عمار علي حسن - شبح الظهيرة

وحده يسير, وتراب الجسر يشعل النار في قدميه الحافيتين, وجمرة تحط علي رأسه من أثر حزمة القصب التي يحملها منذ ساعتين, متباطئا تحتها, والنسائم تعبر ثقيلة من تحت إبطيه المفتوحين علي غبار الطريق.
حين وصل إلي شجرة السنط السامقة التي تعلو حقلنا, أناخ جسده, وحط عن رأسه حزمه القصب, ورفع هامته, تاركا منخريه تسحبان من النسائم علي اتساعهما, ثم رمي رأسه إلي جذع الشجرة, وراح صوت شخيره يعكر المكان.
اقتربت منه, ورحت أتفرس في خريطة وجهه جيدا. كان البهاق قد زحف علي عنقه ووجهه ومقدمة رأسه, واختلط بالتجاعيد التي خطها الزمن, وبدت علي خديه بثورغائرة, تنبت في قلبها شعيرات سوداء وبيضاء, يتدلي بعضها قليلا, ليقترب من شاربه الكث, الذي بدا معلقا في الهواء أمام خديه الضامرين.
كانت حزمة القصب الكبيرة تنام بجواره هادئة, والنسيم يداعب أوراقها الخضراء وقشها المائل إلي الاصفرار, فيهتز قليلا, ويحك رأس الرجل, لكنه كان قد غطس إلي قعر النوم البعيد, ولم يعد يدرك أنه هنا, فوق التراب وتحت الشجرة, وأنني بجواره أقرأ في صمت وحسرة.
وبعد دقائق, جاء كلب مرقط, شعره أبيض تزركشه بقع سوداء. كان يلهث من العطش, ومن عينيه يطل جوع شديد. وقف عند رأس الرجل, وراح يحملق في وجهه مليا, ثم مد لسانه, وراح يلعق شاربه في هدوء, ثم رمي جسده بجوار الرجل, وراح هو الآخر في نوم شديد.
حين مالت شمس العصر تحت فروع الشجرة, ومدت لسانها الدافئ المبهر إلي عيني الرجل, تململ قليلا, ثم راح يفتح جفنيه في هدوء, حتي طوق بصره كامل جسد الكلب,
ومد يده وراح يربت علي رأسه, ويداعب أذنيه الطويلتين بأطراف أصابعه, ففتح الكلب عينيه, ودس رأسه في صدر الرجل, ثم جلس أمامه القرفصاء, ولسانه يتدلي قليلا علي حافتي نابيه القاطعين.
جلس الرجل القرفصاء, وجلس الكلب قبالته, واقتربت منهما مندهشا, وقلت له:
كلبك.
فابتسم كاشفا عن أسنان سوداء مثرمة, وقال:
لم أقابله سوي اليوم.
ومد ناظريه إلي حزمة القصب الكبيرة, وكأنه يريد أن يطمئن إلي وجودها سليمة, كما ودعها قبل الغفوة, ثم مد كفه ووضعها فوق أعواد القصب, وزفر متنهدا في أسي: شغلانة تهد الحيل.
ولما وجدني أنقل بصري بين وجهه والقصب, استطرد:
الأسعار نار, وما أكسبه لا يؤكلني أنا وزوجتي إلا عيش حاف.
فنظرت إلي الكلب الذي يقعد مستكينا علي التراب, وقلت: عندك أرض.
كانت عشرة قراريط إيجار, وأخذهم المالك بعد تغيير القانون. ومرق قطار ما قبل المغرب, وزعق صارخا وهو يهتز مجلجلا, فنبح الكلب, وتنبه الرجل, فاستدار, وراح يتابع القطار حتي اختفي, ثم قال:
من زمان نفسي أسافر, حتي ولو إلي آخر الدنيا.
في السفر سبع فوائد.
هز رأسه وقال:
لم أفارق قريتي منذ مولدي.
وصمت برهة ثم قال متحسرا:
أيام الملك طلبوني للجهادية فهربت.. لو كنت وافقت يمكن كنت شفت الدنيا الواسعة. كنت هأنزل المحروسة, ويمكن أشوف الملك نفسه, والإنجليز.
التف حوله, ثم راح يهش بعض القش العالق علي رأسه وجلبابه, ووقف موجها عينيه إلي قرص الشمس الأحمر, وقال: جاء موعد الرزق.
ونظرت إليه صامتا وفي عيني سؤال, فجاءتني إجابته:
أبيع القصب للشباب الساهرين علي قهوة عبود.
ثم مد يديه إلي حزمه القصب وقال:
ساعدني يا ابني.
ورفعت الحزمة معه حتي استقرت علي رأسه, وسحب نفسا طويلا, وكأنه يختزن طاقة تعينه علي استكمال مشواره الطويل, ثم تتابعت خطواته البطيئة, ويمينه يسير الكلب ولسانه يرقص علي نابيه, ويهتز في نسيم راح يهب ناعما مع قدوم أول الليل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى