سمير الفيل - في البدء كانت طيبة..

معفر الوجه بتراب طيبة . ابن رحلة الأحزان الشجية للشاطيء الغربي الذي في نهاية أفقه تغوص الشمس الإله . أرتحل بحنين نازف حاملا في الشفاه تلك المعزوفات التي طالما ترنموا بها فوق النهر . باليد خوصا أخضر قربانا جديداً.

عريف أمين رمسيس . جئت من الصهد والقيالة حيث النيل محمرا لا يزال حاملا ً معه خصوبته ، جاريا ً في رحم الغيطان التي ما فتئت تحلم بالأزهار.

ابن العفرة والندب في المآتم والسواد وأدوار الشاي السود الثقيل.

قريتنا شريط ضيق من حقول القصب التي تسورها البيوت الرمادية الكليلة الملامح ، وأشلاء معبد جرانيتي الأوصال ، صلب كوجوه الناس في بلدتنا.

قريتنا ، يا خلق الله ، متعلقة بكل حجر ، بكل عامود مهشم في هذا المعبد . جلساتهم لا تحلو إلا فوق وحول الصخور المتناثرة في فوضى محببة إلى نفوسهم . يشمون فيها رائحة الماضي ، وأنا مثلهم أبصر فيه ميلادا جديدا.

ـ إرسله يا ابن العم ليتعلم ، فبطون نسائنا ما أعطت إلا زرّاعــا ً .

ـ والمال؟

ـ أرضك . بعها إن لزم الأمر .

ـ يا خلق الله . أنا عبدالستار رمسيس ، الصعيدي ابن الطينة أفعلها ؟! كيف يكون جلوسي مع الرجال بعدها ؟!

ـ إذن اتركه يعزق الأرض ، ويجمع القصب ، ويقضي ليله مع النساء مثلنا . أتركه يا عبد الستار.

ـ أفكر …

أهلي طيبون ، ولكنهم يتنازعون إذا رّن فأس في حقل ، وعرفوا أن صاحبه عثر على إناء من خزف أو تمثال من صخر ، واحتكره لنفسه ، ولم يتركهم يبصرونه ، يتحسسونه ، يقربونه من صدورهم ، يزيلون ما علق به من تراب في عشق لا يوصف.

أهلي طيبون ، ولكنني لا أعرف لماذا تنازعوا جسد مومياء عثروا عليها عندما كانوا يجففون المستنقع الموجود بناحية الشرق ، وصمم كل منهم أن يدفنها من جديد في قبر عائلته ، واتسع الخلاف ، وحدثت خصومات ، وفي نهاية الأمر اشتركوا جميعا في بناء مدفن جديد يضعون فيه كل ما يعثرون عليه من موميات.

لا أنسى ذلك اليوم ، لبسوا السواد ، حتى أبي الكهل ، أحضروا مقرئا يلبس قفطانا باهت الخطوط . تلى من القرآن سورا لا أذكرها . هزوا رءوسهم في حزن ، حتى النساء صبغن خدودهن بالنيلة . يا أيها الموت القديم العظيم : ناشدوك أن تترفق بهم في بردياتهم .

( أيا من يعجل سير جناح الزمان / يا من يسكن خفايا الحياة / يا من يحصي كل كلمة أنطق بها /أنظر / إنك تستحي مني وأنا ولدك / وقلبك مفعم بالحزن والخجل / ألا فسالمني .. ألا فسالمني / وحطم الحواجز القائمة بينك وبيني ) .

عريف أمين رمسيس . أرسلوني إلى الجامعة بعد أن باع أبي نصف أرضه ، وباعت أمي مصاغها ، وذهبت لأعود إليهم في كل إجازة . أحكي لهم ما تعلمته في ” مصر” من حكايات عن جدودنا . هؤلاء الأحباب الذين تركوا بقريتنا أعمدة معابدهم ، وبعض حليهم ، وخزفهم ، حتى أجسادهم الملتفة في أشرطة الكتان المتيبسة ، ورحلوا .

في ليلة كل إجازة كنت أرجع فيها من الكلية إلى قريتنا كانوا يتحلقون منقدا عليه إبريق الشاي النحاسي في نفس المكان ، يهزون رؤوسهم . كبيرهم وصغيرهم كان يفعل . ينتظرون أن أقص عليهم كل شيء .

أهلي الطيبون . عمي خضير الذي كان أثناء حديثي يقوم من مجلسنا ويتحسس النقوش الغائرة في العمود الوحيد الذي بقى قائما في المعبد القديم . هذا العم . نسيت أن أقول أنه كليل البصر ، ولكنكم لو ترونه . كالطفل الشقي الذي يضحك ويحزن ويقفز ويسكن ، عندما أحكي .

عريف أمين رمسيس . عرفني الجميع في أمسياتهم بالأستاذ . رغم أنني كنت أحرص كل الحرص على أن أرتدي نفس الجلباب الذي كان لا يفارق جسدي قبل ذهابي إلى الجامعة ، إلا أنهم أصروا على أن ينادونني بهذا اللقب .

وعندما تخرجت ، وجندت وذهبت للقرية بالكاكي . نظروا إلى ّ طويلا ، وصمت أهل قريتنا جميعا ، إلا عمي خضير فقد ضمني إلى صدره ، وشد على يدي : رجل يا أمين ، من ضهر رجل .

يومها فرحت . نظرت لأبي من طرف عيني يضحك . كلهم يضحكون ، ولم يعفونني من الجلسة المعتادة ، لكنهم أصبحوا يسألونني أيضا عن الجندية .عن الكاكي . عن مصر .

عريف أمين رسمسيس . يا أهل قريتي البعيدة. عبرت وحاربت ، وبكيت كالجميع . أنا الصعيدي الذي قضيت نصف عمري لم أضع في قدمي حذاء . أسرت الكثير منهم , لكنكم لستم غرباء . ستسمعون قصتي مع أهل قريتي . قصة طيبة المعادة .

هذه أول إجازة لي بعد أن عبرنا القناة . كنت مرتديا الكاكي . نظروا إلى ّفي فرحة . حملوني على الأعناق ، جروا بي إلى المعبد قبل أن اذهب لداري . يومها لم يسألونني أن أقص عليهم حكاياتي لكنهم تحسسوا ملابسي . جسدي . نظروا في عينيّ ، حتى أطفالهم شدوا أطراف سترتي . ضحكوا يومها كثيرا .

وفي المساء كنت أجلس معهم . في مكاننا الذي لم يتغير . بجلبابي الأبيض ، وبشعري الحليق ، وكان أبي هو الذي يوزع أدوار الشاي في فرحة ، وكان عمي خضير يربت على كتفي من وقت لآخر ، وكانت تتنازعني رغبات غير محدودة في أن أرقص . أقوم وسط أهلي وأرقص . أنا الذي لم أفعلها من قبل .

ـ إحك .. إحك لنا.

ـ لا تنس شيئا .

أنسى ! أنا أنسى ؟ سأقص يا أهلي . من البرديات أقرأ ، ومن النقوش في أعمدة وجدران المعابد أستعيد الحكاية ..

( لا أعرف لماذا قد نزلت بنا صاعقة في عهد ” تحتمس ” من غضب الإله ، فقد تجرأ قوم من أصل وضيع من الشرق على غزو بلادنا . وقد كان مجيئهم أمرا مفاجئا . وقد تسلطوا على البلاد بمجرد القوة في غير ما صعوبة . وبدون نشوب موقعة حربية ) .

لماذا كل هذا الحزن يا عمي خضير؟ لماذا كففت عن توزيع أدوار الشاي يا أبي ؟ مازلت في أول الحكاية . البردية لم تنته بعد . لا , لا أريد شايا . لقد نسيته في موقعي الجديد.

( أحرقوا المدن بوحشية ، وأزالوا معابد الآلهة من أساسها ، وساروا في معاملة الأهلين بكل قوة ، فقتلوا بعض القوم ، وسبوا نساء وأطفال أناس آخرين ) .

يا ذلك الندب الأبدي الحزين . يا طيبة كيف صبرت على كل هذا الهوان ؟؟ وما كـّـف آمون عن العطاء . يا طيبة . غسلنا بدموعنا خطايانا . رفض الآلهة القرابين . أمرتنا بأن نسترجع ما سلبوه من زهور اللوتس . ما حطموه من معابد . تأملوا جميعا كل كلمة في حكايتي . تأمل يا عمي خضير . تأمل..

( تأمل إنها الدلتا في أيدي من لا يعرفها مثل أولئك الذين يعرفونها ، وإن الأسيويين مهرة في مهن أرض المستنقعات) .

في أيدي من لا يعرفونها يا أبي . وفي القلب جرح نازف . وما سكتنا .

( ولكن الجائحة الشنعاء في بلد العامو ، وكان الأمير ” أبوفيس ” في ” أواريس ” ، وكانت كل البلاد خاضعة له . وكذلك كل حاصلاتها بأكملها . وكذلك كل طيبات ” تميرا ” .. )

نعم . إحكي لكم . لا تسألونني كيف عبرت مع الرجال ، ولا كيف سمعت نداء طيبة ، وآمون ، والرحلة الحنون إلى الغرب . ونظرات أمي بعينيها المكحولتين بالترقب . لا تسألونني كيف عبرت ، ولكن أسألوني كيف كان اللقاء . تأملوا…

( تأملوا فإني سأحارب ” العامو” ، وإن النصر سيأتي ، وإذا بالبكاء …. فإن الأرض قاطبة سترحب بي ، بوصفي محاربا لأهزم ” العامو ” بأمر ” آمون” صادق النصيحة . وقد كان جيشي شجاع يسير أمامي كأنه عاصفة من نار ) .

فجأة يا عمي حدث ما حلمنا به طويلا . أعطونا القوارب . هذه أرضكم السليبة . أستعيدوها . يا من انتظرتم كل هذه السنوات ، وبالألم مضت أيامكم .

كنت أحملكم في أوصالي ، ومعبدي ، بردياتي . طيبة، الطيبة ، القوية ، السمراء ، النيلية ، الخصبة ، التفتق ، الزاخر . لا تسألونني ، ولا تدمع عيونكم . ما زالت هناك سطور .

( ثم جعلت ” العامو ” الذين اعتدوا على مصر يولون الأدبار ) .. حدث هذا يا أهل قريتي ، وكانت فرحة ..( وأمضيت الليلة في سفينتي ، وقلبي فرح ، وعندما أضاء النهار انقضضت عليه كالصقر ، وعندما جاء وقت تعطر الفم كنت قد هزمته ) .

بحق النبتة المعطاءة في الوادي ، وأسوار المعبد المقدسة أقسموا ، وأقسم برغيف الخبز يشبع الأطفال . أنا الصعيدي الأسمر . لم أشعر بحبي لطيبة مثلما شعرت ونحن نخلصها ( وكان جيشي كالأسود عندما ينقضون على الفريسة ، ومعهم العبيد ، والقطعان ، والآدم ، والشهد . فقسموا غنائمهم وقلوبهم فرحة) .

عريف أمين رمسيس . أسرت من الأعداء أربعة بمعونة زميلي في الكتيبة . لا يا عمي خضير . ما كانوا يرتجفون بردا لكن ذعرا . يا أبي الطيب . إبنك حارب . كأحمس بن أبانا الذي لم يكن ملكا ، ولكن فلاحا من ” طيبة ” . يحب اللوتس والبردي . يستهويه اللون الأخضر . لم يعتل عرشا . ولم يمسك صولجانا ، ولكنه تشرب حب الأرض والحياة.

يا أبي الطيب . أحمس بن أبانا هذا ، ما صنعوا لجثته هرما ، ولا جرجروا من أجله الأحجار مئات الفراسخ بل ابن فلاح أتلفت الديدان نصف قمحه ، وأكلت أفراس البحر ما بقى منه ، ووهب ابنه جنديا شجاعا لمصر . هذا هو الابن ..

( وعندما بدءوا الحرب على الماء في القناة ” بزدكوا أواريس ” أسرت أسيرا ، أحضرت يدا . وقد أعلن ذلك لحاجب فرعون ، ومن أجل هذا أعطيت ذهب الشجاعة ) .

نحن يا أبي الذين حاربنا .

كل حفنة رمل استرجعناها كنا نحتضنها . نستنشق النسمات التي لم تكن تدخل رئاتنا إلا محروقة . أسرنا الكثير يا أبي . كنا نعهد بهم أحيان كثيرة لبعض جنود الصاعقة ، على أن يحملوهم على الشاطيء الآخر . كانت هواية محببة للكثير . هواية قديمة . البردية تحكي ..

( وعندما حاربوا في مصر في الجزء الجنوبي من هذا البلد ، أحضرت أسيرا حيا ، وقد ذهبت إلى الماء لأنه قد أسر في الجهة الأخرى ، وقد أعلن حاجب الملك بذلك ، وتأمل . لقد كوفئت بذهب الشجاعة من جديد ) .

عريف أمين رمسيس . أبي كهل باع نصف أرضه لتعليمي . عمي خضير يحتضنني كلما رآني مرتديا الكاكي . بقريتنا معبد فرعوني من نقوشه أرتل. مع أهلي اجلس في المساء . لنسترجع قصة طيبة . نسترجعها من جديد.

27 أكتوبر 1973.

* كيف يحارب الجندى بلا خوذة ؟ ، مجموعة قصصية ، المجلس الأعلى للثقافة ،2001.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى