أ. د. عادل الأسطة - وليد سيف: سيرته وأهميتها في دراسة أعماله.. (خمس مقالات)

1-
"وليد سيف، الشاهد والمشهود: سيرة ومراجعات فكرية" (2016) آخر ما صدر للشاعر الذي قرأنا له "قصائد في زمن الفتح" (1969) و"وشم على ذراع خضرة" (1971) و"تغريبة بني فلسطين" (1979) وقصيدة "عبد الله البريّ"، ولم نعد نقرأ له شعراً لأنه هجره إلى الدراما، فتابعناه من خلال مسلسلاته التاريخية العديدة ومنها صلاح الدين الأيوبي وعروة بن الورد والزير سالم، وظل اسمه حاضراً في أذهاننا، على الرغم من اختياره مبكراً العزلة.
مرّة واحدة التقيت به وسلمت عليه، على الرغم من أنه عاد إلى الجامعة الأردنية في العام 1975 ليدرس فيها، وكنت، في حينه، في السنة الرابعة، ولم أدرس معه مادة "الصوتيات".
وحين عدت إلى الجامعة نفسها، لأواصل دراستي العليا، في العام 1980، كان فصل منها لأسباب سياسية.
في نابلس، على دوار المدينة رأيته وصديقه الذي يلهج دائماً بسيرته، مازن كمال، فتصافحنا ولم نتجاذب أطراف الحديث طويلاً، وعندما أخذت أدرس في جامعة النجاح مساق "الأدب الفلسطيني الحديث" كلفت أخته بأن تكتب بحثاً عن سيرته الشعرية، وهذا ما أنجزته، وقد أخذت منها ما كتبت ونشرته باسمها في مجلة "الفجر الأدبي"، بعد أن رحب الشاعر علي الخليلي بالمادة ترحيباً قوياً، فوليد من شعراء، المقاومة، وكان ديوانه الأول، وهو لم يتجاوز العشرين من العمر، قد صدر عن دار الطليعة، وصدر ديواناه الثاني والثالث عن دار العودة التي أصدرت مجموعات علي الأولى.
والسؤال الذي يثيره كثيرون من محبّي الشاعر وأشعاره كان: لماذا هجر وليد سيف الشعر؟ وهو سؤال سيجيب عنه في سيرته في صفحات عديدة (ص489 وما بعدها).
هل حقاً هجر وليد سيف الشعر؟
إن كان حقاً هجر الشعر فإنه لم يهجر الشعراء وأشعارهم. صحيح أنه انقطع عن كتابة الشعر، لكن حب الشعر والشغف بحياة شعراء عديدين مهمين ظل يقبع في أعماقه حتى كتابة سيرته في 2012 و2013 كما أقدر من خلال القراءة الداخلية لها.
فهو أولاً، وهو يكتب الدراما التي أخذته من إصدار أعمال شعرية، كتب عن أبرز شعراء العربية، ليقدمهم إلى الشاشة، وهو أيضاً، وهو يكتب سيرته، لم يستطع البتة أن ينسى قصائدهم وأبياتهم، حتى إن لغة السيرة، في جانب منها، وهذا وحده يستحق كتابة، إنْ هي إلاّ فسيفساء من لغة الشعراء العرب منذ امرئ القيس ودريد بن الصمة حتى محمود درويش الذي قابله الشاعر، حين كان درويش في حيفا، ولم يعد يلتقي به، على الرغم من تزامن حضور الشاعرين، في أوقات عديدة، في عمّان التي استقرّ فيها درويش بعد عودته من باريس إلى رام الله، وأقام فيها فترات. كان وليد سيف في عزلته التي طالت ثلاثين عاماً الغائب الحاضر، حتى هنا في الأرض المحتلة، فقد أنجزت عنه رسالتا ماجستير في جامعتي الخليل والنجاح، وصدرت الرسالة الأولى، وقد كتبتها ميسر خلاف، في كتاب، وكانت حقاً رسالة تليق بشاعريته، وكان لي شرف مناقشتها، وحث الطالبة على طباعتها.
أذكر أنني حين كنت أتردد على رابطة الكتاب الأردنيين، أصغيت إلى الشاعر يوم منح جائزة عرار الشعرية.
ألقى كلمته بلغته الفصيحة، وتبرع بمقدار الجائزة للرابطة، وعاد سريعاً إلى بيته، ليواصل عزلته.
وفي الرابطة حصلت على جزء من قصيدة "تغريبة زيد الياسين" التي صدرت، مع قصائد أخرى، عن الرابطة، وقد فرحت بما حصلت عليه فرحة لم تكتمل، إذ، وأنا عائد إلى نابلس، عبر جسر دامية، صادر الضابط الإسرائيلي المسؤول عن مرور الكتب، الكتاب الذي يضم القصيدة. ولم تكن طبعة دار العودة من الديوان متوفرة.
سأعرف أن الشاعر اختار لديوانه عنوان "تغريبة زيد الياسين"، وأن الشاعر محمد القيسي، وكان صديقاً مقرباً لوليد، هو من جعل العنوان "تغريبة بني فلسطين"، ولعلّ هذا يدخل في باب التعديلات التي أجريت على قصائد الشاعر، ولكنه تغيير لم يقم به الشاعر نفسه. وفي العام 2001 سأتمكن من الحصول على "تغريبة بني فلسطين".
في سيرته يأتي وليد سيف على سيرة عَمَّيهِ، ويُخبرنا أنه أراد أن يُشرف على لحدهما، حين تُوفِّيَا، وقد تحقق له حضور دفن أحدهما، فلحده.
ما أورده عن رغبته هذه ذكّرني بالمقطع الشهير الذي حفظه عشّاق شعر الشاعر، يوم أصدر "تغريبة بني فلسطين"، وهو المقطع الذي افتتح به قصيدة "سيرة عبد الله بن صفية":
"يا عبد الله بن صفية
حين يجيء إليك الشرطيان
الموكل لهما التحقيق مع الجثث الثورية
قل لهما: أنت فلسطيني وابن فلسطينية
قل لهما: أمّك ماتت تحت بساطير القوات المدنية
وأخوك يموت الآن هنالك في إحدى الغرف السرية
في سجن الرملة، تحت هراوات يهودي من روسية
وأخوك الثاني مات من العطش القاتل في الأرض الصحراوية"
هل توقف دارسو أشعار الشاعر من قبل أمام ظاهرة التعديلات والتغييرات التي أجراها وليد سيف على أشعاره؟ هل قرؤوا أشعاره قراءة تقوم على مقولة "قصد المؤلف"؟ هل طلب أي من الدارسين مسوّدات قصائده قبل أن يدرس أشعاره؟ وهل يحتفظ بها الشاعر؟
أسئلة يثيرها قارئ سيرة وليد سيف التي ستضيء، بلا شك، جوانب مهمة.


2- يلحظ قارئ، دواوين أشعار وليد سيف الثلاثة أنها صدرت في بيروت عن داري نشر مختلفتين هما "دار الطليعة" و"دار العودة"، وقد صدر

الديوان الأوّل "قصائد في زمن الفتح" عن الأولى، فيما صدر الثاني والثالث عن الثانية.
والأولى ذات توجه يساري، وليست كذلك الثانية التي نشرت لأدباء، يساريين وغير يساريين، وتأتي السيرة على علاقة الشاعر بالفكر اليساري الذي لم يكد يقترب منه حتى تركه، وعلى صلته بحركة فتح التي لم تدم طويلاً، إذ مال إلى التدين، فالتصوف الذي تبرز، في السيرة، بعض مقولاته.
هذه هي أول نقطة لإضاءة قراءة تجربة الشاعر، وإن كانت هامشية، فثمة إشارات عديدة أساسية وجوهرية تمس جوهر التجربة الشعرية، ويأتي عليها المؤلف بوضوح تام، ولا أعرف إن كان أتى عليها في مقابلات أجريت معه، كما كنا نلاحظ في المقابلات التي كانت تجرى مع محمود درويش الذي تحضر بعض أسطره الشعرية في السيرة، حضور الشعر العربي القديم والنص القرآني فيها.
يأتي الشاعر على تجربة حبّ مرّ بها، وهو طالب في الجامعة الأردنية في 60 ق20، ويفصح عن قصيدته وما كان يمدها: نهران هما فلسطين والحبيبة، و"كلاهما يحيل إلى الآخر ويشتبه به، فلا أستطيع أن أحرر قصيدتي لأحدهما دون الآخر" (ص166)، شأنه هنا شأن محمود درويش الذي كتب: "أنت عندي أم الوطن؟/ أم أنتما توأمان؟".
ولما كانت تجربة الحب آلت إلى الفشل وافترق المحبّان، وخسر الشاعر حلماً جميلاً ـ عبارة درويشية بامتياز ـ وأقدم، بعد أشهر من لقائه الأخير بالمحبوبة، على نشر ديوانه "قصائد في زمن الفتح" فقد أجرى "بعض التعديلات عليه قبل نشره في ضوء انقضاء علاقتي بتلك الفتاة"، فما هي التعديلات؟
"غيرت عبارة "الإهداء" التي كانت لها قبل ذلك بحروف اسمها الأولى، وأسقطت من بعض القصائد ما كان في الأصل يميل إليها بلفظ الحبيبة أو الصديقة، وما كان ذلك ليغير شيئاً عند عامة القراء". (ص177).
وعلى الرغم من أن التغيير ما كان ليغير شيئاً عند عامة القراء لأن الحبيبة معنى عام وليس اسم علم، إلاّ أن الشاعر قصد بالتغيير حاجة في نفسه قضاها، وهي أن يبعث رسالة إلى الشخص الوحيد الذي يفهم معناها.
يهدي الشاعر ديوانه المذكور إلى "كل العشاق الطيبين الذين يمارسون الوقوف.. على القنطرة التي تمتد بين الحزن والغضب!"، فهل كانت الحبيبة من هؤلاء أم أنها خرجت عنهم، ولم تعد عاشقة طيبة؟
وأنا أناقش ميسر خلاف في رسالتها عن الشاعر توقفت أمام تأثره بالشاعر مظفر النواب، وحين عدت إلى نسختي من ديوان "تغريبة بني فلسطين" قرأت ملاحظاتي في صفحات 10، 27، 36، 41، 57، 59، 61، 81، 92، 98، بل إن روح القصيدة تميل إلى روح "وتريات ليلية".
وأظنني طلبت من ميسر أن تلتفت إلى هذا الجانب.
يأتي وليد سيف على لقائه بالحبيبة، بعد سنوات من الافتراق، وكان اللقاء عابراً ومحض صدفة، وترسل له، لاحقاً، رسالة تخبره فيها أنها حضرت أمسيته الشعرية في مدرج سمير الرفاعي بالجامعة الأردنية، وأنها، وهي تصغي إليه يقرأ قصيدة "سيرة عبد الله بن صفية"، أنها "أحسّت أثراً من شعر مظفر النواب" الذي كان قد ملأ الأسماع في ذلك الحين. (ص185).
ترى هل جانبت، في رأيها هذا، الصواب؟
في صفحات لاحقة يأتي الكاتب على قراءة بعض النقاد لأشعاره وتصنيفها وفق المذاهب الأدبية التي سادت في 70 ق20، ولا تروق له تلك التصنيفات، فالشعر الحقيقي، كمشاعر الإنسان، "يستعصي على تصنيفات النقاد في خانة مدرسية جاهزة وقوالب حديدية" (ص190).
ورأيه هنا يذكرنا بآراء كتّاب كثر صُنّفوا على مذاهب أدبية دون أن يدرسوها، مثل (فيكتور هوغو) الذي عد كاتباً رومانسياً دون أن يقرأ دستور الرومانسية.
على أن أهمية السيرة في دراسة تجربة الكاتب لا تقتصر على دراسة أشعاره وحسب، بل إنها تمس مسلسلاته التي راجت أكثر بكثير من رواج أشعاره.
هل كان وليد سيف وهو يكتب مسلسلاته مثل ممثل في المسرح الأوسطي يتقمص الدور وينسى نفسه؟ هل كان ينجح في إقصاء مشاعره وأفكاره ورؤاه عن مشاعر أبطاله وأفكارهم ورؤاهم؟
يفرد الشاعر صاحب السيرة عنواناً يخوض فيه في هذا الجانب، والعنوان هو: "حضور الكاتب في شخصياته" (ص474)، ويقر فيه علناً بأنه أفاد من بيئته وأسرته الكثير، وهو يكتب العديد من المسلسلات، وأبرزها مسلسلا صلاح الدين وتغريبة بني فلسطين. بل إنه، قبل أن يخوض في الأمر تحت هذا العنوان، يأتي، على مسلسل صلاح الدين، وهو يكتب عن علاقته بعمّه الدكتور محمود ابراهيم.
وحين شرع وليد بكتابة مسلسل صلاح الدين توقف طويلاً عند العلاقة الخاصة بين صلاح الدين وعمه شيركوه، وعبر، وهو يخوض فيها، عن علاقته بعمه. "لم أقرأ العلاقة الحميمة الخاصة بين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين بحيدة عاطفية، فوجدتني أكتبها بكل ما يحمل صدري من مشاعر خاصة تجاه العمومة في أروع صورها وأسمى معانيها، كما تجلت في تجربتي الخاصة مع عمي محمود." (ص132)، وأما عن هذا الجانب في مسلسل التغريبة الفلسطينية فحدّث ولا حرج، ولعل هذا يحتاج إلى كتابة موسعة في مكان آخر، خارج الصحيفة.


3- محمود درويش ووليد سيف: التأثر والتأثير: مدخل

في بداية الشهر الماضي أخذت أُدوِّن، على صفحة الفيسبوك، ملاحظات عن سيرة الشاعر وليد سيف، وكان الصديق فؤاد العكليك أحضر لي، من عمّان، نسخة، قبل أن أُهدى نسخة ثانية من ابنة عم الشاعر، وأنا في عمّان.
ما إن بدأت أُدوِّن، وما إن عزمت على الكتابة، حتى اتصل بي باحث من غزة، معني بالشاعر وشعره، هو صالح حمّاد، ليسألني عن كتب الشاعر وما أنجز عنه من دراسات، وكتب لي إن محمود درويش متأثر بوليد سيف، وقد قرأ هذا في كتاب الناقد العراقي محمد الجزائري «تخصيب النص» (2000)، وهو كتاب سأعود إليه لأقرأ ما كتبه صاحبه، ولأرى علام اعتمد.
في هذه الأثناء واصلت قراءة سيرة وليد سيف، وتعزز لدي رأي آخر هو أن وليد سيف قارئ جيد لأشعار محمود درويش، بل ومتابع لها ولمواقفه السياسية، وقد ترك هذا أثراً في كتابته، فلم تخل السيرة من مقاطع شعرية لمحمود درويش، ومن محاكمات له، ومن عبارات ترد في كتابة وليد سيف بسلاسة وسهولة، كما ترد عبارات كثيرة من محفوظة الشعر العربي القديم والقرآن الكريم.
وفوق هذا كله فإن صاحب السيرة يخصص صفحات للقائه بشعراء الأرض المحتلة، إثر حزيران، قبل العام 1970، ويأتي فيها على لقائه بهم.
فماذا كتب محمد الجزائري عن تأثر درويش بسيف؟
يدرس الناقد العراقي أشعار محمود درويش وتناصه مع شعراء عرب كثر، ومنهم وليد سيف، ويشير إلى قصيدة درويش «أعراس» في ديوان «أعراس» (1977)، وفي ص133 يكتب «وفي «أعراس» التناص يتعالق مع نص «أعراس» لوليد سيف وعرس الدم للوركا».
وكان وليد سيف صدر قصيدته بالتالي: «في الوجه الفلسطيني لأسطورة الطفل الفارس فيديركو ـ غارسيا لوركا/ الحادثة الأولى في قرية فلسطينية» (ص35 من «وشم على ذراع خضرة» 1971).
وقصيدة «أعراس» لمحمود درويش ظهرت في ديوانه «أعراس» (1977)، فهل كان، وهو في لبنان قرأ ديوان وليد سيف وراقت له قصيدة «أعراس»؟
ولأنني قارئ جيد لأشعار محمود درويش فلم يغب عن بالي ما كتبه عن (لوركا) في ديوانه الثاني «أوراق الزيتون» (1964).
وفي مقالاته التي كتبها لاحقاً، مثل «خمسون عاماً على لوركا» (1986) وفي المقابلات العديدة التي أجريت معه، ومنها المقابلة التي نشرت في مجلة الشعراء/ رام الله، في العام 2000، وأعرف أن درويش قال إنه أفاد من (لوركا) في ما يعرف بتراسل الحواس.
وعموماً فإن علاقة الشاعرين بـ(لوركا) لفتت أنظار دارسين منهم إبراهيم خليل ومحمد الجعيدي، ومن كتب عن تأثير (لوركا) في الشعر العربي المعاصر. بل وفي رسالة ميسر خلاف عن سيف حيث أتت على هذا.
عرف الشاعران، إذن، (لوركا) في فترة مبكرة، فقد نقلت أشعاره إلى العربية، وربما يكون درويش قرأها بالعبرية. وكما ذكرت فقد كتب في 1964 قصيدته «لوركا»، وفي السنة اللاحقة، أرجح، تعرف وليد سيف إلى أشعار الشاعر الإسباني، فقد ترجم فايز صباغ قصائد عديدة له ونشرها في نهاية 1964 وبداية 1965 في العدد 8 من مجلة «الأفق الجديد» الصادرة في القدس. (انظر ميسر خلاف) مظاهر الإبداع الفني في شعر وليد سيف، 2015، قائمة المراجع.
في ديوانه «لا تعتذر عمّا فعلت» (2003) يكتب درويش قصيدة عنوانها «تنسى كأنك لم تكن» (ص79)، ويذكر فيها أنه ملك الصدى، لا عرش له إلاّ الهوامش و:»الطريق/ هو الطريقة. ربما نسي الأوائل وصف/ شيء ما، أحرّك فيه ذاكرة وحسّا»، وحين نال جائزة الأمير كلاوس من هولندا، قال في مقابلة أجريت معه، وربما في الكلمة التي ألقاها، إن شعره هو فسيفساء من نصوص الآخرين. وهذا كثير منه.
أعتقد أن درويش أخذ يقول هذا في فترة متأخرة من حياته، وفي هذه الفترة بدأ كثيرون يجرؤون على اتهامه بالأخذ، وأنا لست معه ولست معهم، فله شخصيته الشعرية، ولشعره مذاق خاص، حتى لو أخذ عبارة من هنا أو عبارة من هناك، أو فكرة من هنا وفكرة من هناك، مع أن خصوصية التجربة الفلسطينية أفادته كثيراً ومنحت أشعاره خصوصية خاصة، وما زاد هذا أنه لم يكن يعيش بعيداً عن المكان الذي كانت فيه الثورة، فقبل خروجه من فلسطين كان عضواً في الحزب الشيوعي، وكان يعيش مع الناس وبينهم ويتوجه بخطابه لهم، وبعد خروجه من فلسطين التحق بمنظمة التحرير وأقام في بيروت، وحين أقام في باريس ظلت تجربة بيروت، ولاحقاً انتفاضة الشعب الفلسطيني، حاضرة في ذهنه، ينهل منهما، وما ديواناه «ورد أقل» و»هي أغنية.. هي أغنية» (1986) إلاّ دليل على أنه ظل وفيّاً لقضيته وقضية شعبه.
هل تأثر محمود درويش بوليد سيف أم أن العكس هو الصحيح؟ الأمر يحتاج إلى برهان، فأنا أعزّ الشاعرين وأحترمهما، وللكتابة بقية..


4- القمر لم يسقط في البئر، القمر سقط في البئر (لوركا) ودرويش وسيف

يأتي وليد سيف في سيرته على هزيمة حزيران 1967 وانعكاسها عليه وعلى أبناء جيله، فقد دفعته إلى الالتحاق بحركة «فتح»، حيث تسلل إلى دمشق ليتدرب في معسكراتها هناك. وإذا كان هو اختار الفعل رداً على الهزيمة، من أجل تجاوزها، فهناك من أصيب بالجنون.
كان أحد زملاء الكاتب يدرس معه، ولما وقعت الحرب وخسرها العرب أخذ يكرر: «القمر سقط في البير، ونسوان الحي ينشلنه».
ويعقب سيف على العبارة وتأثيرها عليه: «استوقفتني العبارة، ووجدت فيها صورة شعرية فذة، لولا أن سياق الحال والمقال الذي صدرت فيه كان سياق التخطيط العقلي».
ويضيف: «وأعترف الآن أنني سرقت الصورة من صاحبها إذ جعلتها بعد ذلك في إحدى قصائد مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت عن دار الطليعة عام 1969 بعنوان «قصائد في زمن الفتح»، أما القصيدة فهي بعنوان «عن الحب والحزن والأطفال». (ص218).
ويفيد الشاعر من دراسته اللغوية ويأتي على ظاهرة الانزياح في اللغة الشعرية ليشرح لا معقولية الصورة ولينهي كلامه بعبارة «وعلى أي حال فقد قيل «الفنون جنون» (ص219).
وبالعودة إلى القصيدة المذكورة نقرأ المقطع التالي: «القمر الأبيض يسقط في قاع البئر/ ينمو مزرعة للأطفال/ ينشل منه رجال القرية وعد الموسم/ ونساء القرية حلم/ وأنا أمشي بين الأشجار» (قصائد في زمن الفتح، 20).
وقارئ أشعار محمود درويش ونثره لا يتعثر في البحث عن توظيفه دال القمر منذ فترة مبكرة جداً. ولكن الطريف أنه في كتابه النثري «يوميات الحزن العادي» (1973) يكتب مقالة عنوانها «القمر لم يسقط في البئر»، وفيها يأتي على طفولته وما ألم بنساء القرية في أثناء غيابه عنها.
كان درويش في الخامسة من عمره حين ذهبت أمه، من البروة، إلى عكا، دون أن تأخذه معها، فما كان منه إلاّ أن لحق بها، وهو لا يعرف الاتجاه، ووصل عكا ولم يعثر على أمه، وعاد إلى قريته في ساعات المساء، وفي هذه الأثناء أخذت النسوة يبحثن عنه. هل سقط في البئر؟ يكتب درويش:
«كانت أمي في البيت، وكان أهل البيت والجيران يبحثون عني في كل آبار القرية. حين يضيع الطفل فلا بد أن يكون قد سقط في البئر». (ص31، طبعة دار العودة الخامسة في 15/10/1988).
إن تشبيه الطفل بالقمر ليس بمستغرب، فالطفل جميل، وكل طفل في أعين أهله قمر، وكم يشبه الشعراء العرب محبوباتهم بالقمر «أمانا أيها القمر المطل/ فمن جفنيك أسياف تسل»، وربما وجب هنا العودة إلى الأمثال الشعبية وقصة المثل.
في أشعار محمود درويش المبكرة، منذ «أوراق الزيتون، بدأ دال القمر يظهر في قصائده، بمعناه القاموسي وبمعناه المجازي، أيضاً. ففي «أوراق الزيتون» (1964) في قصيدة «ثلاث صور» يبدو القمر بارداً وحزيناً شارداً، وفي قصيدة «عن الشعر» يعاتب الشاعر الدوالي، والقمر والليالي والقدر، وفي «أجمل حب» يقول: «حبيبان نحن إلى أن ينام القمر»، وفي قصيدة (لوركا) يكون القمر للشاعر عشاً إن جلس، وتكتسي بالدم بسمات القمر. وفي «عاشق من فلسطين» (1966) يخاطب درويش، في قصيدته «قمر الشتاء»: يا شعراء أمتنا المجيدة/ أنا قاتل القمر الذي/ كنتم عبيده» ويكون قلبه على قمر تحجّر في مكان. وللشاعر قصيدة عنوانها «خائف من القمر»، وأما أبوه فقد غضّ طرفاً عن القمر وانحنى يحفر التراب».
هل كان الشاعر درويش متأثّراً بالشعر العربي القديم» يا شعراء أمتنا المجيدة/ أنا قاتل القمر الذي/ كنتم عبيده» أم كان متأثراً بالشعر العالمي وتحديداً بشعر (لوركا): «وله الأقمار عشٌّ إن جلس»؟
لم أقرأ (لوركا) بالإسبانية، وما لدي من شعره ديوان عنوانه «شاعر في نيويورك» ترجمة حسين عبد الزهرة مجيد وصدر عن دار أزمنة في العام 1994، وفيه يتكرر دال القمر تكراراً لافتاً، ولو أخذنا قصيدة «المقبرة اليهودية» (ص103) لقرأنا عن «الإشراقة الرهيبة للقمر» و»القمر نقش على مرمرته أسماء عتيقة وأشرطة بالية»، وهناك قصيدة عنوانها «قمر وبانوراما الحشرات» و.. و.. .
وسيكون القمر في ديوان وليد سيف «وشم على ذراع خضرة» (1971) ذا حضور. ففي قصيدة «أعراس» التي أشار إلى تأثره فيها بـ (لوركا) كان القمر غجرياً وداعراً ونارياً ووحشياً وغادراً. فهل كان دال القمر في أشعار درويش وسيف بارزاً لبروزه في شعر (لوركا)؟
إذا ما طالع المرء (موتيف) ات [موتيفات] الأدب العالمي فإنه سيلحظ بروز هذا الدال منذ عهود سابقة، في الشعر، وفي النثر، بل وفي الكتب المقدسة، فقد ورد بمعانٍ مختلفة وكان مقدساً، بل رآه ابراهيم، لوهلة، ربّه.
أحبّ الناس القمر وخافوا منه، وكانوا عبدوه أصلاً، وما على القارئ إن أراد أن يقرأ عن القمر في القرآن أو في الشعر العربي، قديمه وحديثه، أو في علم النفس سوى أن يكتب عبارة في محرك البحث (غوغل) ليرى. وما يهمني هنا هو تأثر وليد سيف بمحمود درويش أو تأثيره فيه، وتأثر كليهما بالشاعر الإسباني (لوركا).


5- موت الشعر: درويش والرواية وسيف والشعر

في 80 ق20 كنت أُحرِّر في جريدة " الشعب" الزاوية الثقافية، وكانت "تصلنا المجلات الصادرة في باريس التي كان القاص أكرم هنية، رئيس تحرير الجريدة، يُزوّدني بالصفحات الثقافية منها. وفي إحدى تلك المجلات قرأت مقالاً عن موت الشعر وردت فيه العبارة التالية: "إنهم يدقون آخر مسمار في نعش الشعر" وعرفت أن الشعراء المشهورين في فرنسا يُطبع من الديوان الواحد لهم ألف نسخة.
لاحقاً سأبحث في الأمر، وسأعرف أن عاصمة النور تهتم بالشعر، لا من خلال قراءته مطبوعاً، وإنما من خلال الأمسيات والندوات، وفي الربيع يقرأ الشعر فيما يعرف بربيع الشعر، حتى إن الأمر امتدّ ليشمل المراكز الثقافية الفرنسية في بلداننا نحن، إذ غالباً ما تحيي المراكز أمسيات شعرية.
في 90 ق20 قرأت، بالألمانية، رأياً مشابهاً، ولكن... سأترجم مرة، عن الألمانية، مقالاً عن واقع الشعر في ألمانيا التي ما عاد الناس فيها يحفلون بالشعر إلاّ إذا كان هناك شاعر يشكّل ظاهرة لافتة، وكانت هناك شاعرة، هي (أولا هان)، إن لم تخني الذاكرة، هي من شكّلت هذه الظاهرة، فقد أعيدت طباعة أعمالها مراراً لتنويعها في الموضوعات.
في بداية تشرين 2 من العام الماضي (2016) زرت عمّان، فأهديت مجموعات شعرية عديدة، ولم أشترِ سوى ديوانين للشاعر أحمد دحبور هما "جيل الذبيحة" و"كشيء لا لزوم له"، فقد بحثت عنهما مُطوّلاً في مكتبات الضفة وعمّان، ولم أعثر عليهما إلاّ حين زرت الناشر في موقعه الجديد، فاشتريت نسختين من كل ديوان لأسباب. طبع الديوان الأول في 1999 والثاني في 2004، ولم تعد طباعتهما، لا في الخارج ولا في فلسطين حيث يقيم الشاعر، ولهذا دلالته طبعاً.
ولكي لا أتجنّى على الشعر والشعراء فقد سألت عن الأعمال الأخيرة لمريد البرغوثي ولم أحصل عليها، وحين سألت الناشر نفسه قال لي: إنها نفدت، وإن مريد شاعر مقروء محبوب، ولم أسأل إن أعيدت طباعة أعماله ثانية أو ثالثة.
وفيما أعرف فإن الشاعر الذي تعاد طباعة دواوينه في فلسطين هو محمود درويش ـ إذا استثنيت نزار قباني ومظفر النواب وأحمد مطر ـ، وحتى الشعراء الذين فازوا بجائزة درويش لم تعد طباعة أي ديوان لهم، وهذا بدوره يستحق إثارة سؤال: لماذا؟ ويتبعه سؤال آخر هو: حين تفوز رواية بجائزة الرواية العربية سرعان ما تصدر منها طبعات، فلماذا لا تصدر طبعات من أعمال الشاعر الذي يفوز بجائزة مهمة تحمل اسم شاعر مهم ومؤثّر؟
مرة اقترحت على أحد طلابي في الماجستير، وهو عمر القزق، أن يدرس ظاهرة الشعراء الذين تحولوا إلى كتابة الرواية، وكانوا شكلوا ظاهرة: سميح القاسم وعلي الخليلي وزكريا محمد وغسان زقطان وأسعد الأسعد و.. و.. ـ هذا في فلسطين، لا في خارجها. فهل فكرت أن أقترح على طالب ثان أن يدرس ظاهرة تحوّل الروائيين إلى كتابة الشعر، إن كانت هناك ظاهرة؟ أحياناً أفكّر في ظاهرة تحوّل كتّاب القصة القصيرة إلى كتابة الرواية، وهذه ظاهرة.
في سيرته "وليد سيف: الشاهد المشهود: سيرة ومراجعات فكرية" يأتي الكاتب على تحوّله من كتابة الشعر الدراما، ويخلص في الأسطر الثلاثة الأخيرة إلى مقولات هي: موت الشعر، موت جمهور الشعر، والهجرة إلى أشكال أدبية أخرى، ويكتب عن تجربته هو، ويأتي في أثنائها على ما قاله نبيل عمرو عن عدم كتابة محمود درويش الرواية، ومما يورده أن درويش كان يكتم غيرة من الرواية العظيمة، فيتوق إلى كتابة الرواية، ثم يحجم قائلاً: أن أكون الأول في الشعر خيرُ من أن أكون متأخراً عن هذه المنزلة في الرواية!" (ص492/ لماذا هجرت الشعر؟).
أنا بدوري عدت إلى كتاب نبيل عمرو "محمود درويش في حكايات شخصية" (2014) لأتأكّد مما أورده نبيل فقرأت كلاماً مشابهاً: "محمود: إنك لا تريد كتابة الرواية، لأنك غير متأكّد من تفوقك في هذا المجال، فإن كنت الشاعر رقم 1، فلا بدّ أنك تخشى أن تكون كاتب رواية رقم...
ـ ضحك" (ص57).
في كتاب "فارس .. فارس" الذي أعدّه محمد دكروب مقالة لغسان كنفاني عنوانها: "شعراء متهمون بالغش والتزوير" يأتي فيها كاتبها على قصائد شعرية يقرؤها ولا يفهمها، ويخلص إلى التالي: "باختصار: إنني لا أفهم هذا الشعر".
هل غموض الشعر هو سبب موته؟
يكتب وليد سيف أربع عشرة صفحة من الحجم الكبير (491 ـ 504) ليعالج لماذا هجر الشعر. لماذا هجرت الشعر؟" وأعتقد أن تلخيصاً لها سيبدو مخلاً بفكرتها، وإن فهمت أن تفرغه للعمل الأكاديمي كان سبباً من الأسباب، وأن الشعر حرفة وكدّ ذهني ووجداني يحتاج إلى التفرغ، وأن لغة الشعر لغة مجاز تخاطب النخبة فقط، خلافاً للرواية والدراما، وأن على الشاعر أن يتميز عن غيره وعن أشعاره السابقة و.. و.. و.. .


* (خمس مقالات نشرت في جريدة الايام الفلسطينية في نهاية 2016 وبداية 2017
بقلم الاستاد الدكتور عادل الاسطة
(فلسطين /جامعة النجاح الوطنية)



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى