محمد محمود غدية - وقائع يوم غائم

المقعد فى إستطالته يشبه قضبان السكك الحديدية، من حيث الفراغات،
الخشب متهالك، تعلوه مظلة باهتة، من أثر الشمس العمودية الحارقة، يجلس على المقعد، ذلك الرجل الذى كان يمشى بخطى بطيئة وثقيلة، كما لو كان ينتزع قدميه من الأرض إنتزاعا، والذى كان يتأبط كتابا، وضعه بجواره، تاركا الحرية لذراعاه، تعبر عن خذلانه وإجهاده، يبدو أنه ليس فى عجلة من أمره، ولا ينتظر الباص كسائر الناس، ذلك الشاب الذى أنس الراحة بعد تعب، حين وجد مكانا يسع جسده الضئيل المنهك، مستسلما لمناوشات الأفكار، التى تتداعى وتتناثر فوق وجهه المكلوم، ملابسه بسيطة،
الباص تأخر وقد لا يأتى، لأنه فى كثير من الأحيان، يتخطى بعض المحطات، التى ينبغى التوقف عندها، يراقب الناس الساعين لأرزاقهم، تنفرج شفتاه عن إبتسامة واهنة، ويفتح صدره لنسمة إختارته لترطب قسوة اللحظة، الرجل الذى كان بجواره إنصرف، دون أن يأخذ الكتاب، ربما نساه، أمسك الشاب صاحب الجسد الضئيل الكتاب مقلبا فى صفحاته، قد يفيد شقيقه الأصغر الذى أنهى المرحلة الإعدادية، علت وجهه كآبة حين تذكر مسؤلياته نحو إخوته، بعد وفاة والده المفاجئ، وعمله فى ورشة لسمكرة السيارات، أمسك بالكتاب مزهوا، كأنه طالب بالجامعة التى حرم منها، والمعطلة اليوم لإجراء إنتخابات الرئيس، الساعى لتوريث الحكم لإبنه من بعده، وسط مررات لا تنتهى، تحل به سعادة منتقصة، غريبة المذاق فى إنسكاب الشمس، فوق البنايات والشوارع والوجوه، أمسك أحدهم بيده قابضا على الكتاب، بطريقة أشبه بزلزال مفاجىء،
- صارخا فى وجهه .. كتابك ؟ ينفخ صدره باإعتلاء مزهوا .. نعم
- فجأة وجد نفسه مدفوعا داخل سيارة شرطة، لا يدرى من أين أتتت، كأن الأرض إنشقت عنها،
- فى زنزانة رطبة معتمة، بها بعض الأشخاص لا تبين ملامحهم، فالشمس لا تدخل الزنازين، لا يعرف جريمته، أخبره الشاويش فرحات، أن الكتاب الذى وجد معه يدعو للفوضى ومقاطعة الإنتخابات، أمام المحقق أقسم أن الكتاب وجده على مقعد فى محطة الباص، وإنه لا يعرف القراءة والكتابة، صفعة قوية من الواقف خلفة فى حجم الفيل، أفقدته صوابه وأسقطته على الأرض، بعد التحريات ومداهمة منزله، أطلق سراحه، بعد أن حفرت بذاكرته وقائع يوم غائم لا ينسى .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى