فيديريكو كورينتي - أثر الموشحات في الأدب الغربي

ج1:
إن السبب البين في هذا الاستثناء الواضح للقاعدة المطردة المذكورة، أن بعض كبار بحّاث الأدب الأسباني القديم قد علقوا على اكتشاف الخرجات الأعجمية، في أواخر عدد من الموشحات الأندلسية مزيدًا من الأهمية، فجعلوها مستهل الأدب الأسباني، وسابقة لجميع الآداب الأوربية الدارجة اللغة في العصور الوسطى، فأجروا ذكر تلك الخرجات، وتفاسيرهم لها في مئات من الكتب والمقالات والمحاضرات العامة، ولم يقصروا في إدراجها في كتب التدريس المقررة، وفي الملحقات الثقافية للصحف اليومية، حتى صار كل أسباني يدعي حَظًّا من الثقافة لا يجهل وجود الخرجات، وبعض نصوصها باعتبارها حجر أساس للحضارة الأسبانية، ولا بأس بذلك فإن العلم خير من الجهل على كل حال، إلاّ أن علمهم ذلك يحبب إليهم التراث الأندلسي في نفس الوقت، فيوسع آفاقهم العمرانية والبشرية، ويبعدهم عن التجافي العنصري والعقائدي، وعن الاقتناع الخاطئ الشائع عند كثير من الغربيين بأن كل اختراع وتقدم، وتفوق إنما أصله في أراضيهم.
إلا أننا غير مَعْنِيِّين الآن بانتشار خبر الخرجات لدى الجماهير الأسبانية، مع كونها ظاهرة اجتماعية وتربوية جديرة بالدراسة؛ وذلك لأنها لا تعدو أن تكون فرعا لم يتقن أصله بعد، حيث لم تُعرف حقيقة هذه الخرجات الأعجمية، التي مُوِّهت وشُوِّهت وصُحِّفت، وأُسيء فهمها لقصور علمي أو لدواع عقائدية أو لأغراض شخصية، حتى لم تعد تتبين تلك الحقيقة للعلماء، فضلًا عن غيرهم، فتحولت الخرجات الأعجمية -مع قلتها، إذ لا تبلغ السبعين ولا يزيد أكثرها عن سطرين، مع غموض معانيها في مواطن كثيرة- إلى أعظم جدال أدبي في هذا القرن، ومن علامات ما اتسم به هذا الموضوع من الإشكال والالتباس، مثلًا أن الأستاذ المرحوم سيد غازي في تأليفه النموذجي حول الموشحات الأندلسية، التي قطعها تقطيعًا عروضِيًّا خليليًّا بحتًا، على غرار الشعر المقصد، اعتمد تحقيق الأستاذ الأسباني غارسيا غوميس لخرجاتها الأعجمية، وهو مشهور بتقطيعه الرومنسي لها المخالف للعروض الخليلي خلافًا جوهريًّا، ولم يخف على الأستاذ غازي التعارض المنهجي الناتج عن ذلك، إلا أنه لم يكن في متناول يده إذ ذاك تحقيق أحرى بالثقة لتلك النصوص المستغلقة، ولم تتسن له مطالعة أهم أصولها، لاسيما مجموعتها الرئيسية الآتية ضمن مخطوطة "عدة الجليس" لابن بشري الوحيدة المحجوبة، إذ إذاك عن عيون الناس إلا أقل من القليلين.
نحن راغبون عن ذكر مظاهر هذا الجدال الكريهة، من أمثال حجب بعض الأساتذة للأصول عن زملائهم، حرصًا على الانفراد بالبحث فيها، وخوفًا من سبق غيرهم إياهم إلى توضيح غوامضها، فضلًا عن السباب والتهم، والاستهزاء التي تنزَّل إليها بعضهم، وإنما قصدنا الالتفات إلى المظاهر المفيدة، منها تلخيص قصة اكتشاف الخرجات الأعجمية، ومحاولة التفرقة بين الحق والباطل فيما قاله العلماء عنها.... كان أول من انتبه إلى وجود الخرجة، أي: آخر قفل فى موشح، باللغة الرومنسية من بنات اللاتينية، وهي العامية الإسبانية، هو الأستاذ الإسباني مينينديس بيلايو في أواخر القرن الماضي، إلا أن تلك الخرجة الأعجمية كانت ملحقة بموشح عبري، وليس عربيًّا، لبعض الشعراء اليهود الإسبان المقلدين فن التوشيح بالعبرية تقليدًا تامًّا، ثم أتى عقب مينينديس أساتذة آخرون متخصصون في الأدب العبري أثناء العصور الوسطى، فاكتشفوا نصوصًا أخرى من نفس النوع، مع أن محاولاتهم لتفسيرها لم تنجح، فلم يكن لأبحاثهم كبير صدى.
ثم نشر الأستاذ شترن في 1948 والأستاذ غارسيا غوميس في 1952، أول الخرجات الأعجمية في موشحات عربية أندلسية، فأحدثت أبحاثهما انطباعًا عظيمًا في الدوائر العلمية، وتكاثرت الأعمال المخصصة لهذا الموضوع بصورة عجيبة إلى درجة أن الأستاذ هيتشكوك الإنكليزى، ذكر في 1977 أكثر من 200 مرجع له.
والعجيب في القصة أن أكثر هذه الأبحاث لا أساس لها غير التحقيقات الثلاثة الصادرة، أي: تحقيق الأستاذ الألماني هيكير في 1960،
وتحقيقي الأستاذين الإسبانيين غارسيا غوميس في 1965 وسولا سوليه في 1960، مع أن المرجع الرئيسي، أي: مخطوطة عدة الجليس، التي صارت ملكًا للمستشرق الفرنسي كولان في المغرب، لم يطلع عليه إلا غارسيا غوميس بإذن من مالكه، ثم صار بعد وفاة كولان محفوظًا في بنك إنكليزي تحت تصرف الأستاذ جونز الذي نشره في 1992، وعلى مثل هذا الأساس الضئيل كم بني من بناء ركيك، وكم وضع من نظريات فيها نظر، وكم استهلك من ورق وحبر في أغراض باطلة! وقد قال بعضهم: إن الخرجات الأعجمية تثبت وجود تراث شعري وافر باللغة الأسبانية القديمة بعروض أهلي كامل الذات، وبموضوعات مطروقة لدى الأندلسيين المولدين وإخوانهم من أهل الذمة استلهمه مخترعو التوشيح المنسوج على منواله، وفقًا لهذا النظر، وقال بعضهم: إن ذلك الشعر الرومنسي القديم، إنما كان من إنتاج القيان المسيحيات المجلويات إلى الأندلس أسيرات من جليقية، وسمى بعضهم هذه الأشعار بشعر مستعرب إلماحًا منهم بذلك إلى أن أصحابه ليسوا غير المستعربين، أي: النصارى الذميين دون الأندلسيين المسلمين، وقالوا وقالوا وقالوا، ولم يثبت معظم أقوالهم، إذ لم يؤت بحجج قاطعة، وإنما صدرت تلك الأقوال عن أوهام وأضغاث أحلام.
... ومما زاد في إشكال هذا الموضوع، علاوة على ما ذكرناه، أن النصوص الأصلية المختلطة اللغة في أكثر الحالات قليلة محرفة في مواطن كثيرة، نتيجة لاستنساخها المتعاقب على أيدي نساخ لم يعودوا يفهمون لغتها، بحيث أن كل باحث تصرف في قراءتها كما شاء، مطابقًا بين حروف المخطوطة المبهمة، وبين ما ارتضاه هو من المعاني المحتملة، وقد آل الأمر بهذه القضية إلى درجة أننا عندما حضرنا الندوة المخصصة لدراسة الخرجات بإيكسيتير في إنكلترا سنة 1988، لم يجز لنا أن نعتمد غير تسع خرجات لكون غيرها مشكوكًا في تفسيرها شكًّا فادحًا، وبما أن الأمر كذلك بالفعل، فكيف تكون الآراء والنظريات المبنية على نصوص من هذا الصنف صحيحة أو موثوقًا بها؟... ولكن هذه الأوضاع تغيرت تغيرًا جوهريًّا، وتحسنت إلى غاية لم نكن نتصورها عندما نشر الأستاذ جونز تأليفه عن الخرجات الأندلسية المحتوى على تصوير شمسي لكل واحدة، منها ملتقط من جميع المخطوطات التي وردت فيها، والحقيقة أنه لم يقطع شوطًا جديدًا في تفسيرها، إلا أن توخيه الصارم لمبدأ التمسك بواقع النصوص المقيدة، وعدم التلاعب بها بواسطة التصويبات من غير ضرورة قد مهد الطريق لتفسيرها الأدق، وللرجوع إلى الجهد العلمي فيما كان قبلئذ مجالًا للهزل، أو على الأقل للعبث والاعتباط!
... وصادف صدور ذلك الكتاب آخر مراحل مناقشة القضية العروضية، التي أسفرت عن نتيجة واضحة، وهي أن الموشحات والأزجال... على حد سواء غير خاضعة لتقطيع الشعر الرومنسي، وإنما تقطيعها تقطيع خليلي مع بعض الضرورات المستحدثة، أو مع بعض التحوير على اختلاف آراء الباحثين، فقضى الاعتراف شبه العام بهذا المبدأ على جميع التصويبات المحدثة لنصوص الخرجات الأصلية بقصد المطابقة بينها، وبين مقاييس العروض الرومانسي، وصفًا الجو ثانيًا لمحاولة تحقيقها وفقًا للعروض الخليلي الذي يجب تطبيقه على الأزجال، والموشحات مع خرجانها لكونها جزءًا من أجزائها، وهذا جليٌ وعن البيان غنيّ، إن اهتدينا إلى أن الخرجات بالعامية الأندلسية، وهي الغالبة، وأخواتها الأعجمية، وهي قليلة جدًّا نسبيًّا، إنما هي قطع مقتبسة عن أزجال سابقة قد اشتهرت لدى الجميع، فربما حلى الوشاحون أشعارهم بها على سبيل الهزل، والاستطراد إلى ملح الفنون الشعبية الملحونة، بعد طرقهم باب الجدِّ بقولهم الفصيح المُعْرَب.... بناء على هذه الأسس الجديدة، وعلى غيرها مما لا يقلُّ أهمية عنها -كالبحث في خصائص الحزمة اللهجية الأندلسية، التي لم يخالفها الزجالون إلا نادرًا وللضرورة، قد تمكنا من دراسة الخرجات الأعجمية من جديد مجهزين في هذه المرة بمناهج أفضل، فسرعان ما لاحظنا أن 30% تقريبًا من القراءات المتداولة بين أيدي الناس كانت خاطئة، ومما زاد في خطورة بعض هذه الأخطاء أنها منبعثة عن نزعات عقائدية، تُضْفِى على تلك النصوص صبغة مختلفة من التشرب بعناصر الحضارة الإسبانية أو الذهنية النصرانية، في حين أن بعض الملامح العربية أو الإسلامية المميزة للأندلس بحكم إسلام أهلها، وتعربهم التدريجي قد أمست متلاشية، أو متضائلة في تلك القراءات المعتمدة لدى الجميع أو غالبهم.
... وهنا يحسن بنا أن نوضح أمرين مُهمَّيْن جدًّا؛ لكيلا يساء فهم كلامنا وهدفه، أولهما أننا لانتهم أصحاب تلك القراءات بتزوير مُتَعَمَّد لهذه النصوص، بل نحسبهم منحرفين على غير وعي عن الحياد المفروض على كل باحث علمي، بسبب ميول عقلية وعاطفية لم يسعهم التحكم فيها، وثانيهما أننا لا ننكر وجود رصيد كبير من العناصر السابقة للفتح الإسلامي في حضارة الأندلس، ولم يكن ذلك نظرًا للظروف المعروفة، إلا أننا نستنكر المبالغة والحماس العقائدي والتحزب، كلما تخللت المناقشة العلمية، وغشيت أبصار المشاركين فيها.... وكانت نتيجة أبحاثنا المذكورة سلسلة من المقالات قد صدرت أولاها في مجلة فقه اللغة الأسبانية سنة 1993، وستليها مقالتان أخريان على وشك الصدور، نعالج فيها نصوص الخرجات الأعجمية معالجة متميزة بأقصى الحرص على تفسيرها، بدون اللجوء إلى تصويبات، وبالطبع يضيق بنا الوقت لإيراد تعاليقنا على 45خرجة لمجموعة الموشحات العربية، و26 خرجة للمجموعة العبرية، ونحن عازمون على تأليف كتاب في هذا الموضوع، إن أطال الله أجلنا، إلا أن في وسعنا الآن ضرب بعض الأمثلة لمنهاجنا ونتائجنا، وفيها دليل على سائرها.
... ومنها مثلًا الخرجة رقم 3 في المجموعة العربية، ونصها المرسوم:
يا فاتِنْ افتِنْ وُشْ يَتَنْرَادْ كِنْدَرْ خالِشْ كارِذْ...
حقق غارسيا غوميس كلمتيه الأوليين على أنهما عربيتان، وفسر الباقية os y entrad kando gilos keded أي: "ادخل هنا إذا نام الغيور"، مع تغيير 13% من الرسم المخطوط، في حين أن قراءتنا بدون تغيير أي: حرف هي ya vet-en I vet-on, wus ya tenrad! Ki-ndar xales kered? أي: "اذهب اذهب، ما أصفقك وجهًا، ما الحاجة إلى إنذار الأخوال؟"، ومن الجدير بالملاحظة أن الغيور المقحم هنا على حساب تحريف "خالش"، أي: خال بعلامة الجمع الرومنسي، إنما أتى ضيفًا غير مدعوِّ؛ لأن له دورًا مشهودًا في الشعر البروفنسالي المفروض تداخله مع الشعر الدوري الأندلسي، وهو افتراض غير بعيد، إلا أنه لا يبرر هذا التحريف المتكرر مرتين أيضًا في تحقيق هذا الباحث بدون أساس نصيّ.
... مع أن هذا الغيور ليس وحيدًا في باب المواضيع المزعومة، وهما في متون الخرجات الأعجمية، فإن مفسريها لا يججمون عن فرنجة مضمونها عن طريق إيجاد ما لا يوجد فيها حقًّا من أدوار، وأساليب أدبية مميزة للشعر الرومنسي في العصور الوسطى، وفي هذا الباب يدخل ما ذهبوا إليه من ورود أناشيد الصبح في الخرجات على سبيل ما تسمى بالـalbada بالإسبانية، من خلاف المعهود في الشعر الغنائى العربي من التذمر على الفجر المفرق للعشاق، مما جعلوه برهانًا قاطعًا على صحة نظرية رجوع التوشيح إلى أصل رومانسي، ونحن قد راجعنا الموطنين، اللذين زعموا أن فيهما لفظة "ألبا" الأعجمية، ومعناها الصبح، في الخرجتين رقمي4 و 7 من المجموعة العربية، فلم نلف فيهما سوى "أَلْبُ" أي: أشقر أو أبيض، صفة لحبيب غير أسمر، ومن الطبيعي أن يذكر في هذه النصوص الشقر، كما يذكر السمر.
... ثم إننا إذا طرقنا بابًا آخر، وجدنا أن بعض المواطن الدالة مثلا على رسوخ العقيدة والتقاليد الإسلامية في البيئة الأندلسية قد فسرت تفسيرًا غير صحيح يغمّض أو يخفي تلك المعلومات المهمة الضرورية لحل قضية نسبة أصحاب الخرجات أوصواحبها إلى طائفة أو أخرى من طوائف سكان الأندلس. هذا ما اتفق في تفسير الخرجة رقم 12 من المجموعة العربية المقاربة لرقم 5 من المجموعة العبرية، ونصهما:
بَنَدْ لَيبَشْقَه أَيُونْ شِنَلِ
حَسْرَاي مَوْ قُرَجُونْ بُرَلِ
...وهو نص واضح غير مضطرب لم يشك المفسرون في ترجمته "قد جاء العيد وأنا بدونه، ياحسرة قلبي عليه"، ولم يُبَيِّن أهذا العيد إسلامي أم مسيحي أم يهودى، ذلك مع أن لفظة أيون معناها الصوم، فالترجمة الدقيقة لهذا النص "أن العيد بدونه بمثابة صيام رمضان الخ"، ولا أدل من هذا على الميزة الإسلامية الغالبة على البيئة التي نشأت فيها الخرجات الأعجمية، وإن كانت نصوصها لاتزال تنم عن التعرب التدريجي، وتخلف بعض الناس عن تملك زمام العربية.
... وفي هذا الباب نفسه كثر النقاش حول موضوع شكوى الفتيات إلى أمهاتهن آلام غرامهن في الخرجات، وقد قيل: إن استعمالهن لكلمة "مَمَّا" الأعجمية عوضًا عن "يا أمت" العربية من أقوى الأدلة على أنهن أمهات نصرانيات، شماليات حديثات العهد بالأسر والإقامة في الأندلس، وهي نظرية غريبة، إذ ليس معقولًا أن يشترى الإنسان الجارية مع أمها، ولم نلبث أن تعرضنا لهذه الأبحاث، حتى عثرنا على ما يدحض ذلك البرهان في الخرجة 30 ونصها.
يا مَمَّ شُو يس للجِنّة إِلاّ شِمُورَّىْ تَرَىْ خَمْرِي مِنَ الّحاجِبّ "أو جَعْفَر" عَسَى شَنَرَىْ
... وقد فسرها كل من غارسيا غوميس وسولا سوليه بفوارق تافهة على أن معناها: "يا أمي، إن لم يزل جنون عشقي أمت، فأحضري خمري من الحاجب "أو من جعفر"؛ لكي أشفى منه"، ولم ينتبه أحدهما إلى أن "يس"، إنما هي سورة ياسين القرآنية التي يقرأها المسلمون مُستغيثين بالله على البلايا، فإن معنى هذه الخرجة الصحيح: "يا أمي، ما الفائدة من تلاوة سورة يس في حال الجنون؟ بل أحضري لي الحاجب "أو جعفر" خمرًا، أي: دواء"، ولا شك أن القضية أوضح بكثير بهذا التفسير الجديد، ومضمونها أن العاشقة اليائسة فى الموشحة ترفض نصيحة أمها في طلب الفرج عن همومها في الصلاة، وتطلب منها إحضار معشوقها علاجًا لما بها من ذلك، وهذه القصة، مع ما فيها من الكفر بالدين بسبب اليأس، ومن جسارة البنت على أمها مما جرى مثله في تلك الظروف الاجتماعية، ما كانت لتحدث في غير بيئة عريقة الإسلام، وإن كانت لا تزال سطحية التعرب.
... على أن جميع الأخطاء في تفسير الخرجات الأعجمية ليست من هذا النوع اطرادًا، فإننا نجد في بعض الأحيان أخطاء لغوية بحتة صادرة عن سوء فهم الكلام العربي العامي، أو الفصيح أو اللغة الرومانسية القديمة المنعكسة في هذه النصوص، نضرب مثلًا لها ما يلاحظ في رقم 11 ونصه:
شِكارَشْ كُمْ بُونَ مِيبْ بَيْجَمِ إِذّا النَّظْم ذُوكْ بُكالَّه ذا حَبَّ الْمُلُوكْ.
... وهو كلام لم يشكل أكثره على المفسرين ما عدا كلمة "ذوك"، التي لم يفهمها أحد منهم، فنسبوها إلى العامية العربية على غير صواب، والحقيقة أنها لاتينية الأصل كثيرة الاستعمال بمعنى الأمر من السياقة، ومعنى الخرجة "ان تحبني حبًّا حسنًا فقبلني واسقني من النظم، أي: العقد، يا فويهة من الكرز".
... ومن نفس القبيل عدم فهم الخرجة رقم 17 من المجموعة العبرية، ونصها:
الصَّبَاحْ بُونُو غارْمي دُونْ بانَشْ يا لُوشِ كأُوتْرِى اَمَشْ أَمِيبيِ طُنُ قارَشْ
... وقد فسرها غارسيا غوميس هكذا "أيها الصباح الجميل، قل لي: من أين أتيت؟ فقد عرفت أنك تحب غيري ولا تحبني أنا"، وهي ترجمة سليمة ما عدا كلمتيه الأوليين اللتين يمكن أن تعنيا "صباح الخير"، ومن العجب أن هذه العبارة اليومية في كلام العرب لم تخطر بباله، ولا ببال غيره من مفسري الخرجات الأعجمية.
... وقد قلنا آنفًا: إننا لا نرميهم بالتعمد في انحرافهم المتواتر عن قراءة متونها الصحيحة، ولم يصدر قولنا ذلك عن مجرد مراعاة خاطر، أو تقدير آثارهم أو فضلهم علينا، كما لم يرجع انتقادنا لبعض آرائهم عن كره أو احتقار لهم أو لأعمالهم، إننا على الرغم من هفواتهم، مدينون لهم، إذ بذلوا جهدًا كبيرًا في دراسة هذه القضية خصوصًا، وفي أبحاثهم في الحضارة الأندلسية عمومًا، ولهم لذلك علينا فضل لا يجوز أن نغمط حقه، على أنهم قصدوا مرمى بعيدًا، ومَهذَدوا طرقًا غير مسلوكة، فلا غرو إذن أن لا يكون نجاحهم كاملًا، وعلينا ألا ننسى أن المتصدى لمثل هذه الدراسة محتاج إلى إتقان العربية الفصحى، وأوجه كلام الأندلسيين الدارجة، وإجادة الإسبانية الحديثة، وسائر اللغات واللهجات الرومانسية الأيبيرية القديمة والحديثة، مع غموض ملامح بعضها، التي لا تنعكس إلا في هذه النصوص فقط، ولا يغنيه ذلك العلم كله عن الاطلاع على أحوال الأندلس التاريخية والاجتماعية والعمرانية، وعلى المعيشة اليومية في بلاد الإسلام فيما يتعلق بدينها ودنياها، ولا يتيسر جمع مثل هذه المعارف والخبرات في الإنسان الواحد؛ فلذلك ما أخطأ سابقونا أحيانًا، ولذلك عسى أن لا نسلم نحن أيضًا من بعض الغلط، وقد لا يخلو منه أو من بعضه لاحقونا في المستقبل، وسبحان من تعالى عن الضلال.
أما العلماء الغربيون فإنهم، عندما تعرفوا على وجود الفنين في أواخر القرن الماضي، واطلعوا على عدد من نماذجهما في بعض المخطوطات المشرقية قبل المغربية، وكان رائدهم في ذلك الأستاذ الألماني هارتمان، فسرعان ما لاحظوا الفوارق البنيوية الواقعة بينهما، وبين الشعر العربي المُقَصَّد، فتبادر إلى عقول بعضهم أنها عسى أن ترجع إلى أصلهما الأندلسي، وليس هذا بعيدًا عن الصواب كل البعد كما سنبينه فيما يلي، وظن بعضهم أن مصدر ذلك الاستنباط الغريب إنما هو بقاء تراث شعبي رومانسي، أو أسباني قديم ذي شأن عظيم في أراضي الأندلس، بحيث إن العوام من الملل الثلاث، أي: المسلمين والنصارى واليهود، ظلوا يؤلفون ويلحنون ويغنون أغانيهم الشعبية الرومانسية الأثرية بأعاريضها الأصلية، وبنيتها الدورية ومواضيعهم الخاصة بهم زعمًا مدة من الزمن بعد غزو العرب، كشأنهم فيما قبله، ثم أتى بعض الشعراء الأندلسيين المعجبين بها، فنسجوا على منوالها الموشحات في مرحلة أولى، بلغة عربية فصيحة ما عدا خرجاتها العامية أو الأعجمية، ثم تجاوزوا ذلك المقدار من الجرأة، والتحرر من قيود التقاليد في مرحلة ثانية، فوضعوا الأزجال العامية من أولها إلى آخرها، وسنرى بعد قليل أن هذا التخمين خاطئ.
وانصرمت السنون وتعاقبت الأجيال، وتوالى اكتشاف مراجع جديدة للفنين عقب تحقيق مخطوطات كثيرة محتوية على موشحات، وأزجال من أمثال "دار الطراز" لابن سناء الملك، و"كتاب العاطل الحالي والمرخص الغالي" لصفي الدين الحلي و"جيش التوشيح" لابن الخطيب. إلخ، واتخذ العلماء العرب وبعض المستشرقين معهم موقفًا محترسًا من هذه الآثار، وما فيها من أخبار متناقضة، وغوامض لغوية وعروضية في بعض الأحايين، مزاولين للبحث في خصائصها الشكلية والمضمونية والجمالية، معترفين بأن فيها ما يخالف المعتاد في الشعر المقصد مخالفة عرضية غير مطردة، مع إمكان إرجاع ذلك إلى تطور الأساليب العربية في الأندلس على نحو شاذ نوعًا ما بحكم البعد الجغرافي، والتاريخي، واختلاف الذوق وتأقلمه.
على أن بعضًا آخر من المستشرقين، لاسيما منهم الإسبان مواطنيَّ، لم يقفوا عند حد هذا الاعتراف الناتج عن التواضع المفروض على كل عالم، فرضًا مطبوعًا على شروط العلم الإنساني والاقتناع بأن اليقين غير حاصل، إلا بعد طول التأمل والتذرع ببينات كثيرة، وأسرعوا، وفي مقدمتهم الأستاذ خوليان ريبيرا، إلى القولة الثانية المشار إليها آنفًا، أي: أن تلك المخالفة، مع كونها عرضية فقط، كانت تدل في زعمه على أن الموشح والزجل مشتقان حقًّا عن شعر رومانسي الأصل، كان الأندلسيون قد عربوه تعريبًا سطحيًّا، أي: في اللغة فقط، مع إبقائهم على أعاريضه، وأدواره ومواضيعه الرومانسية الأثرية.
ولم يستطع الأستاذ ريببرا أن يدلي ببرهان قاطع على رأيه هذا، مع أنه معتمد في مذهبه على ما هو معلوم، وثابت بالفعل من أن سكان الأندلس كانوا مزدوجي اللغة يتحدثون بالعربية، والأعجمية معًا إلى أيام المرابطين، وعلى مقدمة خاطئة، وهي أن ازدواج اللغة يترتب عليه ازدواج الثقافة على كل حال، وليس الأمر كذلك ضرورة، كما هو معروف، فلم يكن لزعم ريبيرا هذا كبير صدى في أيامه لاطراد شعور أهل العلم بأن أسس نظريته متقلقلة، ولكن المقادير شاءت أن تكتشف الخرجات الأعجمية الملحقة بالموشحات العبرية في أواخر الأربعينيات على يد الأستاذ غارسيا غوميس، وهو تلميذ ريبيرا المخلص لآراء معلمه ولعصبيته الغالية، فجعلها هو أقوى دليل على صحة نظرية أستاذه المهجورة آنذاك، وبدأ يدعو لها ثانية في سلسلة من الأبحاث، من تحقيقه لنصوص تلك الخرجات، ودراسته لدار الطراز إلى تحقيقه لديوان ابن قزمان، الذي أبلى فيه بلاء حسنًا، وقدم به خدمة كبيرة للعلم بالنسبة إلى المحاولات الشبيهة السابقة له، باذلًا في هذه المبادرة كلها جهدًا جسيمًا بقصد تقطيع جميع الموشحات، والأزجال الأندلسية المعروفة عندئذ، وفقًا لمبادئ الشعر الإسباني. ولم يعدم هذا النشاط الجدير بالإعجاب، والتقدير حقًّا لما اتصف به من الجد والاجتهاد أثرًا ملموسًا في الدوائر العلمية العالمية، إذ تمكن من إقناع الكثيرين من العلماء الغربيين، وحتى بعض العرب، بصحة بعض نظريته أو كلها، إلى درجة أن كبار المتخصصين في هذا الميدان ذهبوا مذهبه، أو على الأقل أضربوا عن مناهضته إضرابًا تامًّا أو كادوا، لما كانت الخرجات الأعجمية إلى جانب شواهد الازدواجية اللغوية الأندلسية تقارب في أنظار الجميع إثبات الازدواجية الثقافية، التي هي أساس تلك النظرية، وتحملهم على تصديق ما ادعاه غارسيا غوميس من أن للأندلسيين شعرًا رومانسيًا، قائمًا بذاته موروثًا من أسلافهم الجاهليين.
وكان عموم العلماء العرب المعتنيين بهذا الأمر، أثناء ذلك ما برحوا يعتقدون أن البنية الدورية للفنين، إنما تولدت من التسميط، الذي اخترعه الشعراء المحدثون من أمثال أبي نواس في القرن الثاني، وأن بنيتهما العروضية هي الأخرى مطورة من الأعاريض الخليلية المتأخرة، التي وضعها بعض تلاميذ العلامة البصري في أيامه أو بُعَيْدها، وكلا الأمرين صحيح، ولكن هؤلاء العلماء المعاصرين، وأخص منهم بالذكر المستحق، بل الواجب أستاذنا الجليل الجهبذ المرحوم عبد العزيز الأهواني، لم يستطيعوا أو لم يريدوا أن يقفوا في وجه ذلك التيار الجارف موقفا مكافحًا مدافعين عن رأيهم ومضادين لعكسه.
أولًا: لأن الحجج الفاصلة لم تكن متوفرة بعد، إذ كان تقطيع الفنين الخليلي غير خال عن بعض المشاكل العملية.
وثانيًا: لأنهم أو معظمهم، على خلاف خصمهم المتحمس في نعرته القومية، كانوا يعطفون على الأندلس والإسبان معًا، فلم يثر حفيظتهم زعم وجود ثقافة أعجمية في حوزته إلى جانب الثقافة العربية، بل بدا ذلك لهم أمرًا طبيعيًّا رحبوا به، ولم يحثهم على طلب الأدلة المفندة لهذا الاحتمال البعيد، مع أنها في متناول اليد، إذا أمعنا النظر في الحقائق التاريخية المثبتة، وفي اختلاف معنى الألفاظ "أعجمي" و"رومانسي" و"إسباني"، مع أن في المسألة إمكان إثارة جدال ملي نبا عنه حسن ذوقهم، فنعم علمهم وأدبهم!
على أن الأستاذ غارسيا غوميس كان قد شط في الأمر شططًا لم يكن من اليسير التغاضي عنه، عندما اقترح تقطيع الموشحات بأعاريض غير عربية، فلم يلبث أن جاءه رد فعل صامت أو صريح من مصادر شتى، لعل أخطره شأنًا، وأدلة على خطئه كتاب المرحوم الدكتور سيد غازي الصادر سنة 1979م، تحت عنوان "الموشحات الأندلسية"، الذي لم ينبس فيه بكلمة نقد على نظرية غارسيا غوميس مباشرة، إلا أنه حدد بنى الأبيات والأنماط العروضية تحديدًا مقنعًا لا يدع محلًّا للشك في أنها هي الصحيحة، في حين أن بعض المستشرقين أخذوا ينتقدون تلك النظرية انتقادًا صريحًا، فتح باب الشر بين الطرفين، الذي انتهى إلى كلام غير لائق بهما وبذكره هنا، على أنه أنبه النيام، وأطلع الجميع على أنها مبنية على أسس غير راسخة، فشارك في الجدال حول قضية العروض خاصة بحاثون مختلفون أولو نزعات متباينة، يجوز تقسيمهم إلى طرفين متناقضين تناقضًا تامًّا، هما أنصار العروض الخليلي البحت، وأكثرهم من تلاميذ شترن الإنكليز من أمثال ألن جونز وجرير أبو حيدر وثيودور غورتون، وانضم إليهم الأستاذ شولر الألماني، وأصحاب النظرية الرومانسية، رئيسهم غارسيا غوميس مع بعض أتباعه المحليين الأصاغر، مِمَّنْ لا نحتاج إلى تسميتهم، وانضم إليهم الأستاذ جيمز مونرو الأمريكي، فكانت اليد العليا للطائفة الأولى، على الرغم من عجزهم عن حل جميع مشاكل تقطيع الفنين على أساس العروض الخليلي بصورة كاملة مقنعة نهائية، إلا أنهم أحَلُّوا الهزيمة بأصحاب النظرية العروضية الرومانسية بقوة حججهم وأظهروا رِكَّتَها، وإن لم يتخل أصحابها عنها، فإن الرأي العام العلمي العالمي كان قد عاد إلى الصواب، وأمسى يرتاب في صحة أقوال جرت العادة بتصديقها قُبَيْل ذلك، حتى ثبت أنها مجرد أوهام.
وقد أجبرتني الظروف ريث ذلك على الضرب بسهم، ونصيب في هذا الجدال، مكرهًا لا بطلًا، بسبب اتصال الميدان وعلاقتي الودية إذ ذاك بالأستاذ غارسيا غوميس واهتمامي المعقول بأبحاثه في الزجل، إذ كنت عندئذ منكبًّا على دراسة خصائص عامية الأندلس، فحاميت عن شيخنا ما قدرت عليه وحَسُنَ بي، إلى أن أدركت حقيقة الأمر، فاضطرني الصدق إلى مصارحته بأن أكثر الحق مع معارضيه، فنبذني نبذا أعاد لي الحرية والحق في الإدلاء بآرائي، فنشرت إثر ذاك تحقيقًا أول لديواني ابن قزمان والششتري، وسلسلة من المقالات أثبتُّ فيها أن عروض التوشيح، والزجل عروض خليلي محور في الأندلس؛ ليطابق كلام أهله المتميز دون الفصحى، واللهجات المشرقية باستبدال النبرة بكمية المقاطع الأصلية، وهي النظرية الثالثة المتوسطة بين النظريتين الأخريين الجابرة لخللهما، وقد شرحتها بالعربية في مقدمتي لتحقيقي الثاني لديوان ابن قزمان الصادر بالقاهرة سنة 1995م.
إلا أن هناك مجالين اثنين ما زال أصحاب النظرية الرومانسية يتمنعون بهما مدافعين عنها، متذرعين بحجج يزعمون أنها تفت في عضد القائلين: بانتساب عروض الفنين إلى الطراز الخليلي، هما بنيتاهما الموضوعية والدورية، فقد ادعوا أن مواضيع الخرجات الأعجمية إسبانية الأصل والنوع، مخالفة لمواضيع الشعر العربي المعهودة، كما قالوا: إن تقسيم الموشحات، والأزجال المميز إلى أدوار ليس نتيجة لتطوير التسميط، بل أسلوبٌ موروث عن الشعر الأعجمي الأثري المفروض وجوده على أساس خرجات الموشحات نفسها لا غير، أما النقطة الأولى -أي: افتراض الخلاف الجوهري بين مواضيع الشعر العربي المقصد، وبين مواضيع الفنين أو بعض أجزائهما كالخرجات، لاسيما منها الأعجمية، فإن آخر الأبحاث قد بينت بطلان ذلك الرأي وصحة عكسه، ومن هذا الباب إثبات تلميذي الهولندي الأستاذ أوتو زفارجيس في أطروحته المقدمة إلى جامعة نيميخن سنة 1995م، وقد صدرت أخيرًا من مطابع دار بريل للنشر، أن الخرجات الأعجمية لو ترجمت إلى لغة ثالثة، لما أمكن فرزها من أخواتها العربية، وإني قد قصدت نفس هذا الغرض ببحث ألقيته على حضراتكم في دورة سنة 1995م، وتحت عنوان "الخرجات المسماة بالأعجمية في الموشحات الأندلسية"، خلاصته أن بعض القراءات المعتمدة سابقًا لهذه النصوص في الغرب، كانت تحرف أصولها أو تفرض عليها تفسيرًا خاطئًا يحولها عن معانيها الأصلية الدالة على سيطرة الإسلام، والعروبة على المجتمع الأندلسي إلى معان مختلفة تغلب عليها المبالغة في إيهام أنه مجتمع مزدوج اللغة والثقافة، متردد بين إسلام المولدين وتعربهم التدريجي، ومسيحية الذميين وتمسكهم بالأعجمية، على عكس الواقع المجرب من تساوي أهل الملتين من حيث سرعة التعرب، ضربت مثلًا لذلك تحويل عيد الأضحى إلى عيد الفصح، وصوم رمضان إلى صوم الأربعين، والسهو عن ذكر سورة يس. إلخ، ذلك إلى جانب تحريفات أخرى تقحم في تلك الخرجات الأعجمية بعض
أساليب الشعر الأوربي كأغاني الصبح، والأزواج الغيارى ومفهوم الحب الصالح، وكل ذلك معدوم فيها، وإنما خيل إلى محققي هذه النصوص أنه موجود لما ارتأوه من أنها منتمية إلى نموذج ثقافي أوربي، ولا أقول: إن هذا السلوك صادر عن المغالطة، وسوء النية في جميع الأحوال، بل أرى أكثر ذلك راجعًا إلى الاغترار الناتج عن الحماس الفكري، وعدم التضلع في اللغة العربية والحضارة الإسلامية.
على أنني كنت وعدتكم في عنوان هذا الدرس بإطلاعكم على أدلة جديدة على الأصول العربية لبنية التوشيح والزجل الدورية، وهذا هو الهدف الرئيسي من حديثي إليكم اليوم، ولم يكن ما سبقه غير تهيئة له وتذكار بسوابقه، وقد حان وقت التصدي لقلب المسألة، وذلك أن موالي نظرية الأصل الرومانسي لهذين الفنين ما انفكوا متشبثين بإنكار تولدهما من التسميط، مع كونه تعليلًا معقولًا جدًّا، بحجة أن صيغة هذا أ أ أ هـ، في حين أن صيغة الموشح الأصلية هـ هـ أ أ أ هـ هـ، وصيغة الزجل الأصلية هـ هـ أ أ أ هـ، ومن الجلي أن الفرق بينها جميعا يسير منحصر في مضاعفة القفل، وإسباق البيت اختياريًّا بمطلع مشاكل في حالة الموشح خاصة، وهذا ضروري في الزجل الذي لا يكاد يكون أقرع إلا في حالات نادرة جدًّا أو متأخرة، مع عدم مضاعفة قفله على عكس الموشح، ولكنهم بالغوا في أهمية هذه الفروق، فجعلوها مانعًا حتميًّا دون إمكان تولد بعض هذه الصيغ عن بعض، علمًا منهم بأن الاعتراف بذلك مزيل لأهم أسس النظرية الرومانسية، وأصروا على المطالبة بشرح كاف شاف لأسباب وقوع ذلك التطور وكيفيته، وهذا ما لم يكن حتى الآن في متناول اليد.
ولكن الحق يتجلى، ولو بعد حين، ومن غريب الصدف، أو بالأحرى من نتائج الاجتهاد، والمثابرة اللذين يجب الاقرار بهما لمعظم المعتنين بهذه القضية، أن الأستاذ مونرو الموالي للنظرية الرومانسية، أثبت أخيرا أن خرجات كثيرة لموشحات مشهورة، مقتبسة من أزجال شهيرة هي الأخرى، فاستنتج من ذلك، وهو برهان قاطع لا ينكر، أن الزجل أقدم حتمًا من التوشيح، على عكس الرأي السائد سابقًا لدى العلماء من أنه مجرد تقليد عامي له، ولكن الأستاذ مونرو لم يهتد، ولم يهتد غيره حتى الآن إلى أن أقدم الأزجال، التي اقتبسها الجيل الأول من الوشاحين خرجات لموشحاتهم عند اختراعها، أي: عند تطويرها من المسمط، لم تكن دورية البنية بعد كالأزجال المعهودة، بل كانت أبسط من ذلك عبارة عن بيتين مقفيين فقط كالدوبيت المشرقي، والغريب في القصة أن الشواهد بذلك كانت أمام عيوننا، منذ زمن طويل في مقدمة ابن قزمان لديوانه، التي تحتوي ما لا يقل عن ستة أزجال من هذا الطراز البدائي، كنا نخالها، لاقتناعنا بأن الزجل لا يكون إلا دوريًّا دائمًا، قطع أزجال عادية ذكرها ابن قزمان مختصرة، وليس الأمر كذلك، أولا؛ لأنه يذكر زجلًا آخر دوريًّا في نفس الموطن يثبت أنه لم يقصد الاختصار هنا، وثانيًا؛ لأن لدينا زجلًا آخر من نفس هذا الطراز البدائي راجعًا إلى سنة 300، وقد عثرت عليه أثناء تحقيقي للمجلد الخامس من المقتبس لابن حيان.
فيتبين من ذلك كله:
أن الزجل القديم كان عبارة عن دوبيت يقوله الشعب بالعامية، أو بالأعجمية ببنية عروضية خليلية محورة من القرن الثالث فصاعدًا على الأقل، كما يثبته تقطيع ذلك الزجل الراجع إلى سنة 300.
أن ابن بسام قال الحق، وأفادنا خبرًا كان يكفينا لمعرفة حقيقة هذا الأمر، لو لم تتسلط على عقولنا الهواجس، عندما قال عن مخترع التوشيح محمد بن محمود القبري الضرير: إنه "كان يصنعها على أشطار الأشعار، غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز، ويضع عليه الموشحة"، وفي كلامه هذا تلخيص عجيب قد أسيء فهمه مع إفادة كاملة للعناصر المميزة للتوشيح، أي: أن عروضه خليلي، فإن الأعاريض المهملة جزء من العروض العربي، وإن قل استعمالها، كما بينه المرحوم الأستاذ سيد غازي في كتابه "في أصول التوشيح" "ص65"، وأن المركز أو الخرجة كلام عامي أو أعجمي موزون بالعروض الخليلي، وإلا فكيف أمكن بناء الموشح عليه، إلا أنه لم يسمه زجلًا؛ لأن هذا المصطلح كان قد أصبح مخصصًا في أيامه للزجل الدوري المعهود، الذي نشأ بعد التوشيح مقلدًا لمبادئ بنيته الدورية، عندما أراد بعض الأدباء المولعين بفنون الشعب من أمثال ابن قزمان أن يُحَلُّوهُ بِحِليَ التوشيح مع الحفاظ على ملاحة لغته العامية، فجعلوه مسمطًا واتحذوا له مطلعًا في مرحلة أولى، ثم ضاعفوا أقفاله على غرار أقفال الموشح، وهو الزجل الموشح المحدث بعد الزجل الأصلي، وربما أدخلوا فيه التضمين، أي: القوافي الباطنة في الأقفال، فأخيرًا التضفير، أي: أمثالها في الأغصان، وسائر ما نجده من المحليات الشكلية في التوشيح من ترئيس وتذييل. إلخ.
والآن فقد اتضح لنا ما كنا نجهله من قبل، وهو سبب الاختلاف في صيغتي الموشح والزجل، مع تولدهما معًا من المسمط، فمن البديهي أن مخترعي التوشيح، وهم شعراء مثقفون مولعون بالأدب الشعبي، إنما قصدوا أن يزيدوا على ظرافة المسمط المتنوع القوافي بعض ملح كلام العوام، فاستبدلوا بسمط الدور الأخير زجلًا من الطراز القديم البدائي، المتكون من بيتين مقفيين فقط على سبيل التصريع، فاضطروا لأجل التناسب إلى مضاعفة الأسماط الباقية كذلك، وربما أسبقوها بمطلع مشاكل، فتولد من ذلك الموشح الأصلي بمطلعه الاختياري، وأدواره المتكونة من ثلاثة أغصان وسمطين أي: قفلين، وبخرجته العامية أو الأعجمية بدلًا منهما في الدور الأخير، ثم إن بعضهم قطعوا شوطًا جديدًا، وهموا باستنباط شعر موشح عامي كله، فعادوا يلتفتون إلى التسميط بالطبع لكونه مثال الدورية الأصلي في الشعر العربي، غير أنهم في هذه المرة لم يحتاجوا إلى استبدال شيء مليح من أقوال العوام بسمط من أسماطهم، إذ كانوا قد جعلوا الكلام كله عاميًّا على غرار الزجل القديم الشعبي الأصل، وإنما صدروه بمطلع ذي سمطين شأن الموشح، الذي كان قد أصبح أسوة مقتفاة ومثالًا مرموقًا ذا تأثير في جميع أصناف الشعر الدوري، ومن الجدير بالملاحظة أنهم ما كادوا يستغنون عن المطلع في الزجل، على خلاف الحال في الموشح الأقرع، وقد بان سبب ذلك الآن أيضًا، فإن الزجل الأقرع لا فرق بينه وبين المسمط ما عدا اللغة، ومن خصائص هذه الطائفة من الشعراء المحدثين المغرمين بالفنون الشعبية الولوع بجميع أصناف التجديد، والإبداع شكلًا ومضمونًا بمقدار كرههم للتقليد، والاتباع في هذين البابين، وهذا بعينه ما حملهم أيضًا على التكثير من التعديلات في الأعاريض الخليلية، وعلى تعقيد البنية الدورية إلى درجة بعيدة، كما هو مشهور وجاء ذكره في جميع المؤلفين من أمثال ابن سيناء الملك والحلي، وكما ينعكس فيما بلغنا من آثار الفنين.
والآن نفهم أيضًا لماذا يسمى ابن قزمان الزجل موشحًا في بعض مواطن ديوانه، مع أنه إمام الزجالين في أيامه، وواضع الكثير من قوانين الزجل المحدثة، وإن لم يكن مخترعه فقد كفاه ذلك أن ينسب إليه، ولا شك في أنه كان أحرى من يعلم الفرق بينه وبين الموشح، وبيان ذلك أن العوام المتعودين على الأزجال القديمة البدائية غير الدورية، عندما وقفوا على أول الأزجال الدورية المحدثة أطلقوا عليها اسم الموشحات لتقارب نمطيهما، فجرى هذا الاستعمال على ألسنتهم، فمنها أخذه ابن قزمان المحاكي لكلام العوام في أزجاله، ولو عرف الخطأ فيه، ولا يمت هذا بصلة إلى ما اتفق في أيامه، وبعده من أن بعض الزجالين لم يستطيعوا، أو لم يريدوا أن يتبعوا قاعدة ابن قزمان في عدم جواز اختلاط العامية بالفصحى في الزجل، فوضعوا أشعارا شأنها هذا تَسَمَّتْ بالمزنم، وأشهرهم الششتري الذي لا يكاد يسلم شعره من هذه الصفة.
ويظهر على أساس ما تقدم أن تاريخ العروض العربي في الأندلس منقسم إلى فترات متتالية، كما يلي:
في الفترة من الفتح إلى أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط، أي: النصف الأول من القرن الثالث بالتقريب، قد سقط العروض عن الاستعمال وضاع علمه لدى الأندلسيين، اللهم إلا من رحل منهم إلى المشرق وتعلمه فيه، لتغير مقاييس لغتهم وفقدانها للإيقاع الكمي المميز للعربية المشرقية، الذي يعتمد عليه العروض الخليلي، وترتب على ذلك زوال قول الشعر عن ديارهم، إلا ما قل وندر منه، واشتهارهم بذلك العجز والجهل عند المشارقة معروف؛ فلذلك ما نسب عباس بن فرناس إلى الجنون عندما حاول أن يشرح العروض لأهل بلده إثر رجوعه من العراق.
عادت المياه إلى مجاريها بُعَيْد ذلك لعناية بني أمية القرطبيين بالثقافة العربية، ورعايتهم للغة والأدب، فبدأ الشعر يروج ويزدهر ثانية، ومعنى هذا الواقع التاريخي، والمثبت من وجهة تحليله اللغوي الفونولوجي أن العروضيين والشعراء، كانوا قد اكتشفوا طريقة تسمح لآذان الناس بسماع إيقاع الأعاريض الخليلية، ونظريتي في ذلك أن الوسيلة المتخذة؛ لتمكين ذلك إنما كانت إقامة النبرة مقام كمية المقاطع، كما أشرت إليه أعلاه، وقد برهنت على ذلك في مؤلفاتي حول اللهجة لأندلسية، وعروض الفنين.
عمت البلوى بعد ذلك بالشعر الموزون جميع طبقات المجتمع الأندلسي، من الخواص المجيدين للفصحى الذين وضعوا دواوين قصائد مأثورة، إلى العوام الذين لم يعرفوا غير العامية أو الأعجمية، فوضعوا بهما تلك الأزجال البدائية المذكورة آنفًا المنعكسة في الخرجات، واستودعوها رصيدهم من العواطف والعبر، ومنها ولا شك ما رجع إلى أسلافهم الجاهليين من العجم، والعرب، والبربر والقوط واليهود. إلخ، إلا أنها قاطبة قد صارت موزونة ومقفاة طبقًا لقوانين الشعر العربي المجلوب من الشرق، مع تحوير العروض على الطريقة المحلية الموصوفة فيما سبق.


فيديريكو كورينتي
عضو المجمع المراسل من إسبانيا
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى