محمد محمود غدية - وتتوالى الحكايات

رغب فى إستغلال النهار والإفادة القصوى من قرص الشمس الذى جاء بطريق الخطأ واعتلى صدر السماء، هذه البلاد يتعطل فيها بزوغ الشمس، تفتقر للدفء، جليد وصقيع طول العام، لون معطفه الأسود المبطن بالفراء تغير بفعل ندف الثلج إلى لون رمادي باهت، تسللت الشمس هاربة، وكأنها أخطأت المدينة فغادرتها، المطر يغسل البيوت وواجهات المحلات والسيارات والشوارع، المقهي مزدحم بالرواد ربما هربا من المطر، إلا من طاولة وحيدة إختارته، فجلس طامعا في بعض دفء، إستأذنته الأربعينية السمراء التي مازالت محتفظة ببقايا جمال بالجلوس بطاولته، فأذن لها لتشكره بالعربية، لكنتها غريبة على سمعه، أرملة عربية تحمل الجنسية الفرنسية، لاأبناء لديها تعمل فى مكتب سفريات آسيوي، الإنسان بعد الأربعين يبدأ رحلة العودة، يشعر كل صباح بموت جزء منه، وعند مشارف النهاية يكون قد مات، يكبرها بسنوات خمس، يحب مراقبة أسراب الطيور العائدة من غربتها، يعيش الوحدة الموحشة متسكعاً على أبواب المدينة، ينعى أحزانه وسط أكوام الهشيم وبرارى الصقيع، مطاردا طول الوقت لأنه لا يحمل إقامة أو جنسية، الأربعينية هى الأخري تعيش حياة جافة معلبة، لاشيء سوى أصص الزرع التى تتراقص على شرفتها، والأحاديث الكثيرة التي تتبادلها مع قطتها، لم تجد في روحها مساحة لعلاقة جديدة، طالت حسرتها أمام المرآة وهى ترى الشعر الأبيض وقد غزا رأسها، هل سيواصل الجفاف إلتهام روحها ..؟ إتسعت إبتسامها وهى تستمع لحديثه كلاهما غريب في بلاد غريبة، يتجرعا الهم والوحدة حتى الثمالة، تحملت الكثير من سنوات الفقد التى عطلت كل حياتها، لأول مرة تستشعر نداوة الهواء في رئتيها، ثمة شمس تتسلل على إستحياء تشيع الدفء فى المكان لا أحد يراها غيرهما، كقطرة مطر فارقت غيمتها، إنتبه على صوت الجميلة نادلة المقهى وهى تسأله : أتريد قهوة..؟
ولم يجبها، فقد دوخه عطر الأربعينية النفاذ، وعيناها البنيتان الشقيتان اللتان سحبتاه نحو الأعماق، إستقامة أنفها فوق فم صغير مبتسم دوما، تجبرك على إحترامها، راعه منها فيض شبابها المدخر المستعصى على الرحيل وتوقد ذهنها، وإقتران الأنوثة بجاذبية الفكر الراجح المتزن العميق، وفى كومة هذا السعير من اللهفة والقلق، والأمل واليأس واللوعة والإضطراب والحيرة والشقاء، أشفق عليهما القدر وهداهما بصيص من ضياء، وبسط أمام أعينهما الذاهلة اطواق النجاة، يغادران المقهى الى مكتب توثيق الزواج ومنه إلى مطعم البيتزا الذى يعمل به، مستأذنا فى أجازة زواج، زملاؤه يشكلون حولهما دائرة بين صفير ورقص وغناء، مع مشاركة رواد المطعم وكأنهم في قاعة أفراح، قدموا له هدية عبارة عن بيتزا فواكه البحر من الحجم الكبير، مع شرائح البطاطس وألفي يورو وأطيب الأمنيات، فى شقتها البسيطة التي تتسم بالذوق الرفيع داعبته قطتها المشاغبة التى قفزت نحوه تتوسد ذراعيه، أين لها بكل هذه المشاعر الطيبة نحو القادم الجديد، لابد وأنها كيمياء الحب.. !!
ومع هبوط الليل، طال أو قصر، ساء أو حسن،
تولد من رحم المقاهي والشوارع والبيوت، حكايات جديدة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى