الميلودي شغموم - لوز السعدية بني النجار

هذه حكاية البني التي تأكل الزجاج الملونة و تخرجها قناني بيضاء:السعدية بنت النجار!
كان أبوها مختصا في استرجاع بقايا صناديق الخضر و الشاي ليصنع منها صناديق للزينة أو خزن ثياب المناسبات و الحلي٬ أي كل ما جميل و ثمين٬ كان « يخرج العجب من يديه!»

و كانت هي أول عجب صنعه:«الطولة٬الرشاقة٬و السر٬و الملحة!».لذلك٬و بمجرد ما بدأت تظهر عليها علامات النضج٬ تسارع الرجال إلى خطبتها من والدها الذي كان عليه أن يبتدع عشرات الاعتذارات لعشرات الرجال:
- « الزين حبه الله ٬و لا حياء في الدين!».
لكن:
-«الزين بلية٬الله يكون في عون مولاه٬لا يصاب إلا الجميل!».
و في كل مرة تتذرع البنت لأبيها٬ و يتذرع الوالد للرجال٬ بأنها تريد استكمال تعليمها٬ فينتظر البعض:
- اللهم اجعلها من نصيبي٬ يا رب!
و يثور الآخر:
- لكن التعليم يحتاج إلى عمر٬ ستشيخ قبل أن تنهيه٬ و قد يخطفها في الطريق متعلم مثلها!
و كأنها تتعمد أن يطول هذا التعلم العمر كله٬ فهي لا تقضي في الفصل الواحد أقل من سنتين٬ تنتقل غالبا إلى الفصل الأعلى بما كان يسمى "الأقدمية"٬ بينما تزداد مفاتنها فتنة٬ و يزداد عقل الرجال خفة٬حتى الأطفال و العجزة منهم!
- إلى ماذا تطمح بنت النجار؟
أقصى ما تستطيعه هو أن تصبح معلمة أو ممرضة ٬ فلم كل هذا التأني ٬ إضاعة أجمل أيام العمر؟ لم لا تختار واحدا من هؤلاء الرجال الأقوياء ٬بجيوبهم و عضلاتهم ٬ لتستمتع بالحياة في عنفوانها٬ و تربي أولادها و هي في قمة قوة الشباب٬ لماذا تنتظر و كأنها موعودة بأمير٬ كأن التعلم سيغير اسم أبيها ٬ كأن أقوياء هذا البلد علماء:لمن تتعلم إذن ؟
السر الحقيقي في رأس البنت ٬ ولا أحد يستطيع أن يفتح هذه الرأـس ٬ ولا والدها نفسه الذي أعياه الأمر٬ فصار يجيب الخاطبين٬ من غير أن يستشيرها :
- البنت مصرت على استكمال تعليمها٬ و لا أستطيع أن أعصي الله في أمرها!
و صار الناس يكرهون النجار ٬ يحتقرونه ٬ و ينعتونه بكل الأوصاف القبيحة٬ لأنهم لا يستطيعون أن يكرهوا بنته الجميلة!
و صلت البنت إلى المتوسط الأول٬ و هي في السادسة عشرة من عمرها الجميل٬ فانفتحت شهيتها أكثر للتعلم٬ و أصبحت من الأوائل في فصلها٬ حتى في الحساب الذي كانت لا تفرق فيه بين العشرة و المائة و كانت زميلاتها تجد فيه واحدة من أحسن المناسبات للسخرية منها:
- السعدية ترى أن الفرق بين العشرة و المائة صفر فقط!
فترد السعدية بابتسامة و هي تفتح صفحة من رواية لفوبير٬ أو ستندال٬ أو جورج صاند٬ غير عابئة بعبث البنات:
- و الله ما كاين غير صفر!
و لما رأينها تتغير فجأة إلى حب ما كانت تكرهه٬ و منافستهن فيه٬ سرى بينهن الخوف و القلق٬ و بسرعة تحول هذا القلق إلى كراهية :لقد أصبحت تطلب نفس الشيئ ٬ و بنفس الطريقة ٬ فأصبحت مثلهن بعد أن كانت مجرد ٬
" كسولة حالمة بجمالها وحده "!
و أسرت لزينب٬ صديقتها الوحيدة٬ التي كانت تدمن الشعر:
- لم أتغير٬ كما ترين و تعلمين٬ فقط الوالد تعب٬ صار يصنع صناديق كما اتفق٬ بلا رغبة و لا صنعة٬ و يجب أن أحصل على الشهادة الابتدائية ليستريح : منصب معلمة يكفينا مؤقتا !
حصلت على الشهادة الابتدائية٬ و هي في الثامنة عشرة ٬ فازداد تسابق الرجال عليها من جديد ٬ بعد أن كان قد خف في السنتين الأخيرتين:
- البنت مصرة على الوظيفة ٬ و لا أستطيع أن أعصي الله فيها ٬ و لا أن أغضب أمها في قبرها!
و عينت في ملحقة على بعد سبعة كيلومترات٬ ثم التحقت بمركزية البنات بعد عام ٬ ثم مرعام وتلاه عام آخر و الخاطبون يستعجلون ٬ و يتحسرون لأنها في نظرهم شجرة تعطي أجمل الثمار ٬ لكنها شجرة تتلف ثمارها من غيرأن يستفيد منها أحد٬ نشاز في الطبيعة:

- و ماذا أستطيع أن أفعل لكم٬ أنا مريض بالسكر و ارتفاع الضغط٬لا حول ولا قوة٬ هي الآن سيدة الشأن٬ و هي لا تريد أن تتزوج الآن!
- سحاقية٬ هي و زينب٬واضح!
و شعر العديد من الرجال أنها استغفلتهم٬ ضحكت بذكائها الصغير على كل الأذكياء:
- و كيف لم ننتبه٬ من قبل٬ إلى هذا الأمر الواضح٬ أليس هو ما يفسر كراهيتها للرجال٬ و تفضيلها لصحبة النساء٬ و ماذا تفعل امرأة بمثل هذا الجمال مع امرأة في مثل بشاعة زينب؟
بعد هذا صار كل شيء قابلا للتصديق و التضخيم:
- زانية ٬ تنام٬ منذ صغرها٬ في فراش واحد مع والدها النجار٬ الزانية بنت الزنى!
و ما بقي واحد٬من هؤلاء الرجال٬ لم يرها في فراش والدها ٬لم يرها في ... حتى بعض النساء تدخلت في القضية بالتضخيم و التحريض: شاهدن ما حكي أو حكين ما سمعن فشاهدنه!
هكذا تم تجنيدنا٬ الأطفال٬ضد النجار الفنان و بنته الجميلة٬ المحبة للرواية ٬ فتسلطنا عليها تسلط الجراد ٬ و كسبنا الحرب٬ كالعادة٬ التي لم يستطع كسبها الرجال:كم يخجل الطفل البريء من نفسه٬ عندما يكبر٬ وهو يذكر مثل هذه الحماقات الخرقاء!
لقد منعهما "الجراد"٬نحن٬ من الخروج من البيت ٬ كانت اللعنات و البصقات و الحجارة تطاردهما في كل مكان ٬ ثم هددنا البيت عليهما ٬ و لم ينقذهما إلا تدخل المخزن في آخر لحظة!
ثم طالب المخزن بدوره بحقه في القصاص من المجرمين:محاكمة النجار و ابنته بزنى المحارم٬ و محاكمة السعدية و زينب بممارسة السحاق!
و لولا دفاع محام كبير من العاصمة٬ عينته امرأة فرنسية ناشرة كانت زينب قد بعثت إليها بمسودة رواية ٬ لأصبح الثلاثة عبرة كاملة٬ أو جريمة مثالية!
حكم على الرجل و بنته بثلاث سنوات نافذة٬ و على زينب بسنتين٬و قد برر القاضي ذلك بعبارة لم نفهمها في وقتها:
- حماية لهم من تسلط الجراد!
فقد كانت بعض أسراب الجراد تتسل بالفعل إلى المنطقة !
مات النجار في السجن قبل نهاية سنته الأولى !
خرجت زينب٬ بعد انقضاء سنتين ٬ و قد تضاعفت سمنة٬ لكنها٬ بدل أن تذهب إلى بيت أهلها٬ سكنت بدار النجار الخربة لا تخرج منها و لا يدخل إليها أحد ٬ إلا بعض النسوة اللائي كن يأتين إليها خلسة ببعض الطعام!
ثم خرجت السعدية ذابلة٬منهكة٬ هزيلة٬رثة كأنها لم تكن قط تلك الفتاة ٬ ثم المرأة ٬ بنت النجار الفنان التي دوخت كل الرجال بحيث لا يوجد رجل صغير أو كبير لم يكن يريدها زوجة ٬أو خليلة٬و لا يوجد رجل لم تهنه في ذكورته المتكبرة:ماذا يمكنهم الآن أن يشتهوا في هذه المرأة- الخرقة البالية؟
- ماضيهم٬ أو صورتهم٬ ظلهم٬ خيالهم المهشم٬ ضميرهم٬ ما زال هناك طامعون فيها؛ تفاهة أو حمق٬ تختلف٬ تقول الفرنسية!
و صارت تجلس على عتبة الباب ٬ مع زينب٬ زينب تكسر لها الزجاج٬ و هي تأكل قطع الزجاج الملونة٬حتى سمي الزجاج عندنا:« لوز السعدية بنت النجار»!
و شاع أنها تلفظه في شكل قناني بيضاء٬ناصعة البياض٬ فانتظرنا٬ و تلصصنا من أجل أن نرى تلك القناني الناصعة البياض٬ فلم نستطع ملاحظة ما خرج بالفعل من تلك الخربة: دار بيضاء٬ناصعة البياض٬تتوسطها كرمة تتدلى منها عناقيد العنب طوال السنة٬و الخربة لا تزال في مكانها!
آنئذ بدأ الكثيرون٬ رجالا و نساء و أطفالا٬ يفكرون في زيارة هذه الدار البيضاء و الكرمة التي لا يسقط عنبها و لا يجف٬ لكنهم ظلوا خائفين من السعدية التي تأكل الزجاج٬ طول النهار٬ على العتبة٬حتى صار الناس يأتون فرادى و جماعات٬و منهم أجانب٬للتفرج على هاتين المرأتين:واحدة تقشر الزجاج و الأخرى تحليه في بطنها إلى قناني!
كبرت معنا هذه الحكاية ٬ أما نحن فلم نكبر!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى