محمد عارف مشه - لقد كنّا سعداء

كانت أمي رحمها الله ، لا تلقي ببقايا الخبز في سلّة المهملات أبدا . وحين يصيب اليباس الخبز ويصبح يابسا ولا طاقة لنا به على أكله . تعمل لنا ( فت مرق العدس أو فت مرق البندورة ) ، وهي أكلة طفولية كانت النساء فيه تقسّم الخبز قطعا صغيرة ، ثم تسكب عليه شوربة العدس أو البندورة ، فيصبح طعاما شهيا ولذيذا مع البصل والليمون ، وأحيانا يضاف لها بضعة حبات من الزيتون . وكان الرجال أيضا يحثّون أولادهم على أمرين هامين هما : رفع كسرة الخبز عن الأرض كي لا تدوسها الأقدام ، وعدم القاء الخبز في القمامة ، وكان فيها درسان : الأول الحفاظ على نعمة الله سبحانه . والثانية عدم إلقاء نعمة الله ، كي لا تدوسها الأقدام .
وحين كنّا أطفالا ، كان الأطفال الأغنياء متساوين في نفس الطعام والملابس المدرسية وشكل قصّة الشعر ، فقد كان يحرص الأغنياء أن لا يأكل أولادهم الفاكهة أمام الأولاد الفقراء ، وفي كثير من الأحيان ، كان الأطفال يحملون أكثر من حبة فاكهة ، كي يقوموا بتوزيعها على أصدقائهم ، وكان الفقير يحمل في حقيبته شيئا بسيطا وفقيرا يقدمه لصديقه الغني ، ولا يخجل واحد منهم ، من التبادل والتكافل أغنياء وفقراء . والصحون تحمل الطعام المتبادل بين الأسر الفقيرة والأسر الغنية بلا تحفظ ، حتى لو كان الطعام بسيطا .
حين كنّا أطفالا عُلّمنا أن نعم الله كثيرة ولا يمكن أن نحصيها ، وعُلمنا ( ولئن شكرتم لأزيدنكم ) ، والحفاظ على نعم الله بعدم إلقاء الطعام في الحاويات ، وعُلمنا أيضا أن التباهي بالنعم والتظاهر بها ، ليست بتفاخر الغني على الفقير ، بل بمحبة الغني للفقير لا بالجور وإماتة الفقير قهرا لأنه لا يملك ، كان الفقير كريم النفس وإن جاع ، كان يعلّم أولاده في الجامعات وكليات المجتمع فيصبح الطبيب و المعلم ... كي ينفق على نفسه وذويه ، لينتقل بهم من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة المتوسطة ، بلا تعقيد وبلا نظريات في الاقتصاد .
حين كنّا أطفالا كانت ( الخبيزة والحمصيص ) وبقية الأعشاب الخضراء ، تطبخ ونأكلها بتلذذ . وكانت ( الميراميه والشيح وغيرها ) ، دواء لكثير من الأمراض ، ولا نذهب للطبيب إلا في حالات نادرة ، ولا نتعاطى أودية مسرطنة .

كان الأب يعود من عمله في الأرض مساء ، دائم الضحك رغم فقره وتعبه وشظف الحياة . كانت الأم سعيدة وهي تغسل الثياب وتغسل الصحون في ( لجن الماء ) ، بلا غسالات وجلايات وخادمات ، وكانت تفخر الأمهات بما ينجزن من أعمال منزلية ، وتستقبل زوجها بابتسامة ناسية تعب النهار ، لتنام سعيدة هانئة بما أنجزت في يومها .
كان لنا ( بنطال ) مدرسي واحد ، ننتظر فرحة العيد لنشتري حذاء جديدا أو مستعملا ، وكنا سعداء ، وإن تمّزق ( البنطال ) ، ترقعه الأم بقطعة قماش أخرى ربما تكون من ( بنطال ) تالف ، وكنا سعداء ، ولا أحد يعيب على الآخر فقره .. لقد كانت هناك حياة حقا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى