حاتم كريم حمد ابراهيم الطائي - مفهوم الأدب المقارن (1)

الأدب المقارن:
هو فرع من فروع المعرفة يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر ينتمي كل منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدب قوميٍّ ما ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بغية الوقوف على مناطق التشابه ومناطق الاختلاف بين الآداب ومعرفة العوامل المسؤولة عن ذلك،كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التي بينها، وإبراز تأثير أحدها في غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال أدبها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب..إلخ، وهذا التعريف قد تمت صياغته وبلورته من خلال التعاريف والمفاهيم المتعددة لهذا الفرع من فروع العلم، تلك المفاهيم والتعريفات التي تتباين حسب تباين المدرسة أو الشخصية التي تقود هذا التيار أو ذاك من تيارات البحث المختلفة، وهو يختلف قليلًا أو كثيرًا عن التعاريف الموجودة في كتب الأدب المقارن،وقد سرني أن أجد التعريف الذي أورده كل من "Thefreedictionary" وموسوعة الـ: "Wikipedia" الحرة على المشباك متفقًا مع تعريفي هذا؛ إذ يقول المعجم ببساطة: إن الأدب المقارن هو "Study of literary works from different cultures"، translation) often in)، كما تقول الموسوعة بنفس البساطة: إنه " scholatshop dealing with the literatyres of Critical seversl different languagrs "،ومع ذلك نرى معجم الـ: "infoplease" المشباكي مثلًا ما زال يعرف الأدب المقارن وفي ذهنه المفهوم الفرنسي له، إذ يقول: إنه "The study of the literatyres of two or more groups differing in cultural background and، usually، in lamguage، concentrarting on their relatiomships to and influenves upon each other".
فالأدب المقارن، حسب هذا التعريف، يركز على الصلات بين الآداب وعملية التأثر والتأثير اللذين تتبادلهما.
وميادين الأدب المقارن متعددة :
فقد يكون ميدانه المقارنة بين جنس أدبي، كالقصة أو المسرحية أو المقال أو المقامة أو القصيدة أو الملحمة أو الأنقوشة (أي "الإبيجرامية")، في أدبين مختلفين أو أكثر، وقد يكون ميدانه المقارنة بين الأشكال الفنية داخل جنس أدبي من هذه الأجناس في أدب ما ونظيراتها في أدب آخر، كنظام العروض والقافية أو الموشحات مثلًا، وقد يكون ميدانه الصور الخيالية؛ كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وقد يكون ميدانه النماذج البشرية والشخصيات التاريخية في الأعمال الأدبية، وقد يكون ميدانه التأثير الذي يُحدثه كتاب أو كاتب ما في نظيره على الناحية الأخرى، أو مجرد الموازنة بينهما لما يلحظ من تشابههما ....وقد يكون ميدانه المقارنة بين المذاهب الأدبية؛ كالكلاسية والرومانسية والواقعية والرمزية والبرناسية هنا وهناك، وقد يكون ميدانه انعكاس صورة أمة ما في أدب أمة أو أمم أخرى..،وهكذا؛ (انظر في ذلك فهرس كل من كتاب فان تيجم: "الأدب المقارن"/ ترجمة سامي الدروبي/ دار الفكر العربي/ القاهرة، وكتاب م.ف.جويار: "الأدب المقارن"/ ترجمة د.محمود غلاب، ومراجعة د.عبدالحليم محمود/ لجنة البيان العربي/ القاهرة/ 1956/ سلسلة الألف كتاب - العدد 44، وكتاب د.محمد غنيمي هلال: "الأدب المقارن"/ دار نهضة مصر/ القاهرة/ 1977م، وكتاب كلود بيشوا وأندريه ميشيل روسو: "الأدب المقارن"/ ترجمة د.رجاء عبدالمنعم جبر/ مكتبة دار العروبة/ الكويت/ 1980م، وكتاب د.الطاهر أحمد مكي: "الأدب المقارن - أصوله وتطوره ومناهجه"/ دار المعارف/ 1405هـ - 1985م، وكتاب د.بديع جمعة: "دراسات في الأدب المقارن"/ ط3).
ويحتاج مصطلح "الأدب المقارن" (هو في الواقع ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسي المعروف: "La Litterature comparee") بعضًا من التحليل والتوضيح، وكذلك التسويغ أيضًا؛ فالواقع (كما هو بيِّن ظاهر) أننا هنا لسنا بصدد "أدب"، بل فرع من فروع "العلم يدرس الأدب، فكيف إذًا حدث هذا؟ إنه الاختصار، أو إذا كان يحلو لك فقل: إنه الخطأ الشائع الذي يقال في مثل هذه الحالة: إنه خير من الصواب، والصواب هو أن هذا العلم يقوم بمقارنة الآداب القومية المختلفة والموازنة بينها، ومعرفة ما فيها من عناصر مشتركة أو مختلفة، والأسباب المسؤولة عن ذلك، والتعرف على الصلات التي تربطها بعضها ببعض في حالة وجود مثل تلك الصلات، والمعابر التي انتقل من خلالها عنصر أو أكثر من هذا الأدب أو ذاك إلى غيره من الآداب القومية الأخرى..،إذًا فنحن لسنا بصدد "أدب"، بل بصدد "علم"، اللهم إلا إذا فهمنا كلمة "أدب: Litterature، Literature" بمعناها الواسع؛ أي: "الكتابة"، أو قلنا: إن ثمة كلمة محذوفة على سبيل الاختصار، والتقدير: "دراسة الأدب المقارن"، أو "تاريخ الأدب المقارن"، أو كما في الألمانية: "علم الأدب المقارن: verglaichende literaturwissen schaft".
وهناك تسميات أخرى لم يكتب لها التوفيق والانتشار، مثل: "التاريخ المقارن للآداب"، أو"تاريخ الآداب المقارنة"، أو "التاريخ الأدبي المقارن"، أو "تاريخ الآداب المقارن"، أو "الآداب الحديثة المقارنة"، أو "الأدب العالمي"، أو "الأدب بالمقارنة"، أو "الأدب بطريق المقارنة"، وذلك رغم ما تتمتع به بعض التسميات من اختصار ودقة؛ كمصطلح "مقارنة الأدب" (وهي التسمية التي يستعملها الإندونيسيون)، أو "المقارنة الأدبية" الذي عنون به د. أحمد كمال زكي كتابًا له في هذا الموضوع، و"المقارنة بين الآداب" الذي اتخذه العقاد عنوانًا لأحد مقالاته في مجلة "الكتاب" المصرية في 1948م، والذي اقترح أن تختصر إلى "مقارنة الآداب" طلبًا لمزيد من الخفة على الذهن واللسان كما تقتضي طبيعة المصطلح، ومن ثم يكون أسهل تداولًا لمن يريد،وهناك "خطاب المقارنة"، الذي اقترحه عز الدين المناصرة في مقاله: "الرائد التاريخي للأدب المقارن في الوطن العربي" المنشور في كتاب "الفلسطينيون والأدب المقارن: روحي الخالدي - إدوارد سعيد - عز الدين المناصرة - حسام الخطيب"/ فريال غزولي وآخرون/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة "كتابات نقدية" - العدد 102/ 2000م/ 5 - 52،ويجد القارئ اقتراح الكاتب باستبدال المصطلح ومسوغاته في ص13)، وكذلك مصطلح "النقد المقارن" للكاتب نفسه؛ (انظر مقال خديجة بن شرفي المنشور في الكتاب السابق/ 111 - 137،ويجد القارئ الكلام عن اقتراح الكاتب باستبدال المصطلح في ص117، 120، 130)،وقد اختصر الدكتور أحمد كمال زكي مصطح "الأدب المقارن" إلى كلمة واحدة فقط هي "المقارن"، مستعملاً النعت وحده دون المنعوت،ومن يدري؟ فقد تشيع مع الأيام هذه التسمية، وتحل الكلمة الواحدة محل الكلمتين، على عادة الذهن واللسان البشري اللذين يميلان في أمور الواقع العملي إلى الاختصار عند كثرة التكرار، وبخاصة عن طريق الاستعاضة عن النعت والمنعوت معًا بالنعت قائمًا برأسه،أما المصطلح الإنجليزي فلا يستخدم اسم المفعول: "comdared" (من الفعل "compera: يقارن" كما هو الحال في المصطلح الفرنسي)، بل صفة النسب: "comparative"، وهو ما يمكن ترجمته بـ: "الأدب المقارني"، أو "الأدب التقارني"، أو"أدب المقارنة"؛ (انظر في مشكلة المصطلح د. محمد غنيمي هلال/ الأدب المقارن/ دار نهضة مصر/ 1977م/ 15 - 16، ود.الطاهر أحمد مكي/ الأدب المقارن - أصوله وتطوراته ومناهجه/ 194، ود. عطية عامر/ دراسات في الأدب المقارن/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1989م/ الفصل الأول كله بدءًا من ص 12، ود. أحمد درويش/ الأدب المقارن - النظرية والتطبيق/ ط2/ دار الثقافة العربية/ 1413هـ - 1992م/ 3 - 4، ود. علي شلش/ الأدب المقارن بن التجرببتين الأمريكية والعربية/ دار الفيصل الثقافية/ الرياض/ 1415هـ - 1995م/ 13)، ود. إبراهيم عبدالرحمن محمد/ الأدب المقارن بين النظرية والتطبيق/ الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان/ 2000م/ 5 - 6).
نخلص من هذا إلى القول بأن مصطلح "الأدب المقارن"، الذي استعمله خليل هنداوي وفخري أبو السعود على التوالي في مقالاتهما بمجلة "الرسالة" في عام واحد (هو عام 1936م) بفارق ثلاثة أشهر تقريبًا - كان هو المصطلح الذي قُدر له الشيوع، بل الانتشار الكاسح على مدار هذه العقود السبعة، حتى الآن على الأقل،وقبل أن أغادر هذه النقطة أود أن أوجه الالتفات إلى أن د. علي شلش يرى أن صاحب هذا المصطلح في الحالتين هو أحمد حسن الزيات لا هنداوي ولا أبو السعود، وإن لم يقدم دليلاً قاطعًا على ذلك، بل استنتجه مجرد استنتاج، قائلًا: إن الزيات قد أضاف إلى العنوان الأصلي لكل من الكاتبين مصطلح الأدب المقارن (انظر كتابه: "الأدب المقارن بين التجربتين الأمريكية والعربية"/ 114 - 115)، أما د. حسام الخطيب فقد عزا إلى هنداوي استخدام المصطلح لأول مرة، على حين جرد أبو السعود من قصد استخدامه بعد هذا بقليل في مقالاته في نفس الموضوع، ناسبًا إلى الزيات أنه هو واضع ذلك المصطلح في عناوين المقالات المذكورة؛ (انظر كتابه: "آفاق الأدب المقارن عربيًّا وعالميًّا/ 153 - 158).
تشترط المدرسة الفرنسية، كما ألمحنا، أن تكون هناك صلات تاريخية بين العملين أو الظاهرتين أو الأدبين المراد مقارنتها، بيد أن هذا شرطٌ تحكمي، أو قل: إنه شرط غير ملزم ولا لازم، والمهم أن تكون المقارنة بين أدبي أمتين مختلفتين، سواء كتب هذان الأدبان بلغتين مختلفتين، كما هو الغالب، أو كانا يصطنعان ذات اللغة، كما هو الحال مثلًا بين الأدب الإنجليزي والأدب الهندي المكتوب بلغة جون بول، أو بين الأدب الفرنسي والأدب الجزائري المصبوب في قالب لسان الفرنسيس...إلخ،إن المراد هو تمتين العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب المختلفة، واكتشاف أوجه التشابه والاختلاف لديها في الذوق والإبداع، وتتبع المسارات التي انتقلت عن طريقها التأثيرات الأدبية من أمة إلى أخرى في حالة وجودها وإمكان تتبعها،وإذا كانت المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن تركز بوجه عام على الصلات التي ثبت وجودها فعلاً بين الأمم والشعوب، فهل هناك ما يمنع أن نمد هذا الاهتمام إلى المستقبل فنستشرف وجود مثل هذه الصلات أو نعمل على خلقها خلقًا؟ بل هل هناك ما يقطع بعدم وجود علاقة بين عملين أو ظاهرتين أو تيارين أدبيين لم يتضح لنا أنه كانت بينهما يومًا هذه العلاقة؟ لا أظن؛ذلك أن من الممكن جدًّا أن يكون موليير على سبيل المثال قد سمع بـ: "بخلاء" الجاحظ بطريقة أو بأخرى حين ألف مسرحيته الشهيرة: "البخيل"، وأن يكون لامارتين على علم بطريقة أو بأخرى بقصيدة المتنبي أو البحتري عن البحيرة، كأن يكون قد سمعها أو سمع أبياتًا منها مترجمة إلى الفرنسية ولو شفويًّا، أو على الأقل سمع بموضوعها أو أسلوبها الفني مجرد سماع من أحد المستشرقين أو العرب، وأن هذا أحد البواعث التي دفعته إلى نظم قصيدته فيها، وبخاصة أنه كان مفتونًا بالشرق العربي، وزار سوريًّا وفلسطين ولبنان، وسجل هذه الرحلة في كتاب من أربعة أجزاء هو "Voyage en Orient...."، وتمنى لو بقي في بلاد الأرز طول حياته، بل لقد قيل: إنه ذو أصول عربية،وقد يكون تأثر في نظمه تلك القصيدة بشاعر آخر فرنسي أو غير فرنسي كان قد تأثر بدوره بإحدى القصيدتين العربيتين أو بهما معًا،وربما كان تأثير المتنبي أو البحتري سلبيًّا، بمعنى أن الشاعر الفرنسي لم يستحسن الطريقة التي تناول بها الشاعر العربي موضوعه أو بعض صوره الخيالية أو السياق الذي نظم فيه عمله أو الجو النفسي الذي سيطر عليه أو الغرض الذي نظم قصيدته من أجله...إلخ،ترى هل كان هناك قبل آسين بلاثيوس، بل إلى ما بعد وفاة ذلك المستشرق الإسباني ببضعة أعوام، من كان يعرف أن قصة المعراج قد ترجمت إلى عدة لغات أوربية منها اللاتينية قبل أن يكتب دانتي "كوميدياه الإلهية"؟ لقد تعرض بلاثيوش لهجوم شديد ومعارضة عنيفة عندما طلع على الناس بأن دانتي قد تأثر بتلك القصة، إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير أن تلك القصة قد ترجمت فعلاً قبل وضع دانتي عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل؛ (انظر د. الطاهر أحمد مكي/ الأدب المقارن - أصوله وتطوره ومناهجه/ دار المعارف/ 1407هـ - 1987م/ 218 - 219).
ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة، ولو على سبيل الاحتمال، أفلا تستحق المقارنة بين الذوقين والأسلوبين وتقويم العناصر الفنية في الأثرين الأدبيين أن نقوم بمثل تلك المقارنة، على الأقل تنشيطًا لعملية الأخذ والرد بين الأدبين، وتلقيحًا لكل منهما بعناصر القوة والجمال في الآخر، وإغناءً لعملية الإبداع والتذوق بهذه الطريقة، ومن ثم قيام صلات أدبية بينهما تخلق خلقًا من هذا السبيل، واستكشافًا للعوامل التي تقف خلف نقاط القوة أو الضعف، وهل هي راجعة إلى ظروف المبدع الشخصية أو هي بالأحرى ترجع إلى خصائص البيئة والأمة التي ينتسب إليها؟ أم ترى ينبغي أن ننتظر قيام مثل تلك الصلات أولًا، حتى إذا قامت وتيقنا من قيامها ووقوع التأثير والتأثر بين الطرفين فعندئذ، وعندئذ فقط، يمكننا أن نتقدم ونقوم بعملية المقارنة؟ أما أنا فأحبذ مبادرة الأمور والعمل على خلق مثل تلك الصلات عن طريق المقارنات الاستباقية هذه، ومن ثم لا أجد أية غضاضة فيما صنعه شفيق جبري مثلًا في مقالاته في مجلة "الثقافة" المصرية في 1939م من المقارنة النقدية بين "بحيرة" كل من البحتري ولامرتين والأخرى، وبين "بخلاء" الجاحظ و"بخيل" موليير، ولا ما صنعه د. صفاء خلوصي من المقارنة بين البحيرتين العربية والفرنسية، ولا ما صنعه د. عبدالرزاق حميدة في كتابه: "الأدب المقارن" حين وازن بين "رسالة الغفران" للمعري و"الكوميديا الإنسانية" لدانتي مقارنة جمالية خالصة، فلا حديث عن تأثر أو تأثير بين العملين،ثم ألا يستحق البحث عن السر في وجود تشابه بين عملين أدبيي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى