د. مصطفى رجب - رحلتي إلى القاهرة (5)

(5)

... بدأت بشائر محافظة الجيزة تظهر ، فقد تحرك بعض الركاب هنا وهناك يستنزلون حقائبهم الكبرى من فوق الأرفف ويتفقدونها ، أو يضعونها في طرقات العربة أو يتحركون بها نحو أبواب العربات .
بدأت أشعر بقلق شديد حين اقتربت محطة الجيزة ، فما تزال تلك السيدة تأكل بشراسة ، وترغم زوجها البريئ ذي النظارة الطبية على الأكل ، ومازالت السيدة (الخازوقة ) تضحك وهي تقص على مُحادِثاتها أو مُحادِثيها في هاتفها بطولاتها في غشيان المدارس والتنكيل بالمخالفين فيها ، ومازال العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) يواصل تحليلاته لشخصية المرأة ، وتقسيماته المتفرعة لأنواع النساء وطبائعهن ..
بدأت أشعر بقلق شديد ..أأنزل في محطة الجيزة وأترك هذا المهرجان - الذي عشت فيها أكثر من سبع ساعات – محتدما ، فهو لن يتوقف إلا في محطة رمسيس بالقاهرة " أم أظل لأتابع ؟ ، ولكنني مضطر لأن أعمل بنصيحة ابن أخي فأنزل من القطار في محطة الجيزة ، و" أتمتَّر " في مترو الأنفاق من الجيزة إلى بيتي في محطة كوبري القبة ..توفيرا للوقت الذي " يتدلع " فيه القطار بين الجيزة والقاهرة ..
ولكن السؤال الذي سيطر على ذهني ساعتئذ : كيف ستتوقف تلك السيدة الأكول عن التهام أرغفتها وهي تساعد زوجها في إنزال كل " تراثها " الكبير من تلك الحقائب الكبيرة والصغيرة والمتوسطة من فوق الرفوف ؟
ساعة فكرت في هذا السؤال نظرت ناحيتها فوجدتها قد فتحت جردلا بلاستيكيا مربعا في حجم نصف كرسي القطار ، واستخرجت منه زجاجة الشويبس البرتقالي الذي كانت تتعاطاه من حين لآخر ، ورفعت تلك الزجاجة الطويلة ( ذات اللترين )
لأعلى وظلت تشرب منها حتى أفرغتها تماما .. وحين وضعتها في جردلها رأيت بجوارها ثلاثا أُخَرَ فارغات ، فلا أدري أشربتهن وحدها أم شاركها زوجها وابنها ؟ ثم ما أهمية أن تحضر معها هذا الجردل البلاستيكي الكبير لتحمل فيه تلك الزجاجات الكبار الفوارغ ؟ وهل ستغشى به بيوت أقارب لها بالقاهرة هكذا فارغا ؟ أم أن لها بيتا يؤويها ؟! وما عسى أن يكون في ذلك البيت من مخلفات سفرياتها السابقة ؟
وفيما أنا مستغرق في تساؤلاتي حول تلكم السيدة الفضلى ، فوجئت بذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) يضحك ضحكا متواصلا عنيفا وهو يقص على ضحيته / جاره بعض مغامراته أيام كان شابا فتيًّا ممن يغامرون ، وكيف تلقى صفعة شديدة ما تزال – كما قال – ساخنة على وجهه ، من سيدة فضلى عاكسها في باصٍ قاهري ، أو لعله تحرش بها ، دمعت لها عيناه وانغلقتا ثم انفتحتا ليكتشف أن تلك السيدة التي وقف خلفها في الباص القاهري لم تكن إلا شابا من أولئك " الخنافس " الذين كانوا يطيلون شعورهم ويغذونها بما تغذي به النسوة شعورهن من دهانات ..!
ويحكي الرجل الفاضل كيف نزل فورا من ذلك الباص مذموما مقهورا مكسوفا فأوى إلى مسجد قريب على الطريق فاغتسل واستغفر وصلى ركعتين ثم نام ، فرأي فيما يرى النائم أن امرأة أبيه الثانية قد جاءته في المنام بمركوب قديم ومازالت تضربه به بين فواصل من اللكم والبصق والقرص ، وهو يصرخ حتى أيقظ بصراخه من ينامون جنبه ، ليكتشف أنه ينام في بيته بجوار أسرته ، وليس في مسجد ، ثم تأسى الرجل حزينا على قفل المساجد حاليا أمام أبناء السبيل من المسافرين .
اهتز مقعدي فجأة فظننت أن السيدة الفضلى الجالسة خلفي تهم بالنزول مثلي في محطة الجيزة ، ولكن ظني لم يكن صحيحا ، فقد كانت تحاول فقط أن تضع ساقا على ساق لتستكمل قصتها مع ذلك المعلم " غير المحترم " - كما وصفته – الذي وصف لها عملها التفقدي الضخم الذي تفاجئ به المدارس بأنه " هجص " لا طائل من ورائه ، لأنه يهتم بنظافة دورات المياه ، ولا يهتم بتعليم التلاميذ كيف يكتبون الهمزة التي في وسط الكلمة ..
سعدت جدا بهذا القسط من كلامها فأنا ممن توجعهم كتابة الهمزة حين أصحح "كراريس" تلاميذي ، ولكن قطع عني متابعتها تلك الصرخة العنترية التي هزتني هزا ولم أتبين مصدرها بوضوح ...

ونستكمل غدا ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى