كمال لطيف سالم - بحيرة وان.. قصة قصيرة

الثلج أصبح هشّاً وأخذ يهبط بهم، فقد لاحظ نايل أن التلول الجبلية قد اختفت، وعندما أرسل بصره أبعد من ذلك هاله منظر الجنود الذين أخذوا يتمسكون بحافات وحفر ابتلعت نصفهم.
لقد اختفى نصف الجيش في القعر المائي للبحيرة، وكانت محاولة انتشال الجنود والأسلحة أمراً مستحيلاً، كما أنه لم يكن بالإمكان ايقاف العاصفة التي خطفت الخيام وتبعثر ما تبعثر، لم يعد أحد في الصحراء ليذكر شيئاً، الوقت، الزمن، الصباح، المساء، لا وقت هنا كل شيء منعدم في متاهات الجليد المدمر.
كان الجليد والرصاص يمرق من أمامهم كسهام وهمية ولكنها تخترق حواسهم ويمضي الجرح والألم حتى العظام؟
مسح – نايل- من على لحيته وشاربه الذي أخفى ملامح وجهه، حدق بالمدى البعيد، كان الجيش ينام تحت الجليد لا تستره خيام ولا يقلل من قسوة البرد والريح مواقد النار الخابية، في هذا التيه الجليدي لا يوجد قمر ولا شمس ولا ماء.
حاول نايل أن يحصر فكرة واحدة في رأسه وسأل:
- ترى هل ستكتب لنا الحياة؟
شعر باليأس عندما شاهد مئات الجنود يموتون تحت هول البرد والجوع.
بحث في نهاية ذاكرته عن آخر مشهد كان قد وقف عليه في بغداد، البوابة التي أوصدت بوجههم، ولا يدري كيف تذكر أبنة عمه لطيفة، تسلق ذلك الحلم الخفي في دارهم، وعنت في مخيلته النخلة، حاضرة الزمن وهكذا تشظت السنين أمامه بين بدايات ونهايات لا معنى لها أدرك خلال الرحلة التي امتدت مئات الأميال، أن ثمة أجساداً تتحرك مثل أشباح تترنح تحت طعنة الجوع والذلة.
كان السير يذيب الذاكرة بل يحطمها، وهكذا قطعوا طرقاً ودروباً وجبالاً ومتعرجات وانهاراً وجداول، كان حذاؤه قد تهرأ وظهرت أصابعه التي تورمت واصبح لونها شبيهاً بلون أقدام الغرقى!
شعر بالنعاس يأخذه، تعب أبدي فما كان بوسعه إلا أن يستسلم لغفوة قصيرة حيث أن الأوامر تأتي في أية لحظة.. تقدم.. تراجع في الثلج يتجمد كل شيء، الأحلام، الاماني، الكثير من الجنود طلبوا الخلاص، الموت والدفن في الجليد.
تنهد نايل ودّ لو أن الريح تحمل صوته إلى بغداد، كان يبحث عمن يدله على طريق سالك إلى مدينته، هناك يتناوب الليل مع النهار، بل يرى في بقعة ما ضوء ما يفتأ أن يخبو، وعندما يجنّ الليل ويصبح الظلام في قمة حلكته، وتأتي العاصفة يندفع الجليد مثل جمر ضد الدعامات الصخرية التي هي على ما يبدو مخلفات جبال تآكلت.
كان نايل يحلم بغطاء وفير في غرفته المتواضعة، ولكن كل ما يراه كان هلامياً، يأكله عسس الرعب، كان يعيش على شيء واحد.. أن يذهب حيث يذهبون لأن الاسماء في نظره غريبة ولا معنى لها في وعيه المتخلف لا يعرف شيئاً أبعد من قدميه، إنه يلامس أقرب ما تطوله كفاه، يمشي.. ولكنه يتذكر خطوطاً بعيدة كادت تغيب لماذا هو هنا..
ولمن يقاتل ويموت؟ سؤال غاب عن الجميع.
- لماذا جئنا هنا لنموت؟
هناك ليل متعاقب قال عبد الأمير ذلك وهز رأسه.
- لماذا لا نهرب؟
خربشة داهمت أسماعهم وجعلتهم يخرسون.
- ولماذا نهرب؟
أعتصره القهر، وبصعوبة قاتلة وجد جواباً لسجنه الشخصي أنه يود ذلك.
قال: ولكن كيف الخروج من زنزانة الثلج؟
طيف فكرة لمعت في رأس عبد الأمير وقال:
- لنمضي بأي اتجاه والبقية نتركها للحظ.
صوت غريب عاجله متردداً قال:
- هل تعتقد أننا سننجح ويحالفنا الحظ؟
شيء من نصف سؤال، وغيب من وعي قال في دخيلة نايل:
- لنجرب، ذلك ليل طويل لا ينام تحت هوله احد؟
سمعوا نشيجه ثم مات، لقد اكتسب الجميع صفات الذئاب ودهاء الثعالب وتلون بعض الحيوانات.
لقد ترك الثلج والجوع واللاجدوى في نفوسهم وشماً غريباً طرز أجسامهم وأحالهم إلى زمن ثلجي مخيف.
لقد تأرجح شعور نايل.. كيف ستبزغ الشمس يوماً وبعده يطل القمر كيما يرطب ليلهم الجاف؟
أسترق السمع وأمعن النظر إلى البقعة التي مات فيها ذلك الكائن الرقيق.
وقال مع نفسه:
- هذا رب الثلج.. صمت مثل كل صمت تفرضه اجواء كهذه.
ثم عاد لمخاطبة نفسه تحت نثيث الثلج.
- وأنت يا نايل- تمشي في داخلك وتبتلع طعاماً وهمياً!
هذه المرة بجد وحزم التفت إلى عبد الأمير وقال له:
- علينا أن ننفذ فكرتك، فلا خلاص لنا هنا؟
صوت آخر لم يحدده قال:
- ومتى سننفذ الأمر!
قال عبد الأمير بصوت غليظ غالبه السعال:
- غداً عند منتصف الليل.
ضحك عبد الأمير وربت على كتف نايل وقال:
- كيف نعرف منتصف الليل؟
كاد نايل أن يغرق بنوبة من الضحك لولا الجندرمة، الذين مروا من أمامهم وهم صامتون.
- أين هو العدل كل شيء هنا يكتسب لوناً أبيض؟
أزاح نايل الغطاء الجليدي عن رأسه. شعر بأنه أصبح كتلة متحجرة في عالم من الأحياء الأموات وسأل:
- ترى أليس هناك لون آخر غير الأبيض؟
هز رأسه وشرع يؤسس فكرة مع نفسه، عن خطة الهروب.
استخرج من داخله ومضة كاد يمسك بها وأعتبرها ناجحة بنسبة ضئيلة، ومع ذلك أعتدل في جلسته. شعر عبد الأمير بالحزن وقال:
- لقد صارت البحيرة قبراً لهم (مقبرة جماعية)، ترى أية مأساة تلك؟
حاول نايل أن يقاوم بحيوية فاعلة ردة الفعل القاسية قال:
- لقد رتبت كل شيء ودعنا نهرب لأن الثلج يكاد يبتلعنا.
- هل أنت واثق من ذلك، قال عبد الأمير ذلك وهو يمعن النظر في وجه نايل.
- إذن لتكن مشيئة الرب!
قبل أن يتسللا سمعا لعلعة الرصاص ووقع حوافر الخيول، إنهم القوقاز، لقد بدأ الهجوم من جانب الروس.
فروا مثل الثعالب بأتجاه اختاره عبد الأمير قال:
- لقد رميت حجراً ولنمض بأتجاهه.
وعندما أصبحا على مسافة سمعا الصراخ والعويل واختلط معه صفير الريح. أين نذهب؟ الثلج في كل الاتجاهات، دعنا نمض في سيرنا وليكن ما يكن؟
سمعا وقع أقدام ولغواً خافتاً فناما في الجليد، وبعد قليل من الانتظار سمعا لهجة عراقية وسمع أحدهم يقول:
- لقد اختفوا وهذه هي الطامة الكبرى.
نهض نايل وعبد الأمير ولمحا عشرة جنود كانوا يعرفون بعضهم، قال عبد الأمير:
- كيف عرفتهم بهروبنا!
- لقد مات من مات وهرب من هرب وهناك من وقع أسيراً بيد الروس لقد انتهى كل شيء؟
- هل تعرفون أين نحن؟
- البعض يقول نحن في سبيريا واكثر الجيش دفن في بحيرة وان..
- اذن هيا لنمضي فلا وقت لنا.
- هل تعرفون الطريق؟
- لنترك الأمر للحظ!
- إذن هيا.
شعر نايل بالحنق جراء جدال عبد الأمير الذي عبر عن ضياع الوقت. التحموا مع بعضهم مثل مسبحة وتسللوا عبر خيام، وجنود أوقدوا النار. عندما اجتازوا كتلة الحياة تلك، أخذوا يعدون مثل المجانين تطاردهم فوهة وهمية، وكانوا يسمعون صوت لهاثهم الكلبي وأزيز وقع أقدامهم العارية بدون أن يخافوا شيئاً. استسلموا لحركة أقدامهم التي تثاقلت فناموا فوق أرض عشبية بينما الثلج يكاد ينوشها عن قرب. قال عبد الأمير:
- إن العملية تنطوي على مجازفة كبيرة.
بصق نايل في الهواء وسخرية واضحة غطت وجهه مثل قناع قال:
- نحن نمضي إلى المجهول وهذا ما نعرفه منذ البداية، ولكن علينا أن نتدبر أمر الطعام والشراب والنار والشاي. قال نايل بسخرية واضحة:
- إنك تطلب أشياء مستحيلة؟
أخرج الجنود ما لديهم من طعام وخبز علاه العفن، ومع ذلك ازدردوا شيئاً قريب إلى القيء؟ لا أحد يدري كم قضوا في سيرهم غير أن شعاعاً من الشمس كان قد برز من بين الغيوم فنهض نايل فرحاً ثم تبعه عبد الأمير وقال مغمغماً:
- لقد نجحنا! كلا أمامنا المزيد فنحن نجهل المنطقة. نهض الجميع وتقدموا في مسيرهم، بعد مسير طويل، وقفوا أمام صحراء قاحلة ممتدة عبر أفق غير محدود. قال عبد الأمير بصوت غالبته الخيبة:
- هذه صحراء مرعبة كيف سنقطعها ونحن لا نملك الطعام والماء.
قال نايل مشجعاً:
- لنجازف كما فعلنا في الخطوة الأولى.
ساروا مثل أشباح وعندما جن الليل لمحوا أكواخاً ينبعث منها ضوء خافت وثمة شجرة عجفاء تميل نحو جدول رقراق. قال نايل ودهشة رسمت ملامح نظراته المتطلعة.
- أنحن في حلم؟
تقدم نايل من الكوخ ومن خلال الشباك لمح عجوزاً تحيك شيئاً وملامحها توحي بأنها منغولية، وقبل أن يطرق الباب دار حول المكان وتأكد بأنها قرية صغيرة على الطريق.
- هل أطرق الباب؟
قال نايل ودلائل حيرة تدور في وجهه المدور الشاحب. قال عبد الأمير:
- ليس لدينا خيار آخر فنحن عزل وجياع؟
تشجع نايل وقرع الباب، وبعد قليل من الانتظار فتحت العجوز الباب فبان الرعب على وجهها، من أي عالم جاء هؤلاء، اسمال واقذار ولحى طويلة. طمأنها نايل بأنهم جياع وغير خطرين ولا يحملون شيئاً مما جعل المرأة تفسح لهم الطريق للدخول، فوضعت الحطب في الموقد وراحت تعد قدراً كبيراً من حساء غريب. اغتسل الجميع وتخلصوا من قذارتهم ثم عادوا يحلقون حول النار فيما البخار يتصاعد من ملابسهم بشكل جعل العجوز تضحك فشاركها الجميع الضحك، غير أنهم سمعوا وقع أقدام ثقيلة تحيط المكان، حدقوا بالمرأة التي أمرتهم أن يدخلوا سرداباً أرضياً غطته ببساط ووضعت فوقه اجزاء من أثاث البيت غير أن جزعاً آخر يتصارع مع الريح والثلج والجنود الذين يجرون أذيال خيبة الحرب الأولى، ظل لصيقاً في نفوسهم.


* عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى