د. محمد عباس محمد عرابي - دلالة الاكتفاء في الجملة القرآنية للباحث /علي الشمري

دلالة الاكتفاء في الجملة القرآنية دراسة نقدية للقول بالحذف والتقدير
أُطروحة تقدم بها علي عبد الفتاح محيي الشمري إلى مجلس كلية التربية (ابن رشد)، وهي جزءٌ من متطلبات نيل درجة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية / لغة بإشراف الأُستاذ الدكتور/خليل بنيَّان الحسُّون1427هـ/ 2006م
وفيما يلي تعريف بموضوع الدراسة يتم عرضها بنصها كما ذكرها الباحث على النحو التالي:
المحور الأول: سبب اختيار موضوع الدراسة:
يذكر الباحث أنه جاءت فكرةُ البحثِ في ميدانٍ من ميادينِ الدرس اللغويِّ القرآنيِّ، وهو منهجُ المفسرين واللغويين في القولِ بـ(الحذف والتقدير) في النصِّ القرآني ، لِما وجده الباحث من جرأةٍ كبيرةٍ ، وتجاوزٍ للحدِّ المقبولِ في تحليلِ النصوصِ القرآنيةِ ، تنطوي على القولِ في تلك النصوصِ بِما لا يُمكنُ أنْ يُؤخذَ إلاَّ بوحْيٍ ، أو بأثرٍ من النبي (صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم). فجاءت هذه الدراسة دلاليةً نقديةً، أساسُها أنَّ الجملةَ أو التركيبَ في القرآن الكريم يأتي -في نظمٍ مقصودٍ -على هيأةٍ يُكتَفَى فيـها -بضميمةِ السياق، وظروفِ القول - بنظمٍ خاصٍّ دونَما حاجةٍ إلى سواه ، لا ذِكْرًا ، ولا تقديرًا.
وقد بين الباحث أن الذهابَ إلى أنَّ هذا النصَّ القرآنيَّ مكتفَى فيه بِما هو عليه من نظمٍ -بضميمةِ السياق -وما ينطوي تحته من دلالةٍ، أَوْلى وأليقُ من أنْ يُقالَ: إنَّ فيه محذوفًا، وإنَّ تقديرَه (كذا ... أو كذا ... أو كذا ...). فمصطلحُ (الحذف) -مهما فُسِّر -يُشعِرُ بالطرح والإسقاط، وادِّعاء ما ليس في النصِّ بوساطةِ التقدير الذي يُعدُّ نتيجةً منطقيةً للقول بالحذف. فلا يُمكنُ أنْ يقدَّرَ ويُدَّعى إلاَّ بعدَ ادِّعاءِ الحذف وزعمِه. وهذا -بِمجملِه - لا يليقُ بأنْ يُحملَ القرآنُ الكريم عليه ، لأنه كلامُ الله تعالى المعجزِ الذي يجبُ أنْ يُدرسَ دونَما إقحامٍ فيه.
كما بين الباحث أنَّ للعادةِ أثرَها في ترسيخِ ما يتعلمه الإنسانُ، حتى لو كان ما تعلَّمه غيرَ صحيح. إلاَّ أنـه في المحصلةِ النهائيةِ لا يُمكنُ الركـونُ إلاَّ إلى ما يُوثق به، ويُطمأنُّ إليه، وتطيبُ النفس -لعدمِ تجاوزِها وتجرُّئِها -بانتهاجه.
المحور الثاني: الأساس الذي قامت عليه الدراسة:
لقد أقام الباحث دراسته هذه، وميدانُها الرئيس هو القرآنُ الكريم، على ركنَين رئيسين، هما:
1. مصنَّفاتُ العلماء في ميادين (اللغة، والنحو، والتفسير، والبلاغة، وعلوم القرآن، والتشريع).
2. دراسةُ الآراءِ المُنـتقاةِ من تلكَ المصنفاتِ، ومناقشتُها في ضوءِ النص القرآني والركن الأول مستعينًا من أقوالِ العلماءِ بِما يدعمُ الرأيَ الذي أقولُ به.
وبين الباحث أنه نظرا لأن الدراسةَ اعتمدت نظم النصوص القرآنية المستشهَد بِها وتحليلَها دلاليًّا، فقد قامت على أساس أنَّ ألفاظَ نظم النصِّ القرآني منقادةٌ لدلالتِه، ودلالتَه منقادةٌ لنظْم ألفاظِه. فكان المحور الرئيس للبحث هو دلالةُ النصِّ وبيانُ ما يُمكنُ من أٍسرارِه البيانية ومعانيه في حدود ظاهره المنظوم، وترْكُ القول بالزعْم والتوهُّم والتخمين، فهذا ما يعدلُ بتلك الدلالةِ عمَّا يُرادُ منها.
المحور الثالث: مكونات الدراسة:
تكونت الدراسة من مقدمةٍ، وثلاثةِ فصولٍ مسبوقةٍ بتوطئةٍ، وخاتِمةٍ بنتائجِ البحث يتم بيانها على النحو التالي كما ذكرها الباحث:
المقدمةُ:
وهي التي بينَ يدَي القارئ الكريم -فقد أجمل الباحث القولَ فيها عن هذه الدراسةِ، وسببِ البحثِ فيها، ووصفِها.
التوطئةُ:
فقد خصَّصها الباحث -عمومًا -في إعجاز القرآن، وخلص منها إلى أنَّ إعجازَ القرآنِ وكونَه كلامَ اللهِ تعالى يجعلُه محطًّا للبحث والدراسةِ والاجتهاد في ضوءِ المعرفةِ القرآنية، وأنه ميدانٌ لن يُتمكَّنَ منه، ولن يستطيعَ أحدٌ -مهما بلغ -سبْرَ أغوارِه. وليس للمفسِّر، أو المحلل للنصِّ القرآنيِّ رأيٌ يُعدُّ قولاً فصْلاً، وأنْ لا قولَ يُصوَّبُ تجاهَه في آيةٍ أو جملةٍ أو تركيبٍ، على الرغمِ من إصابةِ الحقيقة وعدمِ مجانبةِ الصوابِ في تحليل نصوصٍ قرآنيةٍ عند طائفةٍ من العلماء. وهذا ما يُفهمُ من عنوانِها الذي صدَّرتُه بالحرف (في)، وهو ما صدَّرتُ به الفصولَ الثلاثةَ أيضًا، إشارةً إلى اصطفاءِ القضايا الأساس في كلٍّ من (الإعـجاز)، و(الحـذف)، و(الاكتفـاء)، و(التقديـر) التي انعقدَ عليها البحثُ دون غيرها مِما لا يؤثِّرُ الاستغناءُ عن ذكره في قيمةِ البحث، أو مِما يندرجُ تحت تلك القضايا، وينصهرُ فيها.
الفصلُ الأول: (في الحذف):
قال اللغويون والمفسرون بالحذف في القرآن الكريم، وعُرِف في منهجِهم أنه لِما (أُسقِطَ) من النصِّ. وقد أقمتُ هذا الفصلَ على مناقشةِ القضايا التي أُقيمَ عليها منهجُ القولِ بـ(الحذف)، وهي:
1. الاحتجاجُ بالنصِّ القرآنيِّ - نفسِه - دليلاً على القول بوقوع (الحذف) في القرآن ، بحجةِ أنَّ كلَّ نصَّينِ متماثلَي النظمِ والسياق وردتْ في أحدِهما كلمةٌ ولم تردْ في الآخر ، يكونُ النصُّ الذي وردتْ فيه تلكَ الكلمةُ دليلاً على حذفِها من النصِّ الآخر الذي لم ترد فيه. مبيِّنًا أنَّ هذا أساسٌ لا يُمكنُ الركونُ إلـيه والاعتدادُ به. فلكلِّ نصٍّ نظمٌ جـاءَ لحكمةٍ إلهيةٍ ، إنْ عرفناها فقد ظفرنا ، وهذا مِن مَنِّ اللهِ تعالى علينا ، وإنْ لم نعرفْها ، فليس لأنه لا توجدُ فيه حكمةٌ ، بل لأننا جهلنا إدراكَها. وهذا واقعٌ فعلاً، ومتحقِّقٌ في الدراساتِ القرآنية كلِّها، ومنها هذه الدراسةُ. وهذا مِن مَنِّ اللهِ تعالى علينا أيضًا.
2. ما عُرِفَ من أنواعِ (الحذف) التي قيل بوقوعِها في القرآن الكريم، وهي: (الاقتطاع) و(الاكتفاء) وهو غيرُ ما أقام عليه الباحث دراسته هذه ، و(الاحتباك) ، و(الاختزال) هي أقربُ إلى الكدِّ الذهنيِّ ، وفهْمِ النصِّ القرآني بصورةٍ تعدلُ بدلالتِه الجليَّةِ إلى غير ما سيق لأجله ، منه إلى فهْمِ ذلك النصِّ في ضوء المعرفةِ القرآنيةِ المقبولة التي تصبُّ في خدمةِ النصِّ وتُراعي - بلا نسيانٍ أو تناسٍ - أنه كلامُ الله المعجز.
3. ما يُسمَّى بـ(المحذوفات) في العربية. مبيِّنًا أنَّ فيها من الاضطراب والتناقض ما لا يجعلُها مقبولةً.
4. الأسبابُ التي ادُّعِيَ أنَّها أساسٌ للقول بـ(الحذف) في القرآن الكريم. مبيِّـنًا وهنَها وعدمَ الاعتقادِ بأنـها مسلَّماتٌ لا يجبُ رفضُها.
5. الحذفُ ليس مـن المجـاز. وردُّ القول به لا يعني إنكارًا للمجاز، بـل المجازُ -في حدود معرفة الباحث- واقعٌ في القرآن الكريم.
*الفصلُ الثانـي:(في الاكتفاء):
وأقامه الباحث على أنَّ ما قيلَ فيه بـ(الحذف) من جملِ العربية - بعامـةٍ - والجمل القرآنية - بخاصةٍ - إنـما هـو (اكتفاءٌ) بِما هو في النظم ، ولا حذفَ فيه - كما يُتوهَّمُ - معتمدًا في استخلاصِ ذلك زبدةَ المخْضِ من فَهْم اللغويين لـ(الجملة) و(الكلام) و(الإسناد) وما ينضوي تحت مصطلح (الجملة) من (تركيب ، أو تعبير) ، فغُلِّبَ هـذا المصطلحُ لشموليتِه ، وكثرةِ استعماله.
والجملةُ المكتفيةُ إما أنْ تكونَ قائمةً على كلمةٍ واحدةٍ مستقلةٍ بنفسِها ، غير مرتبطةٍ بسياقٍ ، أو أنـَّها قائمةٌ على كلمةٍ أو أكثرَ ، ولكنها غيرُ مستقلةٍ ، بل مرتبطةٌ بسياقِها ، ومنتظمةٌ في ظروفِ هذا السياق. معتمدًا في ذلك آراءَ بعض العلماء في العربية.
وقـد نبَّه الباحث علـى أنَّ اصطلاحَ (الجملة المكتفية) - وهـو ما غلَّبه الباحث على مصطلح (الجملةِ المقتَصَرة) ، وهما بدلالةٍ واحدة ،كما سيأتي – الذي رأه الباحث مناسبًا للجملةِ التي قيلَ : إنَّ فيها محذوفًا ، يرُدُّ قولَ مَنْ أنكر التقديرَ فيها طلبًا للتيسير: إنـها جملٌ ناقصةٌ ، أو صيغٌ شاذَّةٌ ، أو أشباهُ جـملٍ. فكلُّ هذه تسمياتٌ لا تَمتُّ بصلةٍ إلى حقيقةِ النظمِ ، ودلالتِه.
كما أورد الباحث طائفةً من الصور التي تَرِدُ عليها (الجملة القرآنية المكتفية) مع التحليل الدلالي لَها ، مشيرًا إلى أنه ليس في طوقي سرْدُ كلِّ صور هذه الجملة في القرآن الكريم. فليست الغايةُ العمليةَ الإحصائيةَ ، والشاهدُ الفرْدُ دليلٌ ، وبه يُكتفَى ، وعليه تُقاس باقي الصور وما يندرجُ تحتها من نصوص.
*الفصلُ الثالثُ :(في التقدير):
الذي يُعدُّ وليدَ القول بالحذف، ونتيجةً له، وقد بين الباحث أنَّ دلالتَه اللغويةَ التي ذكرها علماءُ اللغة، ودلالتَه الاصطلاحيةَ التي لم يُشِرْ إليها أحدٌ، بل استنتجها الباحث في ضوءِ منهجِهم في التقدير-هي أساسُ فقراتِ هذا الفصل. كما نبَّه الباحث على أنَّ (التقديرَ) لا يُمكنُ الركونُ إليه -تحت أيِّ مسوِّغٍ كان -بل لا ينبغي تقبُّلُه، لأنه يزيدُ في الكلام ما ليس فيه، ويعدلُ بدلالتِه إلى غير جهتِها ، وهو غيرُ متواترٍ ، بل لقد اختلف العلماء في كيفيتِه.
ومِما أقام الباحث عليه هذا الفصلَ - مِما هو من لوازمِه - تلكَ العللُ التي احتجَّ بِها المقدِّرون لتسويغِ منهجِهم في التقدير. فقد ذكرتُها بالعرض ، والتحليل ، والنقد ، والردِّ في ضوءِ النصوصِ والشواهدِ ودلالاتِها. وهي عللٌ تقومُ على ما وُضِعَ مِن ضوابطَ نحويةٍ جاءت من استقراءٍ ناقصٍ لِمصادرِ اللغةِ والنحو ، بعيدةٍ عن سمْتِ اللغة ومرونةِ طُرُقِ التعبير فيها ، وعلى ما وُضِعَ من ضوابطَ معنويةٍ ، وأحكامٍ شرعيةٍ عقائديةٍ لا ينبغي الاحتجاجُ بِمثلِها.
وقد بين الباحث أثرِ اعتمادِ الشعر العربي - ولهذا البيانِ صلةٌ وثيقةٌ بموضوعِ الفصل - مصدرًا مقدَّمًا لاستخلاصِ ضوابطِ الدرسِ النحويِّ ، على القرآنِ الكريم ، وأثرِ خلْطِ المستويَين المتباينَين. الأمرُ الذي أدَّى ببعض المفسرين واللغويين إلى أنْ يعتمدَ النصَّ الشعريَّ دليلاً لتقدير ما زَعَم حذفَه من النصِّ القرآنيِّ. ولعلَّ في هذا الصنيعِ من التجاوزِ والجرأةِ على النصِّ القرآنيِّ ما لا يَخفَى ، ولا يُسوَّغ.
وقد ختم الباحث هذا الفصلَ بعرْضٍ لمنهجٍ آخرَ يقومُ على التقدير ، وهو تأويلُ النصِّ ، لا على أساسِ صرْفِ معناه الظاهرِ إلى معنى باطنٍ أخفى منه مغايرٍ لهذا المعنى الظاهر ، بل تأويله على أساس زعْم صورةٍ (أصْلٍ) يتخيَّلُها المفسِّرُ أو اللغويُّ ، ويدَّعِي أنَّ بعضَ النصوصِ القرآنيةِ إنَّما أصلُها (كذا...) ، أو (كان أصلُها كذا...) ثـم صارت (كذا...) ، وهو منهجٌ تتجلَّى فيه جرأةٌ وتجاوزٌ لم يكن لِمن قال به من العلماء - على جلالةِ أقدارِهم - من حاجةٍ تُوجب إليه.
الخاتِمةُ :
فقد عرض الباحث فيها لأهمِّ النتائجِ التي توصَّلت إليها الدراسة ، مِما يُضافُ إلى حصيلة نتائج الدراسات القرآنية ، ليكونَ من المجموع ما يخدمُ هذا النصَّ المقدَّسَ ، ولغتَه المقدَّسة.

وبين الباحث أنَّ فصولَ البحث الثلاثةِ قد جاءت متداخلةً مترابطةً فيما بينها ، فما كان للدراسةِ (في الحذف) اكتنف الحديثَ على (الاكتفاء والتقدير) ، وما كان للدراسةِ (في الاكتفاء) ضمَّ الحديثَ على (الحذف والتقدير) ، وما كان للدراسةِ (في التقدير) شملَ الحديثَ على (الحذف والاكتفاء). لأنَّ القولَ بـ(الحذف) هو أساسُ القول بـ(التقدير) ، ولا (تقديرَ) إلاَّ من تصورِ (الحذف) ، وما يُرفَضُ القولُ فيه بـ(الحذف والتقدير) إنـَّما هو (اكتفاء) ليس إلاَّ.
المحور الرابع :نتائج الدراسة :
توصل الباحث لعدة نتائج ذكرها على النحو التالي :
1. لا يُمكنُ الاحتجاجُ بأنَّ وقوعَ الحذفِ فـي القرآن الكريم بِمعنى (الإسقاط) يؤيدُه القرآنُ نفسُه بِمسوِّغِ أنَّ ذكْرَ نصَّين متماثلَيِ النظْمِ ، متشابِهَي السياق – قد ذُكرت في أحدِهما كلمةٌ ما ، ولم تُذكر في الآخر – هو ذريعةُ هذا الاحتجاج. فهذا ليس بالدليلِ المقنعِ ، ولا المقبول. لأنَّ لكلِّ نصٍّ خصوصيتَه ، ولكلِّ نظْمٍ وكلمةٍ وسياقٍ قصْدٌ بعينِه ، ودلالةٌ مرادةٌ ، واللهُ أعلم.
2. ثَمةَ رياضةٌ ذهنيةٌ ، وفذلكةٌ في التحليل نشأت من نَهجِ سبيلِ القولِ بالحذف. وقد أدَّى هذا الأمرُ إلى ادِّعاءِ أنواعٍ للحذف في القرآن الكريم ، هي: (الاقتطاع) ، و(الاكتفاء) وهو غيرُ ما استعملتُه مؤدِّيًا دلالةَ مصطلـحِ الحذفِ عند النحويين ، بل هـو ما يختصُّ غالبًا - كما يُـرى - في الارتباط العطفي ، وقد بيَّنـتُه في موضعِه ، و(الاحتباك) و(الاختزال). وقد بان أنـَّها من الضعفِ بِمكانٍ مِما لا يُمكنُ الركونُ إليه. وهي إلى كونِها من الولَعِ بِمنهجِ القولِ بالحذف والتقدير أقربُ منه إلى كونِها مِما يقتضيه النصُّ.
3. القولُ بالحذف والتقدير يَمسخُ الدَّلالةَ في طائفةٍ من النصوصِ القرآنية ، ويعدِلُ بِها إلى غير ما سيقتْ لأجلِه ، ويزيدُ في الدَّلالةِ ويُقحمُ فيها ما ليس فيها في طائفةٍ أُخرى.
4. لا يُمكنُ قبولُ تحليل بعضِ النصوصِ القرآنيةِ – مع القولِ بالحذف والتقدير – بِموجبِ الذهابِ إلى أنه (( لا يستقيمُ المعنى إلاَّ بتقديرها)) ، كما يقولُ الزمخشريُّ. فألفاظُ القرآنِ الكريم (كتاب الله) منساقةٌ لدلالاتِه ، ودلالاتُه منساقةٌ لألفاظِه. وكلُّ شيءٍ فيه: لفظه ومعناه، قد جاء لحكمةٍ ، وبقدْرٍ لدلالةٍ مقصودةٍ دون سواها ، مع ما تكتنفُه من معانٍ إيحائيةٍ ظلاليةٍ. فإنْ أدركناها فقد ظفرنا ، وإن لَّم ندركْها ، فليس لأنه لا حكمةَ هناك ، بل لأننا قد جهلنا. كما يقولُ الخطيبُ الإسكافيّ.
5. ثَمة تقديراتٌ يرفضُها الشرْعُ المقدَّسُ والعقيدةُ السمحاء، ولا يُمكنُ الركونُ إلى التأويلِ فيها كيفما شاء المؤوِّلُ أوِ المقدِّر.
6. ثَمة تناقضٌ كبيرٌ في موضوعِ تقسيمِ المحذوفات في العربية – كما يُقال – على الأضرب الثلاثةِ المذكورةِ في مظانِّها، وفيما مرَّ.
7. في ضوءِ مناقشةِ الأسبابِ التي جُعلت مسوِّغاتٍ لِما قيل فيه بالحذفِ، تبيَّنَ أنـَّها انطوت على جرأةٍ كبيرةٍ أدَّت بالقائلينَ معها بالحذفِ إلى تغييرِ دلالاتِ النصوصِ المعنيةِ، وما تشتملُ عليه من الإيحاءات.
8. إنَّ ردَّ القولِ بالحذف – وهو أساسُ القولِ بالتقدير في القرآن الكريم – لا يعني إنكارَ المجاز أبدًا. فالقولُ بالحذفِ ومنهجُه شيءٌ ، والمجازُ شيءٌ آخرُ. فقد ضمَّ القرآنُ الكريمُ كثيرًا من النصوص التي تُحمَلُ على الفهْم المجازيِّ. إذ لا وجهَ لتحليلِ قولِه تعالى: [ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ] [الرحمن/27] ، وقولِه تعالى: [ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ] [الفتح/10] ، وسواهما إلاَّ على المجاز ، في حدودِ علمِنا ، والله أعلم.
9. إنَّ عنايةَ النحويين بالمفرداتِ ، وتخصيصَ الدرسِ النحويِّ لَها بالسهمِ الأوفر ، جعلَ من جهدِهم منصبًّا على دراسةِ أحوالِ أواخرِ المفردات ، وما يتعلَّقُ بِها من عملٍ وعامل ، دونَما إعطاءِ مثيلٍ لِهذا القدْرِ من الجهدِ لدراسةِ الجملةِ والتركيب فـي ضوءِ دلالةِ كلٍّ منهما. فجـاءت دراسةُ الجملةِ العربية - ولاسيَّما في القرآن الكريم - موجَّهةً في ضوءِ دراسةِ المفردات وأحوالِها ، والبحث عنِ العامل فيها رفعًا ، أو نصبًا ، أو خفضًا ، فإنْ وُجِدَ فهْو الغايةُ ، وإلاَّ فيُصارُ إلى تقديره مع القول بِحذفه.
10. إنَّ القولَ بـ(الاكتفاء) – وهو الاقتصارُ على ما يُذكرُ من ألفاظٍ في نظمِ الجملة المكتفية ، دونَما حاجةٍ إلى ما سواه لدَلالةٍ مقصودة – فـي الجملةِ القرآنية ينفي القولَ بالحذف والتقدير فيها. فـ(( كلُّ مُقتَصَرٍ عليه كافٍ)) (1). كما يقولُ الإمامُ عليٌّ (عليه السلام).

11. إنَّ تسميةَ كلٍّ من برجستراسر ، وابراهيم مصطفى تركيبَ النداء ، نحو (يا محمدُ) ، وبعضَ المصادرِ المنصوبةِ ، نحو (تحيةً وسلامًا) ، و(صبرًا وشكرًا) بـ(الجمل الناقصة) تخلُّصًا من القولِ بالتقدير في كلٍّ منهما ، ليس بِمقبولٍ ، لأنـَّها ليست ناقصةً أصلاً. فمصطلحُ (ناقصة) يعني أنَّ ثَمةَ شيئًا يُحتاجُ إليه في هذه العباراتِ والتراكيب ، يُذكر أو يُقدَّرُ لتكتملَ ، ولا تكونَ بعد هذا التقدير ناقصةً. بِمعنى أنَّ تسميةَ هذه التراكيبِ - المكتفية بِما هي قائـمةٌ عليه - بـ(الجمل الناقصة) تصبُّ في جانبِ التزامِ القولِ بالحذف والتقدير. فـ(ناقصٌ) يعني (محتاج) ، و(التقدير) و(الزعم) يعنيان (تكميل ما نقص).
كما أنه لا تُقبلُ تسميتُها بـ(الصيغ الشاذَّة) ، أو (أشباه الجمل) تخلُّصًا من القول بالحذف والتقدير فيها ، كما يرى الدكتور شوقي ضيف. فمصطلحُ (الشاذ) يُطلقُ على ما هو نادرٌ أو فرْد. وليست هذه التراكيبُ ، أو الجملُ المكتفيةُ بنادرةٍ في الاستعمالِ اللغوي. فأُسلوبُ النداءِ واسعُ الدورانِ في العربية ، ومصطلحُ (شبه الجملة) على ضعفِه وإطلاقِه بِهَدْيِ فكرةِ العامل ، قد وقرَ في الأذهانِ أنه للظرف ، والجارِّ والمجرور بخاصَّة.
12. كلُّ جملـةٍ دُرست بـمنهجِ القول بالحذف والتقدير إنَّما هـي جملةٌ مكتفيةٌ لا حـذفَ فيها ولا يستقيمُ التقديرُ فيها. فهـو تضييقٌ للدَّلالةِ ، وتحديدٌ للقصْدِ ، وزيادةٌ على الكلامِ بِما ليس منه ، أو بِما لا يتجلَّـى من المعاني الإيحائية. والجملةُ المكتفيةُ أصلٌ بذاتِها ، لا فرعٌ علـى جملةٍ أصلٍ ، وفيها من الدَّلالاتِ الظلالية ، ومن المعانـي الشمولية الفضفاضةِ ما لا يكتنفُه تركيبُ الجملة غير المكتفية ، أوِ التي يُلزَمُ فيها التقديرُ.
13. ما جُعل مسوِّغًا للتقدير ، أو للقول به من عللٍ وأسباب ، لا يُمكنُ الركونُ إليه ، ولا يُمكنُ حَمْلُ نظْمِ القرآنِ الكريم عليه. فالتلازُمُ بين رُكنَي الجملة الاسمية (المبتدأ والخبر) ، أو بين رُكنَي الجملة الفعلية (الفعل والفاعل) - في أقصرِ صورها – والقولُ بأنه لا بدَّ منه ، أمرٌ غير مُلزِمٍ. لأنَّ من الجمل ما يُصاغُ ويأتي مكتفيًا بالمبتدأ وحدَه ، أو بالخبر وحدَه ، أو بالفعل وحدَه ، أو بالفاعل وحدَه ، لدلالةٍ مقصودةٍ ، عندما ترِدُ الجملةُ خاليةً من الإسناد ، أو عندما تُساقُ ولا يُرادُ فيها ذكرٌ للإسناد.

14. إنَّ نسبةَ القولِ بتقدير متعلَّقٍ به للجارَّ والمجرور ، أو الظرف الواقعِ خبرًا ، محذوفٍ وجوبًا – كما يُظنُّ – لأنه كونٌ مطلقٌ ، إلى المدرسة البصرية متمثلةً بِمعينِ آرائِها (كتاب سيبويه) ، إنَّما هي نسبةٌ غير صحيحةٍ ، وملفقةٌ. فالجارُّ والمجرورُ أوِ الظرفُ – عنده – بِمنزلةِ الاسمِ الواقعِ خبرًا عنِ المبتدأ. أي أَنه قائمٌ برأسِه ، لا متعلِّقٌ بخبرٍ محذوفٍ مزعومٍ ، لا حاجةَ للنظمِ والدَّلالةِ إليه.
15. إنَّ التقدير بحجةِ (اقتضاءِ الشرع) لا يمكنُ الركونُ إليهٍ. فالقرآنُ الكريمُ هو أصلُ التشريعاتِ وأساسُها ، وما فيه من نصوصٍ – لا من تقديراتٍ – هو الشرعُ نفسُه. فهذا التقديرُ يعدِلُ بدلالةِ النصِّ ويُغيِّرُها إلى جهةٍ أُخرى، ويقلبُ الأحكامَ ليجعلها – في طائفةٍ من النصوص - موجَّهةً لخالقِها وخالقِ مَنْ تجري عليهم.

16. لا يُمكنُ – بوجهٍ – حمْلُ بعضِ النصوصِ القرآنيةِ – بحجةِ التماثُلِ اللفظي – على نصوصٍ من الشعر العربيِّ. فالقرآنُ الكريمُ مستوى لغويٌّ خاصٌّ مستقلٌّ بنفسِه ، وله ضوابطُه ومعطياتُه. والشعرُ مستوى آخرُ مستقلٌّ بنفسِه ، وله معطياتُه. فكيف يرى هذا المقدِّرُ أنَّ ثَمةَ ربطًا يُذكر ، أو يُطمأنُّ إليه ، بين ورودِ كلمةٍ في نصٍّ شعريٍّ وتقديرِها في نصٍّ قرآنيٍّ لَم تَرِد فيه ، حمْلاً على ذِكْرها في ذلك البيت ، ولاسيَّما إذا كانت الأبياتُ المحمولُ عليها التقديرُ في النصِّ القرآنيِّ المدروس بِموجب القولِ بالحذف والتقدير مِما لا يُعرَف قائلُه ، أو مِما اضطربت نسبتُه إلى قائلٍ محدَّد ، أو مِما يتبادرُ إلى الذهنِ من مجرَّد سَماعِها أنـَّها مصطنعةٌ وموضوعةٌ ولا تَمُتُّ إلى الشعرِ بأدنى صلةٍ سوى الوزن والقافية ؟!!
إنَّ هذا الخلْطَ بين المستويَين اللغويَّين المتباينَين جعل من قواعدِ اللغةِ والنحوِ ما هو مضطربٌ متضاربٌ ، فجاءت بعضُ الأقيسةِ متصادمةً متناقضةً ، وذاتَ نتائجَ متباينةٍ. بل قد أدَّى هذا الاعتمادُ وهذا الخلطُ إلى دراسةِ النصِّ القرآنيِّ المقدَّسِ وتحليلِه بالنصِّ الشعري غير المقدَّس.


17. إنَّ تناولَ النصِّ القرآني - تحليلاً - بطريقِ التأويل الذي يقتضي إرجاعَ ظاهرِ النصِّ القرآنيِّ إلى صورةٍ لفظيةٍ يُزعَمُ فيها كلماتٌ ، أو جملٌ لا وجودَ لَها في هذا النصِّ ، وبِمنهجٍ عُرِف عند القدماءِ فانتهجه مَن جاء بعدَهم حتى سار عليه – تقليدًا – بعضُ المحدَثين ، بطريقةٍ عبارتُها: (وأصلُ الكلامِ كذا...) ، أو (وكان أصلُ النصِّ كذا...) ، أو (الأصلُ كذا...). وهو تناولٌ لا يختلفُ عنِ التأويلِ الذي يُرادُ به صرْفُ النصِّ عن معناهُ الظاهرِ إلى معنًى آخرَ أخفى منه ، أو تحليلُ النصِّ بِمعنًى بعيدٍ تَمامًا عمَّا يُلحَظ ويُدركُ ويستبطنُ من ظاهرِه. إنَّ هذا التناولَ تخيُّلٌ وظنٌّ وحدْسٌ ينطوي على جرأةٍ كبيرةٍ على كلامِ الله تعالى تبعدُ النصَّ القرآنيَّ - وهو الأصل - عن دَلالتِه التي سيق لَها. أما تأويلُه بِمعنى صرْفِه عنِ المعنى الملحوظِ من ظاهرِه – بغير المجاز – فهذا ما لا تقومُ له حجةٌ ، لأنه موكولٌ إلى الله تعالى ، وإلى مَن شاء أنْ يُطلعَه اللهُ تعالى عليه من الراسخين في العلم.

18. إنَّ الرحلةَ فـي النصِّ القرآني الكريم ، والبحث في الجانب النظري والعملي التحليلي لآياتِـه وجملِه ، وعباراتِه التي اكتنفتها تلك المصنفاتُ الجليلةُ ، والكتبُ القيمةُ في علومِ القرآنِ ، والتفسير واللغة ، والنحو. وإنَّ التدبُّرَ فيما وضعه أولئكَ الأعلامُ الأساطينُ أصحابُ تلك المصنفاتِ من قَـدْرٍ وافرٍ من التحليلاتِ والتفسيراتِ والقواعد وما تفرَّع إليه كلٌّ منها ، والوقوفَ على مدى العقليةِ المتوقِّدةِ التي حاولتِ الولوجَ – ما استطاعت – في كلِّ ما يحتملُه النصُّ القرآنيُّ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى