حاميد اليوسفي - بنت بائع النعناع

رأيت النور في القرية ، أكبر أحياء المدينة وأفقرها . كل يوم ننام ونستيقظ على جريمة . والدي ينهض مع الفجر ، يُصلي ويذهب إلى السوق . يشتري النعناع ، ويحمله خلفه على الدراجة ، ويطوف كل الأزقة والدروب ، ولا يعود إلى البيت إلا بعد صلاة العصر . تفتح له أمي الباب ، ويناولها كيسا من الليمون . أجري نحوه ، يقبلني ويحملني ويضمني إلى صدره ، ويخرج لي تفاحة حمراء من جيبه.
بدأت أكبر . أخذتني أمي إلى روض الأطفال بالقرب من المنزل . انفتح قلبي وعقلي للحروف والكلمات والأرقام .
ألعب مع أقراني أمام البيت ، وعندما نختصم ، يقصفونني ببنت بائع النعناع.
سألت أمي :
ـ هل بيع النعناع سُبّة ؟
قالت وهي تُقبّلني :
ـ إنه عمل شريف مثل باقي الأعمال ، لكن دخله على قد الحال .
دخلت المدرسة الابتدائية . ازداد الضغط أكثر ، وبدأت تكبر معي لعنة بيع النعناع . ما زلت صغيرة على فهم هذه الأشياء . أنقذني عشقي للحروف والكلمات والأرقام والخطوط من الغرق في بئر بلا قاع . تعودت الحصول دائما على المرتبة الأولى . المدير والمدرسون والمدرسات ينادونني باسمي الشخصي ، ويربتون على كتفي ، فأشعر بالفخر والاعتزاز . أحسست بأنهم مثل أمي وأبي . يعترفون بالجهد والعمل .
أيام الامتحان تغمرني سعادة لا حد لها . كأني أنتقم لأبي ولبيع النعناع عندما أحصد أعلى النقط ، وأحتل أولى المراتب .
كلما كبرت أكثر ، ازداد الضغط أكثر . في الإعدادي والثانوي ، أصبحنا أربعة إخوة ، بنتان وولدان . تعقّد الوضع . نظّمت وقتي . تعلمت عمل المنزل . في كل مرة تضع أمي مولودا جديدا أُعوّضها في تنظيف البيت ، وغسل الأواني والطبخ والعجين . بعد ذلك أتقنت بسرعة عجن وطهي (الحرشة)* ورغيف (المسمن معمر بالشحمة)* ، وبيعه في الدرب . أصبحت أتوفر على دخل خاص من عرق الجبين . وجدت متعة في أن أعمل وأقرأ وأصرف على إخوتي ليتعلموا مثلي .
بدأت رائحة الدهون كلعنة جديدة تطاردني داخل الثانوية . صديقاتي وأصدقائي في القسم اخترعوا لي اسما جديدا (مسيمنة) . تقبلت الإهانة الجديدة بعين تدمع وقلب يتقطع .
بعض زميلاتي وزملائي في الثانوية يتبادلون علامات الإعجاب في (التيك توك) ويرقصن على صوت ذلك المعتوه الذي يجلس أمام باب الدرب وتمر به "ساطا عندها فصالا كتجذب".
وتكتمل الباهية* عندما يفتح أحدهم الهاتف على فيديو فيرقص ويردد مع معتوه آخر
"أح أح ، لا زهر لا ميمون ، يلعن بو الزين ، وتعالي حدايا ، ناري وعنقيني".
لم أنزع سروالا ، ولم أفتح قميصا عن صدري ، ولم ألتقط فيديو لهز مؤخرتي . حلمي أبعد من ذلك بكثير . لن أقبل بأقل من طبيبة أو مهندسة . بيني وبينكم الزمن والحروف والأرقام والخطوط ورائحة (المسمن) . أعود إلى البيت في الليل ، أذاكر إلى ساعة متأخرة ، وأستيقظ مع الفجر ، أعجن وأطبخ ، وأبيع في وقت الفراغ (الحرشة) و(المسمن) ، وآتي إلى القسم ورائحة الدهون تمتزج بدمي وتفوح من يدي وثيابي . حذفتم اسمي الحقيقي ، ووضعتم أسما آخر محله . ابتسمت بتجلّد . بكيت ضعفي أمام الله ، وتمنيت لو طالت فترة الامتحانات دهرا بكامله .
أنا عائشة بائعة (الحرشة) و(المسمن) ، وابنة بائع النعناع وأفتخر . أقسمت حتى أغيظكم ، وأجعل المغرب كله يتحدث باسمي ، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ، وأجعل كل أم وأب يتمنيان لو كنت ابنتهما .

المعجم :
ـ (الحرشة) : أكلة شعبية على شكل خبز من دقيق الدرة والزيت والزبدة ويعجن بالماء ويطهى فوق مقلاة ساخنة .
ـ ( معمر بالشحمة) : عجين رقيق من دقيق القمح والزيت والزبدة محشو بالشحم والفلفل ، يطهى فوق مقلاة ساخنة أو في الفرن .
ـ (ساطا) : فتاة / فصالة : بنية جسمية
ـ الباهية قصر بناه الصدر الأعظم بّا احماد لخطيبته لكنه مات قبل أن يكتمل بناؤه ، وأصبح بد ذلك مضرب المثل .
ـ (حدايا) : بجانبي .

مراكش 15 يوليوز 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى