أمل الكردفاني- الرسو- قصة من الأدب العدمي

كان ماء البحر يدفئ قدميه، ساقاه المبتلتان لمعتا حين انعكس ضوء الصحو عليهما. الأرض رائعة هذا اليوم.. رائعة حقاً، والرمال الذهبية على ضفاف الساحل تخلق امتزاجاً هادئاً مع زرقة الماء وبُيضة المد الملحي.
لقد هجروا هذا الساحل في بداية الحرب ثم نسوه تماماً بعد نهايتها، أما هو، فلم ينسه، لأن هنا كان حبه الأول والذي لم يلتقِ له بثانٍ حتى اليوم.
قبل خمسة عشر عاماً وهو في منتصف العشرينات من العمر غامر المغامرة الأولى كحبه والتي لم يعقبها بمغامرة ثانية، لقد غامر وركب البحر بقارب صغير يحمل عشرات البؤساء، كان هارباً من الفوضى، غير أن الفوضى لاحقته حتى هنا ثم تبددت. الفتاة التي التقى بها غادرت مع النازحين، رائحة جلدها الجميلة لا زالت عالقة في أشجار جوز الهند، لونها الحنطي يثري كتفيها كثمرة المانجو الناضجة. أما ملامح وجهها فغابت في النسيان، لأنها اضحت روحاً أكثر منها كائنا متجسداً. رائحة العطر واللون الحنطي فقط هما ما رسخا في ذاكرته. حتى صوتها ضاع منه، كلماتها، طبيعة شعرها،...الخ. كانت -بدورها- مغامرة للهروب كما يحلو له دائماً أن يفعل..
في مطعم العجوز اورتيلانا قضم ساندوتش البيرجر بالبيض بنهم، وهو يراقب الفتيات الرشيقات الضاحكات. "إنها نعمة البصر" ثم صلى في سره لآلهة لا يعلمها ولا تعلمه. العجوز أورتيلانا تجلس هناك تحت قصبة يرتكز عليها ركن العريشة. بطنها كبير وكل شيء فيها تقريباً، ومع ذلك كانت لا تغطي صدرها إلا بمشدات تكشف عن أثداء مترهلة ضخمة. ثم تدخن وتضحك بأسنانها الصفراء، ضحكات امرأة تحاول أن تعود بلا جدوى.
من غابو شق أرض غينيا بيساو حتى الساحل، كان قراره بعد احتفال بالرصاص وقع بين الرئيس وقائد الجيش انتهى باغتيال الرجلين. اخبار القتل دفعته للفرار، لأن الشائعات بنشوب حرب أهلية كانت قد ذاعت في تلك الحقبة. لم تحدث الحرب، لكن فراره كان النتيجة الأفضل لكل تلك العاصفة.
تقطع العجوز حبل اجتراره للماضي حين تقول وهي تتأمل عضلاته:
- لا تكذب يا أولو
فيخاف دون سبب وتستمر هي:
- لستَ من أصول برتغالية..
يتمتم:
- كانت جدتي أمة لأميرال برتغالي.. لقد..
قاطعته:
- أنا من أصول برتغالية وهذا واضح بلا شك..
فيقول وهو يعض شفتيه:
- سنتزوج وستلدين لي طفلة من أصول برتغالية..
فتضحك العجوز وتلمع عيناها الرماديتان.
- ماذا تعمل سوى موظف إنقاذ بسيط.. إنني لن أقبل الزواج بك إن لم تصبح غنياً..
دار ببصره متأملاً الشاطئ الذهبي:
- وماذا يمكن أن يعمل المرء هنا سوى عامل إنقاذ بلا إنسان ينقذه.. في الحقيقة وبعد بضعة أشهر سيصبح هذا الساحل مهجوراً تماماً.. ربما أنتِ نفسك عليك أن تبحثي عن عمل يا اورتيلانا الحبيبة..
ترق عينا العجوز:
- يا لك من طيب يا أولو..
يهمس بتهيج مفتعل:
- وأعرف كيف أسرق قلوب الفتيات الجميلات مثلك..
فتضحك العجوز، كان يتعمد أن يجعلها تشعر بالحياة مرة أخرى، كان ذلك يسعده، فاسوأ ما قد يمر به إنسان هو شعوره بأنه يحيا ميتاً.
- بدأت افقد ذاكرتي..
قالت اورتيلانا بحزن الصبايا، فقال:
- لا شيء يستحق التذكر سوى الحاضر يا صغيرتي..
- صدقت.. هل تريد سندوتشاً آخر..
- لا .. شكراً..
ستغرق فتاة جميلة وسأنقذها، وستحبني وأحبها، ثم ماذا بعد ذلك.. قال ذلك لنفسه وهو يتأمل الشاطئ بعينين مستدقتين. هناك إنعطاف رملي نحو لسان بحري صغير يقع خلف أجمة استثنائية، ومن هذا اللسان يبدأ تغير ملحوظ في التربة، إذ أنها تصبح تربة طينية بدلاً عن التربة الرملية الذهبية. فمن هنا تبدأ دلتا النهر الذي يصب في البحر.
- لا شيء تغير كثيراً منذ نهاية الحرب الأهلية سوى أن اللهجة أصبحت أكثر اقتضاباً وعصرية..
قال ذلك ثم أسرع خطاه حين لاحظ نتوءاً بين الشجيرات، وحين وصل إليه جثا على ركبة واحد وانتزع القطعة الحديدية. كانت جزءً من مرساة قديمة.. رفعها ببطء وتأملها ثم سقطت من تجويفها قطع نقدية قديمة وزرار فضي..
قالت فتاة من بين الثلاث:
- أنت محظوظ..
ابتسم وهو مستلقٍ على سرير من نسيج الحبال ، وأضافت سمراء ذات جسد ممشوق:
- تحت الصحو والماء.. إنه عمل رائع..
هذه هي التي قضت معه ليلتها هذا اليوم داخل عريشته التي نصبت فوق مرتفع صخري قصير..
سلينيا التي كانت بلا طعم، رغم أنها اجتهدت بمثابرة تحسد عليها. لكنها لم تحرك فيه ساكناً أكثر مما تفعل ظلال السحب الصيفية. لذلك أخذ يتأمل بقايا المرساة القديمة والزرار الفضي بلا هدف.. كان هناك نقش على الزرار :" حبيبة الآدميرال".
- قد تكون جدتي..
قهقه بسعادة، وأستمر متأملاً في المرساة.
"سفينة الأجواندا- كوستا دا بيمنتا".. أما القطع النقدية فأشارت لعام ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين. بالكاد استطاع قراءة الأرقام.
ليتفاجأ في المساء بالأجواندا تبحر من على البعد. حفيدتها بمعنى أدق..
أحس حينها بأن هناك حبكة درامية تُنسج حوله ليتغير قدره من مهاجر افريقي إلى سيد ما، ربما، رجل أعمال ثري، ولكن ما كان يجهله تماماً هو ما إذا كان عليه أن يفعل شيئاً أم يترك للقدر قص حكايته.
في صباح اليوم التالي زار اورتيلانا التي أصيبت بوعكة لم تكن عابرة بأي حال. فامسك بيدها وغطاها بيده بدفء:
- حبيبتي أورتيلانا..
قالت بوهن:
- آه يا صغيري.. منذ ثلاثة أيام شعرت ببرودة داخل عظامي فأدركت بأنها الحمى.. المتناقضات تتخفى وراء بعضها البعض..أليس كذلك؟
- هذا صحيح يا أورتي.. إنها قصة بلا نهاية يا عزيزتي..
- صبرت دوماً على الوضع بحانتي المتواضعة بعد وفاة الغندور زوجي.. إنك لم ترَ صورته رغم كل هذه السنوات التي صاحبتني فيها..
وحين هزّ رأسه، أشارت إليه نحو كنزية صغيرة ففتحها وأخرج منها ألبوم صور، تأملها وكانت أورتيلانا تحدثه ببطء:
- هنا نحن في بولينزيا.. كان يحب البحر.. بالرغم من ذلك فإنني لا أجد حرجاً في اخبارك بأنه كان يكره افريقيا والزنوج أيضاً.. كان برتغالياً عنصرياُ..
غمغم أولو:
- كان وسيماً بالفعل.. وأنت كذلك يا اورتيلانا.. كنتِ فائقة الجمال..
أشارت باصبعها المتورم:
- هبطنا بطائرة برمائية على الساحل الإفريقي ثم استقلينا الاجواندا نحو الكاريبي..
نظر إلى الصورة حيث يقف الزوجان الشابان فوق السفينة وردد:
الأجواندا..
قالت:
- كوستا دا بيمنتا.. كانت سفينة رخيصة وغالباً ما كان يتم ترحيل العبيد بها من أمريكا إلى افريقيا.. ففي آخر أيام زوجي كان قد فقد الكثير من ثروته التي ورثها عن إبيه.. لكنه لم يكن ليتخلى عن حلمه بركوب البحر.. بعد ذلك باع الأجواندا إلى شركة إيطالية مع شرط منحه تذكرتين مجانيتين لنا.
قال أولو:
- قبل أيام وجدت مرساتها هنا على الساحل الطيني.. كانت مرساة مجوفة وداخل تجويفها وجدت نقوداً قديمة وزراراً فضياً..
أدخل يده إلى جيب قميصه وأخرج الزرار، فالتقطته اورتيلانا بخفة رغم مرضها وتأملته ثم بكت.
أدرك بأن الرسالة لم تكن تخصه، الحبكة الإلهية كانت تتعلق بأورتيلانا أكثر منه.. وكان ذلك منطقياً قبل لحظات الوداع الأخير، حيث تحدث الأشياء الطيبة لتجعل مفارقة الحياة أكثر إيلاماً..

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى