د. أحمد الحطاب - لماذا يكره المثقفون السياسة؟

أولا، لا بد من توضيح لإزالة كل لُبس. عندما أتحدث عن المثقفين، المقصود هم المثقفون الشرفاء و النزهاء، الذين يحترمون أنفسَهم و يحترمون الغير و المجتمع و البلاد. حديثي لا يسري على مَن نصَّبوا أنفسَهم مثقفين و لا على حتى المثقفين الذين باعوا ثقافتهم بثمن رخيص.
بعد هذا التوضيح، السياسة، بتفسير مقتضب، هي فن تسيير و تدبير الشؤون العامة لبلد ما. و السياسة لها أحزابها التي وُجدت لتتنافسَ فيما بينها لتصلَ إلى السلطة و تُناطَ بها، آنذاك، مسئولية تدبير الشأن العام سواء على مستوى البرلمان أو على مستوى الحكومة. البرلمان، من أجل التشريع و سَنِّ قوانين تؤطِّر و توجِّه التنمية الاقتصادية، الاجتماعية و الثقافية، إضافةً إلى مراقبة عمل الحكومة. الحكومة، من أجل تنزيل البرامج التنموية التي كانت موضوعَ الحملات الانتخابية للأحزاب الممثلة في البرلمان. هذه هي السياسة و هذه هي ممارستُها العادية. فلماذا يكره المثقفون الشرفاء و النُّزهاء السياسة مع العلم أنهم هم أول مَن لهم درايةٌ بعلم السياسة و مجرياتها؟
أولا، هناك أمر مهمٌّ تجب الإشارة إليه : العزوف عن السياسة، بصفة عامة، ليس شأنا محصورا في بلدٍ دون آخر. العزوف عن السياسة ظاهرة كونية تشتكي منها الكثير من البلدان بما فيها البلدان التي لها باعُ طويل في ممارسة الديمقراطية. لماذا؟ في نظري، السبب الأول الذي يجعل المثقفين الشرفاء و النزهاء بعيدين عن السياسة هو الفساد، بشتى أشكاله، الذي طال هذه السياسة. و هنا، يجد المثقفون الشرفاء أنفسَهم في مأزق يصعب الخروج منه. من جهة، المثقفون النزهاء لا يريدون اقتران اسمائهم بالفساد، و من جهة أخرى، هم واعون بأن عزوفَهم له انعكاسات سلبية على المسارات الانتخابية و بالتالي، تسهيل وصول الفاسدين إلى السلطة. و ما يزيد في الطين بلةً، إن المثقفين الشرفاء يعرفون حق المعرفة أن انخراطهم في السياسة، ترشيحا و تصويتا، لن ينفعَ في شيء لأن الفاسدين و المُفسدين لهم ما يكفي من الوسائل غير الأخلاقية التي تضمن لهم الوصول إلى السلطة. و هنا بيت القصيد.
إضافة إلى هذا الواقع المرِّ، المثقفون الشرفاء يعرفون أن انخراطهم في السياسة لن يأتي بتغيير يُذكر ما دام المشهد السياسي بأحزابه فاسد حتى النخاع. و التجربة بيَّنت و تبيِّن ذلك بوضوح. المثقف يُحارَب بفظاعةٍ من طرف لوبيات الفساد. و حتى إن توفَّق في الانتخابات، فإنه يجد نفسَه أمام مأزق آخر. إما أن يتكيَّف مع الفساد و إما أن يُحاربَه. في هذه الحالة الأخيرة، فإن محاربتَه للفساد لا تتعدَّى صَبَّ الماء على الرمل.
قد يقول قائل إنها ورطة ما بعدها ورطة. فعلا، إنها ورطة أرغمت العديد من المثقفين على الابتعاد من السياسة و التَّفرُّغ للثقافة. فما هو الحل إذن؟
الحل بيد الدولة، حكومةً، برلماناً و أحزاباً سياسية و ذلك بتطبيق القانون تطبيقا صارما و الضرب بيد من حديدٍ على أيادي الفاسدين و المفسدين. و بالطبع، حتى المواطمون لهم دورٌ في القضاء على الفساد السياسي و الاجتماعي و ذلك بانخراطهم انخراطا قويا في السياسة و ضم جهودهم لجهود الدولة. كما أن الحل يمر من المدرسة التي يجب أن تتحوَّلَ من معمل لحشو الأدمغة إلى مؤسسة مواطنة هدفُها الأول هو بناء الإنسان المواطن فكريا، اجتماعيا، تربويا و أخلاقيا. و للأسرة كذلك دور يكمَّل ما تقوم به المدرسة في بناء شخصية المتعلَّمين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى