فكري داود - المريب

لثلاث ساعات تقريبا، تأتي جلسته اليومية، تبدأ غالبا من الرابعة عصرا، أدركه في أولها أو منتصفها، فرض حالته على فضولي، المشغول بظواهر مقهانا المعروف، وبركننا بالشارع لصق جدار المقهى، الذي يقصده معظم الزملاء.

على الجانب الآخر من الشارع، يحتل مقعدا محددا، لا يتزحزح عنه إلا نادرا، غير مكترث بما يدور بالشارع أو المقهى من ضجيج، مثبتا ساقه اليسرى على الرصيف، تحت ساقه اليمنى، التي تهتز عصبيا بشكل منتظم، كأنها صدى للحن موزون يسكنه، يروح سن حذائه المعلق ويجيء، مدببا طويلا بلونه الأسود المنطفيء، كبندول ساعة عتيقة.

تروغ عيناه هنا وهناك، كأنهما معلقتان بحبل مطاط، يعيدهما إلى حدقتيه كلما ابتعدا، لا يكاد فمه ينفتح، إلا للرشف من فناجين القهوة، التي يأتي بها النادل متسللا، أو ليلضم سيجارة بين شفتيه، قبل إشعالها بولاعته، بعد عدة (تكات) متتابعة، رغم اشتعالها مع كل تكة.

فإذا سبقتُه في القدوم، أخذني تأمل مشيته السريعة المنتظمة، واضعا كفيه في جيبي جاكته الجينز الأزرق، الذي يلامس بالكاد حزام البنطلون، ودون أي تردد، يسرع محتلا مقعده المحدد، وإلا يأخذه التلكؤ قليلا، منتقيا أقرب مقعد خال، انتظارا لانصراف المحتل غير العليم.

دفعني استحواذه على أفكاري - غائبا كان أو حاضرا -، إلى تسجيل كل ما يند عنه، متحفزا – ومحفزا جلسائي - لكتابة حالته، متسائلا:

أليس بالمقهي رشيد واحد يستحق ثقته؟ ألا يرغب لسانه في الحوار مع أي قرين؟ أم أن جعبته تخلو من أية حكاية؟

احتل جانبا من اهتمام الزملاء، لكنهم اكتفوا بتأمله صامتين.

دأب أخيرا على إخراج ورقة عريضة، من جيب الجاكت الأيسر العلوي، الورقة مطبوقة بشكل هندسي، حولها إلى عدة طبقات في حجم الكف، تبقى حدودها واضحة، إذا ما فكر في فردها أمامه، ثم يُخرج قلما رصاصا رديئا (بتكاية)، له سن رفيع كثيرا ما يُقصف أو ينفلت، وهو يسجل ملحوظة بإحدى طبقات الورقة، أو ربما يرسم شكلا ما.

حاول حدسي التخمين أو الاقتراب المتجسس، إلا أن حرصه كان قويا، على سرية مهمته – إن كانت هناك مهمة –، فإذا فرغ من ملحوظته، مسح بباطنِ كفه، تجاعيد شعره الطويل الفاحم، وبدأ دورةً تالية، من تعاطي القهوة والسجائر.

قد أفاجؤه بنظرة خاطفة، فأخاله يسارع بسحب نظرة مختلسة، جاست لتتفقدني دون أن أدري، لكن قسماته قديمة السُّمرة ثابتة التشكُّل، ترد تخيلي إلى مكمنه، كأن شيئا لم يكن.

ما كل هذه الريبة التي تتملكه، وباتت تتملكني؟

داخلني الظن بأن سره يكمن في تكرار استعماله للورقة وقلم الرصاص الرديء، ولكن من ذا يقدر على كشف هذا السر؟

خصوصا وهو كلما أعادهما إلى جيبه، سحب سوستة الجيب عليهما، متحسسا وضعهما من الخارج، كأم تتحسس جنينها النائم في سكينة.


بالأمس القريب هالني إرهاق ملامحه، ودون مقدمات أنزل نظارته عن عينيه، واضعا إياها على المنضدة، وكمن نسى مكانها تحسس الفراغات أمامه، فلامس فنجان القهوة الفاني منذ لحظات، وتسربت بقاياه مفترشة مساحة من المنضدة.

كانت النظارة ظاهرة لي تماما، كدت أندفع نحوه واضعا إياها في كفه، لكن أصابعه عادت لتطيش، فأسقطتها قرب قدمه المرتكزة على الرصيف، أسرع بالهبوط كغطاس يبدأ شوطا حاسما، راحت كفاه تتحسسان ما حول قدميه، حتى عثر عليها، بدت يداه ترتجفان كغابة يابسة معلقة، لحظات وقفزت إحدى عدستي النظارة، دل صوت ارتطامها بالأرض أنها بلاستيكية الصنع، فعاود ليغطس ثانية يقبض عليها، حاول حشرها في دائرة (الشامبر)، إلا أنها ظلت تنفلت وتنفلت، حتى فاجأته الدائرة بالاتساع، أيقنتُ أن مسمارها الصغير قد أفلت، ولم يعد أحد يعلم أين يستقر الآن؟

الغريب أن الرجل، الذي بات شبه مكفوف، بدا للخلق كأنه هواء أو هراء، فما من أحد حاول البحث معه، أو حتى عرض المساعدة، لينهي جولة يومه الصعب، بارتداء نظارته بعدسة وحيدة، وينصرف وهو يعرج كمن أُصيبت إحدى ساقية.

في الغد سبقته إلى المقهى، مصطحبا شيئا من الطعام، ولَشَدَّ ما أبهجني – لا أعرف لماذا؟ – عندما لمحت نظارته متربعة فوق عينيه سليمة معافة.

احتل مكانه آليا، رمى نظرة نحو موقعي، بدا كأنه فوجيء بتواجدي.


بعد أول فنجان وسيجارتين، تسللت أنامله لتسحب الورقة والقلم، وراح يسجل أو يرسم لمدة ليست بالقليلة، كان الجوع قد هاجمني، فانشغلت جبرا بتناول ما جلبته من طعام.

مع أول نظرة تالية، أعاد الورقة والقلم إلى مكانهما، ويبدو أن انفعالا ما جرى بداخله، فخلع ساعته عن معصمه الأيسر، وسرعان ما احتالت إلى قطع، يتقافز بعضها فوق الرصيف، وبعضها باق بيده أو فوق المنضدة، غطس كالأمس، منتشلا – بعد جهد جهيد - ما همدت حركته من قطع، مسح عرقه بكم الجاكت، واعتدل محاولا إعادة تركيب الأجزاء دون جدوى، فكومها في منديل ورقي مهترئ، داسا إياه في جيبه العلوي الأيمن، ثم استعاد سمت جلسته المعتاد.

كانت ملحوظاتي حوله، قد احتالت تقريبا إلى موضوع مكتوب، انتويت قراءته على زملاء جلستنا، التي بت أسبقهم إليها، لأنفرد بمتابعة صاحبي ولو قليلا.

بمجرد اقترابي الأخير من المقهى، راحت عيناي آليا إلى مكانه، فوجدته محتلا، عادتا لتدورا هنا وهناك، كانت كل المقاعد مشغولة إلا مقعدا وحيدا، بركننا أنا والزملاء، توجهت خطواتي آليا نحوه، فإذا بالرجل غاطسا، يبحث عن شئ ما، تحت المقعد المواجه لمقعدي، و تحت منضدتنا، التي ترك ورقته مفرودة فوقها.

ألقيت نظرة فضولية على الورقة، التي كانت معنونة بكلمة: (المريب)، وتحت العنوان توجد (بورتريهات) عديدة، لشخص واحد وهو يختلس النظر إلى شخص ما، وهو يشرب الشاي، وهو يهرش مقدمة رأسه التي باتت جرداء، وهو يحادث الزملاء، وهو يضحك فاغرا فاهه، وهو يأكل مكورا أحد شدقيه، وهو يلامس أنفه، وهو يدون ملحوظاته في ورقة معه، وهو ...

لحظات وصعدت كفا الرجل أولا، ممسكة بأجزاء قلمه الرصاص ذي الأسنان، الذي يبدو أنه تفكك، وهو يضع آخر رتوش الرسوم، وبعد الكفين بدأ صعود بقية الجسد، الذي اتسعت عيناه عن آخرهما، وهما تواجهان عيني المدهوشتين، وأنا أشير إلى رسومه سائلا:
أهذا أنا؟

فأومأ برأسه مجيبا:
نعم أنت!














تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى