خوان غويتيصولو - لغز البيت الابيض.. ت: محمد العربي غجو

عندما استيقظ الرئيس، كما اعتاد مع الطلائع الأولى للفجر، تأكد من صحة التوقعات الجوية : سماء صافية، حرارة مرتفعة شيئا ما· اغتسل ثم توقف لدقائق بالمكتب الذي يضع له فيه سكرتيره مفكرة اليوم، التي يكتبها مستشاره الروحي المفضل· مفكرةّ ذلك الصباح الخريفي الهادئ كانت تدحض تأكيدات أحد الملحدين بصدد مسألة تناغم الكون· تقول المفكرة: ّالرب وحده يسيطر على توازن الكون، ويرعى النظام الدقيق لدوران الأجرام، ولولاه لاصطدمت النجوم بعضها ببعض · عمق هذه العبارة أدهشه ومضى يرددها مع نفسه حتى حفظها· بعد ذلك اجتاز القاعات الفارغة واتجه إلى المدخل الذي يستقبل فيه الضيوف الأجانب, حتى يقوم بطقسه اليومي: التجول مع الكلب ليسلي·
كان من عادة الكلب الصغير أن يستيقظ باكرا كذلك، وينتظر الرئيس محركا ذيله، وحين يراه يبدأ يحوم حوله معبرا عن سعادته بنباح سعيد وجري لا يتوقف· لكن في الصباح المشؤوم ذاك لم يظهر للكلب أثر· ربما ظل نائما بعد برنامج زيارة طبيب الأسنان حيث يقوم أسبوعيا بإفراغ حرارته في كلبة لقيطة في حالة تهيج·
توجه نحو المكلبة التي تقع على حدود الغابة الصغيرة التي تعود ليسلي الركض فيها فوجده نائما بالقرب من المدخل·· حين رآه الكلب وقف يتفحصه دون أن يبدي حراكا ·· لا بل أحنى ذنبه وأرخى أذنيه وزمجر زمجرة وأطلق نباحا كان في العادة يحتفظ به للغرباء · ومضى الرئيس ـ عبثا ـ يصفق ، يخرج لسانه، يصفر، يلهج بالمقاطع الأولى للنشيد القومي·· وانحنى محاولا مسح ظهره، غير أن الكلب أظهر أسنانه وضاعف زمجرته وهم بعض الرئيس وهو منخرط في نباح لا يتوقف ··
ما الذي دها الكلب ؟ جفف الرئيس العرق من جبينه ونادى بالهاتف على رئيس البستانيين الذي كان يقوم على رعاية ليسلي، غير أن لقاءه له لم يكن أقل شراسة، حتى المربية التي نشأ بين يديها لم تسلم من غضبه ·
ظل الجميع متحيرا أمام غضب الكلب المتصاعد، متسائلين عن أي ولي صالح يتعين اللجوء إليه لمعالجة الكلب؟
أعضه كلب مسعور؟ مستحيل ـ أقسم رئيس الأمن الرئاسي ـ أن يتسرب حيوان أو شخص إلى المكان المحروس بعناية· حلاق ليسلي، الطبيب الشرفي للحيوانات، الخدم، الحراس ··كانوا جميعا يراقبون المشهد باندهاش كبير· قرر الرئيس إخبار السيدة الأولى، فربما كانت····
خيبة أمل شاملة عمت الجميع، ليسلي حاول عض اليد التي أحسنت إليه ·· مساعدو الرئيس وكذا مستشاره الروحي أحسوا بالحزن· لا بد أنها حالة جنون عابرة، أو خلل ذهني ظرفي ناتج عن اضطراب نفسي مرده إلى مخدر تم دسه في نظامه الغذائي المنتقى، لكن التحاليل الأولية كذبت هذا الطرح ·· لم يكن هناك أثر لفيروس أو مخدر · ما أصاب ليسلي كان أشد كمونا وخفاء من الأسلحة الكيماوية والبكتريولوجية· لعل الإرهابيين عمدوا لاستعمال العناصر المجهرية لداء الجذري، أو الجمرة الخبيثة، أو لعلهم أخضعوا ليسلي لإشعاع بواسطة أجهزة الليزر أو جهاز آخر مرعب في دقته وعدوانيته· لكن فكرة احتمال تعرض ليسلي لعملية غسيل مخ أو تنويم مغناطيسي بواسطة جهاز التحكم عن بعد، كان لها مناصرون كثر· وإذن ما جدوى وضع الأنظمة البصرية للمراقبة، وشبكة للكاميرات الثابتة، والحواجز الأمنية المجهزة بأنظمة الرصد الصوتية، بل ما جدوى طاقم الموظفين العالي التخصص أو هندسة التمويه غير المفيدة والعالية الكلفة ···
الخوف من فكرة الانتقال من التحكم في دماغ الكلاب إلى التحكم في دماغ البشر وإحداث أثر مشابه جعلت الجميع يرتجف هلعا ··· ما عسى أن يقع إذا استيقظ الرئيس من نومه هو ومساعدوه والسيدة الأولى ذات صباح فوجدوا أنفسهم ضحية انهيار ذهني موجه عن بعد، وبدؤوا يعلنون أفكارا تتطابق مع أفكار الإرهابيين الدوليين المفترض أنهم في حالة حرب معهم·
مساعدو الرئيس نصحوه بأن يخضع الكلب ليسلي لمجموعة من التجارب العلاجية النفسية كإجراء يسبق وضع أي مخطط دفاعي، ومن ثم قرروا أن يستعرضوا أمام ليسلي مجموعة صور ثابتة في القاعة التي يشاهد فيها الرئيس وزوجته أفلامهم المفضلة، وذلك لمعرفة ردود أفعاله·
بدؤوا بصور لقادة القارة العجوز، وعندها تلاشت ملامح الغضب من وجه ليسلي ليحل محلها تعبير من اللطف والبشاشة والرضى، ولكن عندما ظهر على الشاشة ثلاثي جزر الأشور( بوش، بلير،أزنار)* اختفت السماحة والطبع الرضي وبدأ الكلب يزمجر ويظهر أنيابه إلى حد الاختناق، وكأنه وقع فريسة نوبة هستيرية مفاجئة· وعلى العكس تماما حينما ظهرت صور شرير الجبال البيضاء (أسامة بن لادن) أو الطاغية صاحب الشنب (صدام حسين) فقد بدأ الكلب يقفز فرحا، وتعين على الحراس لجمه حتى لا يذهب في اتجاههما، مبرزا كل مظاهر الحنان والتحبب·
قام الرئيس على الفور باستدعاء مجلس الأمن القومي، لزم القيام بمسح عميق لبنك المعلومات المتوفرة حول كل من يحتك بليسلي أو يستطيع الوصول إليه ·· الحلاق، كبير البياطرة،المربية، الخدم، البستانيون، وذلك لمعرفة أصولهم الإثنية، ماذا يقرؤون؟ ما هي أفكارهم، وهل لديهم اتصالات محتملة مع العدو؟
بعد ذلك قام بإرسال رسالة إلكترونية لمسؤولي الدفاع ضمنها تعليمات بصدد ضرورة حفظ العناصر المادية التي قد يكون لها علاقة بالتحقيق: الاتصالات الهاتفية، المذكرات، الرسائل، الوثائق···
بعد ساعات، قامت الوكالة بتقديم المؤشرات الأولى والخطيرة : مائة وثمانون نسخة إلكترونية لتقرير معزز بشروح وتعليقات بها إشارة إلى مواقع محدد ، كما تتضمن الرسائل إشارات متعددة للكلب ليسلي ··لأذواقه وعاداته·· وكذا تصميما لحدائق البيت الأبيض ، مع الإشارة الدقيقة إلى المكلبة· معظم الرسائل كانت مكتوبة بالعربية, والفارسية، والأردية، ولغات أخرى صعبة التمييز كالأوزبكية والأزيرية ولهجات أفغانية متعددة وأخرى من شمال القوقاز· اشتغل مترجمو الوكالة دون كلل لكشف مغاليق المتن المعقد·· لم ينم أحد تلك الليلة في القصر الرئاسي، ظلت الأضواء متلألئة ·· كانت النقاشات حادة رغم أنها لم تؤد إلى مواجهات فردية · ما هو الموقف الذي يتعين اتخاذه إزاء هذا الخطأ الجسيم والمتكرر الذي وقعت فيه أجهزة الاستخبارات والذي سيعمق بشكل أقوى فقدان الثقة لدى الناخب، ويضاعف من الانتقادات لعمل هذه الأجهزة وقدرتها على التكهن؟ ما هو التصرف الأصح؟ هل هو التكتم والتعرض للتسريبات الصحفية القاتلة أو التوجه برصانة إلى الأمة بخطاب رصين ودراماتيكي حول ما حصل: أي وجود تهديد مفاجئ من نوع جديد؛ دقيق وغير مرئي يتربص بالمواطنين·
وقد صير إلى تبني الاختيار الأخير حسب ما تم نشره بشكل سري؛ ففضلا عن الخسائر الخيالية الناجمة عن السلاح المضاد للصواريخ العابرة، والحروب الوقائية وجب إضافة نظام باهظ التكلفة من شأنه التصدي للاضطراب الذهني الموجه عن بعد، لكن كيف لناخب فقد ثقته ـ بعد ما يزيد عن سنتين عاشهما في رعب وخوف وخداع ـ أن يقوم من جديد بتمشيط جيوبه؟
استمرت المناقشات بشكل سري، ولا يعرف لحدود اللحظة ما آلت إليه· لكن بقي ليسلي، كيف يجب التصرف معه؟ هل القيام بإذاعة شريط الفيديو الذي يدين تصرفه الودي اتجاه ّبارديّ أروبا العجوز أو فرحه الجنوني بالإرهابي رقم واحد في العالم وصنوه المتبجح صاحب الشنب؟
هل يصار إلى إعادة تربيته على نحو جديد، بإشراف لجنة من علماء النفس وفقهاء الجن؟ هل يرسل هو أيضا إلى ّغوانتنامو؟
مات ليسلي ـ حسب ما وصل إلى علمنا ـ موتة طبيعية ـ حسب البعض ـ وبالحقنة المميتة أو بالأشعة الموجهة عن بعد ـ حسب البعض الآخر ـ ومهما اختلف الطرفان حول كيفية موته، فهما متفقان حول ضرورة تنحية هذا الشاهد المزعج، والتـأكد من التدبير الجيد لهذا الموضوع·

عن صحيفة البايس ـ خريف2003
5/13/2005
أعلى