أ. د. عادل الأسطة - لماذا تكون القصيدة بيضاء والأرض سوداء جداً؟ الأدب المظلم والأدب المتفائل والأدب المتشائل

وأنا أقرأ «البيوت» (٢٠٢٠) لوداد البرغوثي عدت بذاكرتي إلى كتاب جورج لوكاش «معنى الواقعية المعاصرة» والفروق التي أوردها بين مدرستين من مدارس الواقعية هما؛ الواقعية النقدية الغربية والواقعية الاشتراكية وتأملت في نصوص روائية فلسطينية منها «أم سعد» لكنفاني و»المتشائل» لحبيبي و»عباد الشمس» أو «الميراث» لسحر خليفة أو «الجنة المقفلة» لعاطف أبو سيف.
بدا كنفاني متفائلاً وحبيبي متشائلاً وسحر متشائمة وأبو سيف كذلك.
ولك أن تعد روايات عديدة وتتوقف أمام صورة المرأة الفلسطينية فيها؛ «فرحة» لوليد الهودلي و»ما تساقط» لعفاف خلف و»حليب التين» و»خلسة في كوبنهاجن» لسامية عيسى، ولك أيضاً أن تنظر في روايات يحيى يخلف الأخيرة لترى الشعور بالخيبة فيها.
نزعة التفاؤل التي برزت في أدبيات المقاومة الفلسطينية منذ حزيران ١٩٦٧ وما تلاها تكاد تغيب عنها منذ الخروج من بيروت ١٩٨٢ وتوقيع اتفاقية أوسلو في ١٩٩٣، فالحلم بالتحرير والعودة إلى حيفا ويافا تضاءل وغدت فلسطين ضفة وقطاعاً منقوصين أيضاً، تستوطن أراضي الضفة يومياً وتصادر ويحاصر القطاع حصاراً عنيفاً واللاجئون في المنافي يبحثون عن ملاجئ جديدة في أوروبا وكندا وأستراليا وصارت لنا أحياء أشبه بالغيتوات في الدول الاسكندنافية التي غدت إحدى عواصمها عنواناً روائياً فلسطينياً.
تكتب وداد البرغوثي «البيوت» بروح كاتب ما زالت روحه تمتلئ بالتفاؤل والإصرار والثقة بالمستقبل وتبدو قادمة من عالم ٧٠ القرن ٢٠، ونقرأها كما لو أننا نقرأ «أم سعد» كنفاني الذي كان يوم كتبها واثقاً من المستقبل فانتهت روايته بعبارة دالة «برعمت الدالية يا ابن العم. برعمت».
وكان كنفاني يومها يشهد صعود نجم المقاومة الفلسطينية وكان متأثراً بالفكر اليساري الثوري الذي آمن بانتصار الشعوب ودحر الإمبريالية ودك حصونها، وهو ما حدث في فيتنام ودول أخرى، وقد قرأنا تنظيره لشعر المقاومة وتفسيره لنزعة التفاؤل التي برزت فيه.
تكتب وداد بتلك الروح فتنتمي روايتها إلى تلك الحقبة التي تكاد في كثير من أدبياتنا تتلاشى، فالأرض سوداء جداً، ولماذا إذن تكون القصيدة بيضاء؟ والسؤال أثاره محمود درويش في «ورد أقل» (١٩٨٦) ونصه بالتمام «لماذا تكون القصيدة بيضاء والأرض سوداء جداً؟».
تكتب وداد بروح التفاؤل والثقة بالشعب وتصدر «البيوت» بما يعبر عن قناعتها هي شخصياً، وهي لا تختلف عن قناعة بطلتها ياسمين عموماً.
إنها تثق بشعبها وتمدحه وترفض استدخال الهزيمة إليه وتشويهه «فنحن لسنا شعباً مهزوماً» ومجتمعنا أصيل ويجب ألا نتعامى عن أصالته «لأن التعامي عن أصالة مجتمعنا وشعبنا فكرة ليست نزيهة ولا نبيلة ووراءها ما وراءها».
وكما هي وداد تكون ياسمين، وتكون أسرة أم العز التي استضافتها في منزلها وتقاسمت معها كل شيء في بيتها، فكانت لها أسرة ثانية.
هنا يتذكر قارئ أدب الحقبة الاشتراكية رواية «الأم الثانية» لحكيم تويونوف التي صدرت في ٨٠ القرن ٢٠ عن دار الفارابي مترجمة إلى العربية، وهي تمجد الفكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي والعالم الجديد الذي تتضامن فيه الشعوب مع بعضها لبناء عالم أفضل.
تكون أم العز لياسمين كما تكون الأم في رواية تويونوف للطالب الذي استضافته العائلة في منزلها أيضاً.
وكما أم سعد لدى كنفاني وفرحة لدى الهودلي تكون ياسمين في «البيوت».
إنها الأم التي يسجن أبوها ويسجن ابناها، بل وتسجن هي وتعتقل وتفرض عليها الإقامة الجبرية في منطقة بعيدة عن بيتها، فتظل صامدة مقتنعة أن الاحتلال إلى زوال.
في السجن لا تهادن السجانين، بل هي تسخر منهم ومن دولتهم، وفي أثناء اعتقال ابنيها تقف شامخة وأيضاً ساخرة.
إنها نموذج نسوي إيجابي مقاوم لا يفت في عضده كثرة التجارب المريرة، بل تزيدها ثباتاً على مواقفها وإصراراً عليها.
تقديم النموذج الإيجابي المقاوم في روايتنا الفلسطينية في القرن الحادي والعشرين على الرغم من بؤس الواقع منذ عقدين وربما منذ الخروج من بيروت في ١٩٨٢ يستحق حقاً التأمل ويستحق البحث عن الأسباب وتفسير الظاهرة حقاً، فما هي الأسباب؟
أتتعلق بتجربة الكاتب نفسه ومعتقده ورؤاه وعيشه أسير أفكار ومعتقدات آمن بها في زمن مضى أم في قناعته بأن لا شيء يبقى على حاله؟
فثمة كتاب أنجزوا نصوصاً يغلب عليها الطابع السوداوي وقدموا نماذج نسوية مختلفة تماماً، كما في «مقامات العشاق والتجار» لأحمد رفيق عوض و»زغرودة الفنجان» لحسام زهدي شاهين و»ما تساقط» لعفاف خلف.
في أدبنا أيضاً أدباء متشائمون سوداويون بعضهم يعد نفسه كافكا الفلسطيني، وبين الأدب المتشائم والأدب المتفائل هناك الأدب المتشائل الذي تعد رواية إميل حبيبي رائدته وحجر الأساس فيه.
أعتقد أن الموضوع يستحق التفكير فيه، وأعتقد أن هذا الاختلاف مقبول وله ما يسوغه ويبرره.

أ. د. عادل الأسطة
2022-05-15



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى