يسري أبو العينين - نفق معتم.. قصة

لا أعرف لماذا تلكأوا فى النزول .. ففى تلك اللحظات التى سبقناهم فيها واصبحنا وحدنا فى الشارع ، جذبنى من يدى ونحى بى جانبا .. كان غريبا عليه أن ترتجف يده ، والأكثر غرابة أنى لمحت رعشة فى عينه اليمنى حين مال ناحيتى وهو يهمس :

– أنا عشمان فى طلب بسيط منك .

شيئ ما جعلنى أستغرب من صراحته , خاصة وأن علاقتنا لم تكن تسمح له بأن يطلب منى أى مبالغ مالية .. هكذا شعرت بثقل الأمر فجأة وفكرت أن علاقتى به ما كان لها أن تصل إلى هذا الحد .. جاوبته بما كان لا يتوقعه وبعد أن مضى إبتسمت وأنا فى غاية الضيق ..

حين وصلوا سألونى عنه ، أخبرتهم بذهابه ، كنت شاردا حين قال بهاء :

– ياعم أحسن .

كان لا يزال فى بالى .. ولا أعرف لماذا وضح فى ذهنى فى تلك اللحظة وجه ابنته الصغيرة منى .. كنت قد رأيتها حين أقسم ذات مرة أن اصعد إلى بيته لأشرب معه الشاى .. كنت أشعر أنه فى تلك اللحظة تمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه ، لكنه لسبب ما وقبل أن يختفى من أمامى , وقف ليزر جاكتته المحبوكة على جسده النحيل وهو يبتسم فى سخرية .. ثم كان أن التفت بسرعة وراح يمضى مسرعا و هو يتعثر فى طرف بنطلونه .

ضهرى مركون على صدر المرأة التى تجلس جوارى فى الميكروباص .. تدفعنى براحتها كلما أهتززنا أو توقف الميكروباص فجأة .. حين هبطت فى محطتها , قام أحمد عبد الشافى من فوق ساقى وجلس مكانها .. كنت أتخيل منظره وهو يمد بأذنه التى يسمع بها ناحيتى منتظرا اجابتى .. ربما ضايقنى منظره هذا ، لا أعرف .. أقسمت له أن الحال ليس على مايرام هذه الأيام .

قلت كمن يصحو من نومه فجأة … أعذروه يا جماعة .. وصاح بهاء أنه لايوجد أحدا غلبان هذه الأيام . وحين زعق سائق الميكروباص – محظة الكوبرى – هبطنا .

كان الكورنيش خاليا من الناس فعللنا ذلك بهزيمة الأهلى غير المتوقعة من فريق القناة ، وقفنا لنفترق أسفل الإعلان الضخم لسجائر مارلبورو ، كان الليل قد هبط فظهرت جمرة السيجارة فى يد الرجل الكاوبوى أشد توهجا .. منظره حين كان يمد أذنه اليمنى ناحيتى وهو ينتظر ردى عليه يروح ويجىء فى رأسى كبندول الساعة .. كانت ملامحه تقفز إلى رأسى عنوة وتتصدر واجهة الذاكرة ، دون قدرة منى على منعها .. سُمرة الوجه داكنة يابسة ، ومحجرا العينين عميقان مطموسان بالصفاء وطيبة القلب .. أيقظتنى صيحة بهاء :

– بس فاكرين حسين .

انطلقوا فى الضحك مرة ثانية ، وتذكروه لما قال عندما سجل القناة هدف الفوز أن السويس كانت أول شيىء رآه أثناء عودته من الأسر .. وقتها انطلقنا فى الضحك دون توقف ، حتى ان بهاء انكفأ فوق الأرض قابضا على بطنه من كثرة الضحك ، الغريب انه لم يتوقف عن الحديث ولم يندهش ولم يعلق على ضحكات الأصدقاء وانما راح يقول وهو يغلق عينيه .. أنه زارها مرة أخرى حين استدعوه هو والعسكرى فوزى لنقل جثث العساكر الذين استشهدوا فى كبريت لدفنها فى مقابر الشهداء .

تذكرته وأنا أعبر نفق الكوبرى السفلى .. فى منتصفه تماما حيث كانت العتمة لا تجعلنا نرى أنفسنا ، مسكنى من ذراعى وهو يقهقه بصوت عال .. لا تخف ستنتهى الظلمة بمجرد خروجنا من النفق .. إنها مسألة خطوات .. حين خرجنا كان لا يزال ممسكا بذراعى .. قال أن العتمة التى تعيشها وأنت تعرف أنها ستنتهى لابد أن تعيشها بمتعة .. قلت له هل هناك عتمة لا تنتهى ؟ .. قال وهو يترك ذراعى ودون حتى أن يفكر طويلا .. عتمة الحرب .. لقد قال وهو يشرد بعيدا وكأنه يتذكر شيئا عبر فى رأسه .. هناك يتربص بك الموت الذى لا تراه ويجعلك تعتقد أنك ستحمل هذا الليل معك وأنت ترحل إلى أبديتة ..

فى آخر النفق كانت هناك صورة للمحافظ ورجل الأعمال الذى تبرع بالسيراميك للنفق هدية من شركته وإعلان فخم بالنيون عند مخرج النفق .. أصوات تاكسيات .. عربات كارو .. بنات محجبات ترتدين الجينز .. سيدات بعباءات خليجية .. مطب عالى بعرض الشارع وعسكرى مرور يتناول ساندوتش ناوله له سائق سيارة ميكروباص .. رحت أمضى فى اتجاه كنتاكى و صورته لا تزال تروح وتجئ فى بالى .

فى الليل كان يرفع سماعة التليفون ويقفل حجرته ثم يأتى الى سريرى فى عنبر الجراحة ليطمئن علي .. يعطينى سيجارة رغم تحذير الأطباء ، ويشعل واحدة لنفسه .. يقول لى ولا يهمك سيجارة واحده لن تضر .. كان يعمل على السويتش و يحب السهر لهذا كان يعمل دائما فى وردية الليل ، قال لى أن مشكلته فى الليل هى الشاى ، وفهمت أن أنبوبة البوتوجاز الموجودة فى الكانتين أحيانا يجدها فاضية .. وقال أن أسوأ لحظات حياته حتى قبل أن يتزوج لما تفضى أنبوبة البوتوجاز فى البيت .

لما عبرنا القناة ودخلنا نقطة العدو الحصينة فى كبريت على خط بارليف .. أسرنا اليهود اللى فيه ، أول حاجة وقعت عينى عليها كانت أنبوبة بوتوجاز ، أخدتها فى حضنى وكتبت عليها أسمى وقلت دى بتاعتى ، وكان كل مكان أروح فيه أشيلها معايا .

قلت له … وجبتها معاك ، قال وهو يضحك .. طبعا لا ، بعد فترة طويلة وبداية الهجمات المضادة بمساعدة طائرات الفانتوم الأمريكانى , ولاد الكلب فضلوا يضربوا علينا لغاية ما لقينا أنفسنا فى المياة وأخذونا إلى الأسر من البحيرات المرة .

كان يجلس خجلا منذ اليوم الذى جئت به الى المقهى ، ولم يشارك فى قعدتنا إلا بالقدر الذى يسمح له بمراقبة لعبنا دون تعليق ، قلت لهم … الأخ حسين بطل من ابطال أكتوبر .. كسف بعينيه وهو يبتسم ، سأله أحمد عبد الشافى.. يا ترى الأخ حسين بيشتغل أيه دلوقت .. وحين أجبروه أن يكون رابعنا فى اللعب اكتشفوا صمم أذنه اليسرى .. وغبائه الشديد فى لعب الدومينو .

راح يتكلم كثيرا عن ذكريات الحرب لما سأله بهاء عن سبب صمم أذنه .. كان يقصها عليهم بشغف الملهوف ، لكن اصراره المستمر على السرد دون رغبة منهم واصراره على أن يأتى بدليل ليؤكد به صدق حكاياته – كل مرة – جعلهم يقبلونها باستخفاف كان يدفعهم أحيانا الى الضحك .

وحين كنت أجاريهم فى ضحكهم وأذكره بحكاية أنبوبة الغاز ، كان يقول لى ..مش عاوز تنسى الحكاية دى بقى ، واقسم بحياة أبنتيه أن الرقيب عبد العزيز الصعيدى لما دخل الموقع أخذ كل الأطباق اليلاستيك وخباهم فى الدبابة بتاعته .. صمت قليلا وقال .. أنا عاوز أعرفك على العيال دى .. وفى اليوم التالى جاء الى المقهى بصورة كان يضعها فى كيس من البلاستيك ..

كانت صورة بالأبيض والأسود ، صفراء وباهتة ، متآكلة الحواف ، وثمة أشخاص نحيلة و معفرة الوجوه ، تقف وهى مستندة على جانب دبابة ولم يكن غير مساحات من الرمل تحيط بهم من كل جانب .. قال وهو يبتسم … أسمى أنا المكتوب على برج الدبابة .. ودى الدبابة اللى كنت مستلمها .

يومها عرفنا أسمه كاملا … حسين عبد الناصر ، واستطعنا لحظتها أن نحدد مكانه فى الصورة .. كان أنحفهم وأكثرهم طولا وكانوا رافعين أياديهم الى فوق .. بعضهم يرفع أصابعة بعلامة النصر ، و البعض كان فى وضع مابين النهوض و الجلوس . قال .. كنا مستعجلين لكن منير دانيال أصر على أخذ الصورة .. وسألناه

– مين منير دانيال ده

لم يلتفت الى سؤالنا ولم ينتبه إلا لما سألته عن المكان الذى يقفون فيه .. انتبه للحظة ثم عاد الى شروده وحين قلبنا الصورة وجدنا بعض الأسماء المكتوبة بالقلم الرصاص ، كان شاردا ، قال … كتبت أسمائهم حتى لا أنساهم .

قال أحمد عبد الشافى وهو يناوله الصورة … صورة جميلة ، ونبهنى بهاء أن استمر فى اللعب

– ياعم العب بقى

كان صوت سميرة سعيد يصدح فى جنبات المقهى .. أيوه بشتاقلك ساعات ، و صيحات ونداءات لصبى المقهى وأصطفاقات أكف تطرقع فجأة ، بعد فترة تكلم وسمعناه يقول بعد أن نظر طويلا فى الأسماء المكتوبة على ظهر الصورة … أن جلال عبد المعطى والسيد الفيشاوى ومحمد عبد الحى وبهجات فايد وحامد عبد الجواد ومحمد مرزوق ومنير دانيال وحلمى معوض وفؤاد فتحى ماتوا فى الأسبوع الأول من احتلالنا نقطة كبريت *.

بعد العشاء ذهبت الى المقهى ، وما أن دخلت رأيتهم فى مكانهم .. لا أعرف لماذا تضايقت حين لم أجده ، قلت لهم أن بالى غير مرتاح ولن ألعب اليوم .. وقال أحمد عبد الشافى أنه ماكان يجب أن أكسر بخاطره .. وقاطعه بهاء يا عم العشم له حدود .. اكتسحنى احساس عارم بالضيق .. نظرت فى ساعتى وانصرفت .. قلت لهم نصف ساعة وراجع

بعود كبريت تبينت طريقى فى ظلمة السلم وأنا أصعد الى شقته ..

حين فتحت الباب سألتها … اسمك أيه ؟ ، وردت بطفولة… أنا إسمى منى ثم استدارت بخفة لتعبر بى الصالة الضيقة الى حجرة الصالون .. قلت ياساتر ، ولمحته خارجا من باب غرفته فابتسمت .. بش فى وجهى بترحاب شديد .. أخذنى من يدى ، كنت أشعر به يربت على يدى بحنان بالغ ، قلت أن الوقت متأخر ، فقال … حصلت ألف بركة .. جلس قليلا ثم استأذن ..

كسوة من قماش التيل الأخضر الفاتح تغطى طقم الصالون ، وثمة صدفة كبيرة فوق الترابيزة ممتلئة بأعقاب السجائر .. فى ركن الحجرة كان هناك مكتب صغير عليه بعض الكتب للصف الثالث الإعدادى وكوب فارغ به أثار من تفل الشاى ، وعلى الجدار المقابل كانت عدة أرفف عليها بعض شرائط الكاسيت والكتب والمجلات .. حين عاد كانت عينى قد وقعت على صورة له وهو بالزى العسكرى معلقة على الجدار فى برواز صغير بجوار ضلفة الشباك الزجاج .

اعتذرت عما بدر منى بعد المبارة ، قال … لم يحدث شيىء ، أخرجت الظرف المحطوط فيه الفلوس ووضعته فوق الترابيزة وقمت مستأذنا ، قال .. البنت نزلت تجيب حاجة ساقعة وأقسم أن لا أذهب الآن .

استعصى الكلام عليا فجأة فانقذنى من خرسى المفاجىء .. دى خطوة سعيدة ، قلت دونما سبب .. تعرف انا كنت أتمنى لو دخلت الحرب مثلك ، قال.. متهيألك ثم قام وغاب قليلا ..

كانت كراسى الأنتريه ملتصقة ببعضها ، وقشرة برتقال مرمية بإهمال فى ركن الحجرة ، و فوق المكتب لصقت على الحائط ورقة بيضاء مرسوم فيها وردة مكتوب فوقها بخط جميل عيد الأم .

عاد بظرف أصفر اللون ، أدخل يده واخرج مجموعة من الأشياء وهو ينظر فى عينى ، قال وهو يحاول أن يسيطر على رعشة يده : أوعى تفتكر أن الحكاية كانت سهلة .. دى صورة عزة بنت المرحوم جلال عبد المعطى .. كانت فى إيده قبل مايموت بخمس دقائق قاللى أنه عاوز يشيلها معايا ، مات وهى فى أيده ، وده جواب من خطيبة السيد الفيشاوى وصله قبل الحرب باسبوع .. ودى دبلة دهب كانت فى صابع منير دانيال .. ناولها لى وهو يقول .. بص مكتوب فيها أيه .. ليزا 24/ 8/ 1973 .. مرت فترة صمت قصيرة ، شرع بوجهه الى سقف الحجرة وحين عاد ينظر ناحيتى مسح أنفه بظهر يده وهو يدارى دمعة كادت تفلت من عينه ، ثم راح كلانا ينظر الى الأرض .. لحظة و رفع رأسه .. فتح عينيه بحده وهو يكز على أسنانه ، همس … كنت عاوز اوصلها لاصحابها لكن مقدرتش ثم راح فجأة يجهش بالبكاء .

بقينا صامتين فترة طويلة .. ننظر كلانا إلى الأرض ونتحاشى أن نترامق .. بعد أن وقف ليعيد الظرف الى مكانه قلت له : اللى يشوفك ميقولش انك شايل فى قلبك كل ده .. استدار وقد علقت على ثغره ابتسامة حزينة وسألنى ماذا قلت ، ورحت أشعر بتعاطف مفاجىء اليه وهو يمد رأسه ناحيتى شارعا أذنه اليمنى تجاهى . قلت وانا ابتسم بدورى وكان قد خرج إلى الصالة … لأ مفيش حاجة .

لمحتها تنظر متلصصة من خلف ضلفة الباب فقلت … تعالى يامنى ، وقفت أمامى واقتربت بوجهها من أذنى وراحت تهمس … احنا عندنا جبنة لافاش كيرى ، فتحت عينى مندهشا .. مش معقول ، ووجدتها تطير خارج الحجرة لتعود بعد قليل وفى يدها استيكر لميكى ماوس وقالت … شوف عندنا ازاى ، ثم راحت تجرى بعد أن دخل هو لتلصقه على زجاج الشباك .

عاد ماسكا بزجاجة الميرندا.. كان أكثر بشاشة وخفة ، فتح النافذة وأقسم أن أسهر معه اليوم وهو يهش ذبابة راحت ترف بعناد حول حلق زجاجة الميرندا ..

عند الباب حلفت عليه أن لايتحرك خطوة واحدة ، طبطب على بمودة خالصة وظل يردد .. حصلت ألف بركة .. كانت منى واقفة أمامه ، قبلتها وسمعتها تقول وانا أقفز السلالم … ابقى تعالى عندنا كتير .. كدت أضحك وأنا أخرج الى الشارع لكن ما إن وقفت على عتبة الباب الخارجى ، حتى أصابنى الهواء برعشة مباغتة ، ورغبة فى البكاء .. على المقهى طلبت شايا وقال أحمد عبد الشافى :

النهارده أخدت بتارك من بهاء ، غلبته عشرتين طاوله .. إحكيلنا بقى عملت أيه مع صاحبك .

______________________________________________

* أسماء حقيقية لأبطال استشهدوا فى عملية تحرير نقطة كبريت الحصينة فى خط بارليف




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى