محبوبة عطية خليفة - ليلةُ سُهدٍ في طرابلس

تأتيها هبة ساخنة من الشعر الأصهب فتلفح وجهها الضاغط على الرأس الحبيب خوفاً وهلعاً فيزيد رعبها وتطلب من ابنها أن يسرع.. فالصغيرة في حاجة ماسة وسريعة إلى طبيب…

ويصلان إلى وجهتهما فيتلقاهما الطبيب ببرود وملل، فالنوم مَلَكَ جسده، ولم يترك لإنسانيته أو واجبه شيئاً، فلم يلاحظ لهفتهما ولا انزعاجهما وقال تحتاج إلى جهازٍ لتسريح الشعب الهوائية!!.. وأنتم ماذا تفعلون؟ أجابته بحدة.. فواصل نظراته البلهاء فتركته والغضب يأكل القلب الخائف على الكيان اللطيف الذي يلهث ليلتقط هواءً يساعده كي ينتعش.

عادتْ إلى شوارعك ياطرابلس.. خدّها يلامس الشعر الساخن والعين تراقب أي صيدلية تفتح أبوابها في هذا الهزيع الأخير من ليل مدينة يبدو أنها لا تنام كما كانت تحسب..

رأتها تتلوى -وكأن بها مساً- على مقدمة سيارة مرسيدس سوداء وتهذي بكلام غير مفهوم فخافتْ مما ترى وطلبت من ابنها ألا يتوقف فنبهها إلى أنهم أمام صيدلية ليلية فقالت له، وضحكٌ يغالب قلقها على المسكينة التي في حضنها.. ظننتُ أنه سجن خاص!...

"يا وخيي والله العظيم مريضة ونبيه الدواء!!" تصرخ وتهذي ولا رابط بين كلماتها إلّا ما تلتقطه السيدة القَلِقَة على حفيدتها في محاولةً لفهم ما يجري أمامها.. صبية جميلة تبدو من طريقة ملابسها وكأنها كانت في حفل عرس أو ما شابه ذلك، لكن ما يظهر أمامها الآن يوحي بأن أمراً مشبوهاً يجري، فالعرس لا يستمر حتى يتبين الخيط الابيض من الخيط الأسود من الفجر، والهيأة تُظهر أن عنفاً ما قد جرى عليها وأنها معتادة عليه، فالصوت الجهوري وتحدّي الصيدلي الشاب الذي يبدو أنه قد اعتاد هو الآخر على هكذا حوادث.. فالصيدلية للَّيل وما يجري فيه من خبايا تخفيها الصباحات القادمة.

اقتربت الفتاة من الابن فتأهبت الأم للتدخل فرمقها بنظرة أن لا تهتمي.. رجته بوجه -صار لوحة سوريالية اختلطت فيها الألوان فتعقّدت الصورة- أن يشتري لها ما تطلبه فسايرها متجهاً بوجهه إلى أمه ومبتسماً، هدأت الفتاة قليلاً،ثم رأت السيدة منظراً غريباً.. الفتاه تحاول التمدد على مقدمة عربتها فيما يبدو أن الأمر اختلط عليها فحسبتها سريرها أو هكذا خَمَّنتْ.

كانا ما يزالان في طابور المنتظرين والصيدلي الشاب من خلف قضبان نافذته الضيقة يتلقى الطلبات ويتعامل معها.

دقائق وسمعتْ ضجة ومحاولة من الواقفين كتم ضحكاتهم غير أن الرجل الذي أثار ضحكهم لم يهتم وانطلق يصدح:

تمنّيت طول الليل عشر ليالي
لا صبح ياتي لا قمر لا والي !*

لكن الصبح يدق أبوابه على المدينة، يؤكد لها أن ليلها سيرحل مهما طال…

يبدو أن طرابلس تستأنس بصحبة الليل وما أكثرهم وهي التي كانت تحسبها تنام مع ساكنيها بعد أن تهدهدهم بمالوفها* الناعم فتستكين قلوبهم وتثّاقل جفونهم ويتمنون لها ولهم ليلةً هانئة وصباحاً يليق بها.

اقترب دور ابنها وسمعت نقاشاً حاداً من جانبه فتأكدت أن ليلها مازال طويلاً وأن التي بحضنها لم تقدم لها طرابلس حلاً ينقذ حياتها. فالجهاز موجودٌ لكن محلولاً مهماً يعمل به نفد من الصيدلية.

عادا إلى السيارة وابتعدا عن المشاهد العجيبة أمامها وما جرى فيها وبعلامات استفهام مفتوحة.. حضنها يتقد ناراً فالطفلة تعاني وكيانها الغاضب يتقد ناراً أيضاً. مالك ياطرابلس في أي طريق تأخذين متعبيك في هذا الليل الذي لا ينجلي.. تدور السيارة بسائقها خفيف الدم الذي يحاول تخفيف مايجري عليها قال كنت بين أناس غريبة بعضهم كحالنا يطلبون نجدةً لا يجدونها، وبعضهم كهذا الذي أطربنا ولا يطلب إلا دواء السعال كي يبتلعه دفعةً واحدة ويبدو أنه وحده الذي يزيد حالة التجلّي التي نراها.. والصيدلي المسكين يبدو مرعوباً حتى خلف قضبان شباكه الصغير. إنه يراقب طرابلس وأهل ليلها من خلف ذلك الشبّاك ويدون ما يرى ففي قصص المتعبين وعالمهم الليلي الموازي مايستدعي الدهشة والذهول في بعض الأحيان.

كتب ذات مرة أنه لو اختار وظيفة شرطي لكان أفضل فهو على الأقل سيحمل سلاحاً يدافع به عن نفسه إن واجه تهديداً فالساهرون يخشون مواجهة السلطة بل ويعاملون نوابها في شوارع المدينة بذلٍ ورعب، أما نحن نداوي ولا يداوي خوفنا أحد، أنا سجين بإرادتي حتى يبزغ نور الصباح فأطلق سراحي وأستريح.

مازالت العربة بركابها القلقين تطوف وتبحث عمن يقدم لهم هذا المحلول. ووصلا أخيراً إلى المكان المأمول بنصيحة من الصيدلي الرابض خلف قضبان شباكه ودخل الشاب وبعد دقائق خرج وفي يده الطلب العزيز فدب الأمل بجلاء هذا الكرب وتحركا. وبدأت الأم تمدح وتشكر فلا يأس مع الحياة.. شكراً طرابلس ليس كل ما فيك متعِباً هذه الليلة، ها نحن نجد ما نريد.. هديةً عزيزة من مكان محترم يخدم مرضاه بعطف. فسكت السائق الظريف برهةً ثم صحح للوالدة.. قال لها: لا شيء مجاناً لقد أعطتني المحلول بصفقة جرت وكأنني أبتاع مخدرات، تضاعف الثمن حتى وصل إلى رقم ملفت ولم أناقش فحياة جميلتنا أثمن.

سرت ضحكة في السيارة.. ضحكتْ الوالدة حتى مالت برأسها إلى الوراء وخفَّتْ الحرارة الصاعدة من رأس الطفلة وابتسمت الصغيرة لضحك رفيقيها فسرت نسمات رقيقة وتحرك الجسد العزيز ملتفتةً يمنةً ويسرة تستفسر عن هذا الضحك المفاجئ ثم انطلقت تضحك معهم.

قيل إنه في تلك الساعة من بدايات بزوغ فجر المدينة سُمعت ضحكات تسري بين بيوتها ولم يعرف الناس حتى نهار اليوم ما الذي حل بأهلها فأضحكهم، وقيل أيضاً إن شمس طرابلس أطلَّت قبل موعدها لتلحق بالضاحكين.

محبوبة خليفة

* تمنَّيت طول: أغنية شعبية قديمة مع تعديل من الكاتبة.
* المالوف: فن غنائي طرابلسي يشبه الموشحات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى