خيري شلبي - يوم استلام الكتب

الشيخ حسن الزيات كان يسكن أدمغتنا‏,‏ فالخشية كلها منه‏.‏ لقد علمنا واجبا مهما إلتزمنا به ونحن جد سعداء‏ إذا كان الواحد منا سائرا في أي شارع يقف علي جنب رافعا يده بالتحية تعظيم سلام. مصدر السعادة أن المعلمين كانوا يردون علي تحيتنا بمثلها مع ابتسامه ودودة, كما أن المنظر في ذاته كان يعجب عموم الناس فينظرون إلينا باستحسان, وبعض الكهول يهمهمون في إعجابك أهو كده! ونعم التربية. إلا الشيخ حسن الزيات كان يرد علي تحيتنا بغير ود علي الإطلاق, يكتفي بهز رأسه هزة خاطفة لاتكاد تري, دون أن يتخلي وجهه عن الجدية المتصلبه والملامح المكتنزة بالصرامة وعيناه الضيقتان يشع منهما وعيد رهيب, فتبدو تقاطيع وجهه المتكور كأنها حائط صد غير قابل لنفاذ أي استعطاف أو استرحام في طلب العفو. صوته من فصيلة صوت المزمار البلدي, إلا أنه يبعث فينا الرعدة والخوف بدلا من الطرب. عند الانفعال يشعرك كأنك تسمع صوت تمزيع ثوب جديد من نسيج متين. حجرة الناظر حسن الزيات كانت في مدخل المدرسة بمجرد الدخول من بوابة المدرسة يكون باب حجرته أول باب علي اليسار. ومن خلفها مباشرة حجرة المعلمين, مستطيلة حافلة بمقاعد تلتف حول ترابيزة اجتماعات مستطيلة وذات أدراج فلكل معلم درج خاص به. بابي يفتح علي فناء المدرسة, حيث تقوم في نهايته دورة مياه كبيرة إقتطعت منها مساحة لدورة أخري صغيرة ونظيفة علي الدوام خاصة بالناظر والمعلمين وذات قفل بمفتاح يحتفظ به محمود المهدي في سيالته حتي إذا ناداه أحدهم وطلب منه تجهيز الدورة هرول مسرعا إليها فيفتحها ويملأ الإبريق الفخاري بالماء لزوم الاستنجاء والتطهر بعد قضاء الحاجة. أما باب حجرة الناظر فيفتح علي جناح الفصول إذ هي مجموعة حجرات متجاورة ذات أبواب وشبابيك تفتح علي الفناء, وشبابيك مقابلة تفتح علي الخلاء الممتد الي الحقول وتلة المقابر, والمحاط ببيوت عتيقة من الطوب المخلوط بالتبن. من مكمنه خلف المكتب العريض الكبير وما يجاوره من دواليب وشانوهات تحتفظ فيها أوراق ومستندات وملفات التلاميذ ومكاتبات المنطقة التعليمية ونشراتها وتعاليم الوزارة وبعض الكتب, يستطيع الناظر حسن الزيات أن يرقب الحركة داخل الفصول ليعرف من الذي بدأ حصته ومن تلكأ في بدئها؟ وأي فصل نشب فيه شغب وفوضي؟ وذلك أنه لم يكن ليتسامح مطلقا في الإهمال في شيئين كلاهما خطير: النظافة, والضبط والربط.. لهذا فالفناء دائما مرشوش بالمياه, الابواب والشبابيك دائما ممسوحة بالفوطة الزفرة المبللة, والمراحيض ــ وكانت تصرف في طرنشات يتم كسحها كل عام في الأجازة الصيفية ــ يتم تنظيفها يوميا, وتزويدها بحبات النفتالين ذات الرائحة النفاذة, أو ترش بمحلول الفينيك. محمود المهدي هو فراش المدرسة الوحيد, القائم بكل هذه الأعباء دون ضجر أو تذمر, بل وبلذة وأريحية, كان في الثلاثينات من عمره, فارع الطول, مبروم الجسد في امتلاء إلي حد ما, نظيف الثياب باستمرار حتي وهو يكنس الفصول بالمقشة ذات اليد الطويلة كالعصا, والجاروف. تربطنا جميعا به حميمية مدهشة. كلنا نحبه, نطيع نصائحه بإخلاص أكثر من إطاعتنا لنصائح المعلمين, لأن نصائحة تبلغنا في صيغة من الود والأبوة الحانية التي نستشعر فيها الصدق كأنه أبونا أو أخونا الكبير. في المواعيد المحددة يضرب الجرس, عند الدخول صباحا إيذانا بالدخول, وفي الفسحة إيذانا ببدئها وإعلانا لإنتهائها, وعند الغداء, وعند انتهاء اليوم الدراسي. الجرس نهاسي كبير ثقيل كجرس الكنيسة, معلق في أعلي جدار حجرة المعلمين يتدلي منه جنزير ينتهي بحلقة تتسع لقبضة اليد, يد محمود المهدي الكبيرة, التي تشد الجنزير الثقيل بقوة عدة مرات فيدوي الجرس ويبقي صوته في الآذان طويلا بعد أن يكف عن الدق. قبل منتصف النهار بربع ساعة يتبدد نصف انتباهنا علي الأقل وإن بدونا مفنجلي الأعين منتبهين للدرس الذي تتلقاه من المعلم. ويبدو أننا جميعا, التلاميذ والمعلمون والناضر قد جري بيننا اتفاق سري علي أن هذه الحصة التي تسبق موعد الغداء شبه ضائعة وغير مجدية حتي وإن استشاط المعلمون غضبا وكشروا وشخطوا وضربوا سطح القمطر بالخيزرانة في صيحة متوعدة: وبعدين!. وذلك أننا لحظة ذاك تصير أعيننا لائذة بفناء المدرسة ومنه إلي الباحة الواسعة أمام بابها, نترقب صوت شخللة المعادن الجرسية المعلقة في رقبة الحصان الذي ما يلبث حتي يظهر, يجر عربة كارو تحمل صندوق الغداء الذي سيوزع علينا فور وصوله. ورغم علمنا بان العربجي يجعل بلدتنا في نهاية خط سيره, إذ هو يحمل من مخزن المتعهد صناديق عدة مدارس في عدة بلدان متجاورة علي خط سير واحد في طريق موصول, فإننا كنا دائمي السخط عليه لشعورنا في كثير من الأيام أنه تأخر طويلا عن موعده في حين أنه يكون قد طب في ميعاده بالدقيقة والثانية حسب تعليمات المنطقة التعليمية. كل تلميذ مكلف باستحضار طبق صغير وكوب لشرب الماء يستحسن أن يكونا من الألمنيوم حتي لا ينكسرا. معظمنا لم يكن يقتني حقيبة للكتب والكراريس إلا أن يكون من أسرة ميسورة تكلف النجار ويصنع حقيبة من الخشب الابلكاش مدهونة بالأويمة وذات قفل يطرقع عند الفتح والإغلاق. فكان البعض يتأبط الكتب والكراريس المطلوبة لليوم الدراسي حسب جدول الحصص. والبعض الآخر يضع له الخياط مخلاة من بقايا أقمشة. أما المعدمون فيضعون المخلاة من بقايا ثوب قديم. وبالنسبة لي كان النجار صديق أبي ومن جلاسي مندرتنا ويعمل علي إغرائي بالإلتحاق بورشته لأتعلم النجارة في أوقات الاجازة بدلا من الخياطة التي تمقق العين, ولكي يستقطبني تماما صنع لي حقيبة غاية في الأناقة بقفلين علي الجانبين كانت أكبر مصدر للزهو في حياتي وكنت أحب السير بها منفوخ الصدر في جدية الرجال كأنني صرت موظفا مرموقا في الحكومة. وكان اشد ما يغيظني هو اضطراري لدس الطبق والكوب فيها بين الكتب, فما أن أبدأ السير بها حتي يتحكك الكوب في الطبق ويتحككا معا بغطاء الحقيبة فينتج عن ذلك نقرزات يصاحبني طوال الطريق, تماما كشخللة المعادن المعلقة في رقبة الحصان الذي يجر العربة الكارو حاملة صندوق الغداء. وكان زملائي الذين تحرص علي الذهاب إلي المدرسة معا يسمعون صوت قدومي من علي بعد فينتظروني علي ناصية الحارة. فور وصول الكارو تبدأ في الفصل قرقعة احتكاك الأكواب بالأطباق بسطوح الادراج. سرعان ما تختفي الكتب والكراريس داخل الأدراج. يدخل محمود المهدي حاملا تلا من الأرغفة, يضع أمام كل واحد رغيفا شهي المنظر لتورده وطرارته. إنه خبز الطابونة كما نسميه وكأنه الفاكهة بالنسبة لنا. معلم الفصل وراء المهدي يضع أمام كل تلميذ بيضتين مسلوقتين مع قطعة كبيرة من الجبنة الصفراء الملونة ذات الطعم الحريف اللذيذ, ومغرفة من الفول المدمس المغمور بالزيت الفرنساوي, مع قطعة حلاوة طحنية, وأحيانا أصبع موز وبرتقالة. وفي كثير من الأحيان كانوايسلموننا كتلا كبيرة من هذه الجبنة مع أكياس من اللبن المجفف ـ قيل إنها من المعونة الأمريكية فكان أهالينا يفرحون جدا بهذه الهدية الفخمة. من أسباب حبنا لمحمود المهدي أنه إذا لاحظ أن تلميذا ظلم في برتقالة فاسدة أو قطعة جبن صغيرة ذهب وأتي له ببرتقالة جيدة أو قطعة جبن تملأ العين. غير أن حبنا له يتألق في أعيينا يوم استلام الكتب. ياله من يوم عيد بحق. إن فرحتي بالكتاب الجديد الي اليوم ترجع الي يوم استلام الكتب في المدرسة في الأسبوع الأول من بدء العام الدراسي. يدخل محمود المهدس حاملا علي صدره تلا من الكتب, يسندها فوق مكتب المعلم, يقتبس منها ويمشي بين صفوف التخت يرمي بكتاب أمام كل تلميذ. نروح نقلب في صفحات الكتاب بشغف مبهورين بالرسوم الملونة لأنوع الحيوانات والأشجار والغابات. ثم تنهمر علينا الكتب: المطالعة, التاريخ, الانشاء, الدين, الحساب, اللغة العريبة, الخط. بعدها تأتي الكراريس ذات الجلود الصفراء والورق الزهري المصقول ذو هوامش بالخط الأحمر علي الجانبين, والنصائح المعهودة مطبوعة علي ظهر الغلاف الأخير, من مثيل: إغسل يديك قبل الأكل وبعده, لا تؤجل عمل اليوم الي الغد, إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها او ردوها.. إلخ. مع كراسة الخط يسلموننا كل تلميذ قصبتين من البسط, وهي نوع خاص من البوص المجوف, يعلمنا محمود المهدي كيف نبريها لنصنع لها سنا لسن الريشة نشقه بالموس من المنتصف ليتجمع الحبر بين الشقين. ولأن معظمنا لا يحمل موسا ولا مطواة فكان محمود المهدي يأخذها من قصيره ويبري لنا أقلام البسط بحرفنة ودربة وسرعة. سطوح التخت مائلة ميلا قليلا, يبدأ الميل من إفريز عبارة عن شريحة من سطح التختة ـ او القمطر ـ مرتفعة قليلا وفي وسطها تجويف يبيت فيه القلم الرصاص أو الريشة التي كنا نكتب بها, وهي عبارة عن سن من المعدن ذي يد طويلة كالقلم. وفي منتصف هذه الشريحة من كل تختة دائرة مفرغة تبيت فيها دواة حبر مصنوعة من الخزف الصيني الابيض. ويوما بعد يوم يمر محمود المهدي ممسكا بزجاجة كبيرة ملآنة بالحبر الأزرق القاتم, لها بزبوز كالإبريق. يتوقف أمام كل دواة, يصب فيها الحبر من البزبوز حتي تمتليء. كل ذلك في دقائق معدودة حتي يبدو لنا محمود المهدي وكأنه ـ وهو خادم كل هاتيك الفصول ـ مخصص لخدمة فصلنا وحده.


خيري شلبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى