعماركم الوردية، يراقبكم مُعلمكم بعين ملؤها الحسرة. ومع كل شعرة بيضاء جديدة في رأسه، سيكون لزاما عليه أن يتذكر واحدا منكم. والآن يا أحبابي، مَن البادئ؟
ندي هاني: أسنانها طويلة يا أستاذ. من عزبة البنك وقاعدة عند المقابر. تأكل الواحد من رقبته. الكلب عضها وزوجها رفض أن يعطيها الحقنة لأنها حامل، فانسعرت. وهي في المستشفي أكلت ابنها وعضت زوجها. من يومين وهي في بلدنا وقاعدة عند التُرب.
(تأخذ ندي الدرس في حجرة وحيدة بآخر الجنينة في أقصي البيت الواسع. ولهدوء الحجرة، كثيرا ما اندلقتْ رأسي مرات أثناء الحصة. يوم أن بدأت ندي الحكاية لم تندلق رأسي، واستمتعت برعب رائع ظهر في عينيها وحركات يديها وفتح فمها لآخره.)
محمد سالم: مُنقبة ونقابها مشقوق، ولما ترفعه تظهر أسنانها نازلة لحد ذقنها. راحت المعهد الديني والفرّاش لمحها وهي تفتح الفصول. وخبطت واحدة في الغيط وقامت نازلة في الترعة. تظهر لأي واحد يكون لوحده. مسعورة وتأكل العيال. جاءت من كفر عوض جنب ميت العامل.
(فاجأني محمد سالم بأنه سيأخذ الدرس في الشقة العلوية التي هي شقة الحاج سالم. قال إن واحدا اتصل بأبيه وطلب منه أن يأخذ باله من الولد. هكذا غادرنا شقة الدور الأرضي شبه المهجورة إلي شقة رائعة بها صالة فسيحة ممتدة بشكل حرف "L"، يتربع فيها صالون مذهب فخم، وأنتريه غريب عجيب بلونين أحمر وأسود. سحبنا كرسيين من كراسي السفرة ذات اللون البني المحروق).
عمر هلال: العيال شافوها عند أرض عم "جزرة" جنب بيت الأستاذ "سيد" مدرس الإنجليزي. "محمد ياسر" زميلي قال لي إن الأستاذ طلع وراءها بالخرزانة. واحد قال لي إنها راحت عند مصنع البلاط وإن بيتها عند السلخانة، وإنها منقبة وشعرها مرفوع لفوق، ومَن يمسكها له خمسة آلاف جنيه. آه لو أشوفها كنت جرجرتها من شعرها وخلّعتها النقاب.
(عندما جاء والد عمر بالشاي، سألته عن الحكاية فقال إن البلد كلها تتكلم، وإن عمر لن يذهب لدرس الإنجليزي في اليومين القادمين.)
منة محمود: يا أستاذ، هي شبه الكلب تمشي علي أربع وتجري لتأكل الواحد من رجليه. والعيال قالوا إنها جاءت مدرستنا وبصت من شباك الحمام بعينها الحمراء. وسمعت أنهم حبسوها في جامع الرحمة وهربت منهم ونزلت تحت الأرض.
(حكت "منة" ما قالته بصوت خفيض يشبه الهسيس، وفي أذني تقريبا. كنا وحدنا في الشقة، ولم أكمل الحصة إلا بعد أن طلبتُ منها أن تقوم وتقفل الباب الخارجي).
هاني زيادة: عضت الولد ابن الأستاذ سعد قدام مدرسة الرفاعي. وعمي قال لي إنها من السنبلاوين، والعيال أصحابي كانوا طالعين فوق سور المدرسة ولمحوها وهي تأكل في كلب ميت وتمصمص فيه. ولما كنت مع خالتي في محل الملابس سمعنا الصويت. يظهر أنها طلعت لواحدة وحاولت تعضها.
(أخبرني والد هاني أنهم شافوها في عزبة العرب، وضربوها علقة محترمة).
عمرو إبراهيم: عارف البيت الأحمر المهدود جنب مدرستنا يا أستاذ؟ هو بيتها وتنام فيه. تخرج ساعة الفجر وترجع بعد العشاء. تجري شبه الكلب المسعور، ونقابها عليه دم العيال المأكولين. أنا أخرج من المدرسة بسرعة وأجري لحد بيتنا وأخاف أبص ورائي.
(في إحدي المرات دخل "عمرو" عليَّ بكوفية شتوية يلفها حول وجهه، تاركا عينيه تبرقان من فتحة هلالية. ولما سألته عن شغل الحرامية هذا؛ قال إنه لا يريد أن تراه المرأة إياها، وإذا رأته فلن تعرفه).
أحمد شاكر: مَن يمسكها له 15 ألف جنيه. تأكل اللحم تحت الجلد. واحد صورها ونشر الصورة علي النت، وكانت بعين واحدة.
(شاكر زميلنا اتصل أمامي بشخص يعرفه من بلدة ليست قريبة، وسأله عن حكاية المرأة التي تأكل العيال. بأذني سمعت الرجل عبر السماعة المفتوحة يقول إنها من "أجا"، وأن أولاده خائفون جدا ولم يذهبوا للمدرسة).

مع وحل المطر الفجائي الذي غمر أسطح وشوارع بلدتنا الحبيبة؛ كان لزاما علي كل واحد أن يحتاط في شأن عياله. هنا تبدت المهمة الوطنية لرجال وصبية التكاتك في الذهاب بالأولاد والإتيان بهم من المدارس. وأصبح مألوفا أن نري شارعا بأكمله تقف الناس فيه علي عتبات البيوت، أو في قلب الوحل مائلين مُبحلقين في جوف التكاتك المُبطئة حتي يتبينوا عيالهم من عيال غيرهم. وحين لا تُميز امرأة ابنها أو ابنتها وتستشعر التأخير، ترفع حنجرتها بالصوت الحاد المدبب، ولا تهدأ إلا عائدة بأولادها في يديها وتدخل وتقفل الباب. وحدث أن مجموعة من الشباب الواقفين علي كوبري البلدة أوقفوا إحدي العربات وفحصوا الركاب من السيدات واحدة واحدة حسب الأوصاف المذكورة للمرأة المعنية، إلي أن اتسعت الفكرة بشكل رائع وتم نصب كمائن شعبية لتفتيش العربات علي مداخل ومخارج البلدة. بعد يوم واحد خرجت أفواه تردد أن المرأة من داخل البلد، بل وتجرأ أحدهم علي تحديد العائلة واسم الشارع. ولابد أنه يوم تاريخي، ذلك الذي دخل فيه الأهالي بيوت تلك العائلة وقلبوا أساسها رأسا علي رجل. وكانوا إذا صادفتهم واحدة منقبة، شدّ أحد الرجال الأبطال نقابها وتأمل أسنانها قبل أن يتركها. وفي إحدي هذه الكبسات الجليلة تصادف أن خلع أحد الأفذاذ نقاب واحدة، ثم وقف مشلولا بكهرباء خفية، تماما كما حكي هو نفسه بعد ذلك، إلي أن مال وباسها بعمق من شفتيها تاركا إياها وكل عين من عينيها في حجم طبق. هكذا مشي الحال بتلك العائلة الكريمة بأن خلع كل نسائها النقاب ولم يعدن إليه. في تلك الأثناء كان الأحباء الصغار يقومون بمهام وطنية عظيمة الشأن. فعمر هلال تكفل هو وهاني زيادة وآخرون بالسير في جماعة وعمل زفة إنشاد أمام شارع العائلة المنكوبة. وكانت كلماتهم، المصحوبة بإيقاع حاد علي علب من الصاج، تتوعد وتهدد: يا مسعورة إنتي فين.. هنجيبك ولو في الصين. أما أحمد شاكر فقد شوهد علي الدوام حافيا يجري في الوحل من شارع لآخر، في حين لم يفلح أبوه الشديد أن يُرجعه عن فكرة تغلي في مخه: هو الذي سيقتل المسعورة. إزاء تلك الأحداث العصيبة كان حال منة محمود في تدهور متلاحق؛ إذ أخذت تنحف ويضربها الهزال والإسهال وأشياء أخري حارت أمها في سببها. وفي السياق ذاته وصلت أخبار من أم ندي هاني تفيد بأن البنت صارت تعمل حركات رائعة في البيت، من قبيل لبسها لنقاب وصبغ شفتيها بالأحمر وإمعانها في إخافة أختيها الصغيرتين. لا يمكن بعد كل ذلك نسيان الدور القومي للحاج سالم، إذ ساهم في تشكيل وفد للتفاوض مع العائلة إياها لتسليم المسعورة، وهذا بدوره سيتبعه فك الاشتباك المُتحفز وعودة المياه لمجاريها. وقبل وصول الرد، ترددت أنباء عن قيام العائلة بتهريب المرأة، وسط حراسة مشددة، إلي أهلها في بلدة أخري. إلي هنا سكن الرفاق الصغار وأمنوا في بيوتهم مع الآباء والأمهات، واستراحت الجدات الطيبات الدامعات من ذكري الأيام العصيبة التي، باعتقادهن، لن تعود.



- أخبار الأدب يوم 07 - 08 - 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى