باسم السعيدي - دموع كافكا

كنا كاغصان شجيرة الدراق نحن الثلاثة ،لم نكن نفترق منذ خيط شعاع الشمس الاول،نتسلم نحن زمام هذه الارض بل وحتى السماء نتقاسم اطعام سكان المجرات القريبة من درب التبانة ،بانتظار غودو الراحل الذي لن يستفيق من نومته الابدية.

نفتعل الحروب في مشارق الارض ومغاربها ،ونحتسي كل الاكواب التي اوجدتها قريحة شعراء سعار الشبق اللولبي الذي يمتد من خلايا تحليل المذاقات في تلافيف امخاخ البشرية نتسلم بايادينا المتكورة آذان الفناجين ونسطر ملاحم شرب القهوة في مملكة رذيلة البطالة.
كان كافكا سائق باص المدرسة نفسها التي درسنا فيها نحن الثلاثة وكان تعبا جدا من طلبات الامهات التي لاتنتهي الا بثقب في الذاكرة ،تلك الهبة التي منحنا اياها الله ليستريح كافكا.
غريغوري ،نحات الخرز الذي تلامس انامله بقايا قلادات الصغيرات، تلك التي لامست كل رقاب نساء العالم بلا استثناء ليحيلها الى كلمات غير مفهومة ،في قاموس التكعيب المنسلخ عن الواقع الذي تلاحقه ماديات العالم بلا كلل وهو يهرب منها بفكره الخرف الذي ينبض ابداعا.. كانما موهبته الخرف، وخرفة الموهبة وتتالق بين هذه وتلك كل ابداعات تصنيع الكلمات غير المفهومة، التي تتحدث بطلاقة لا الى اذنيك بل تداعب حسا خفيا فيك لاتدرك ماهيته بقدر ما تتلذذ باكتشاف الجمالية التي تكمن في الكينونة التي ابدعها غريغوري.
وانا لست سوى صعلوك جرب كل انواع القبلات واستهوته فكرة التلاعب بمخيلة خصبة تخترق الحياء الانثوي لصعلوكة تظن انها اميرة فقدت مملكتها في حروب غابرة نسيتها اقلام المبدعين الذين ارخوا لقوة لوكريس بورجيا او الريشة التي ابقت على ابتسامة الجيوكوندا عبرالقرون اميرة منسية ترزح تحت نرجسية لانهائية تكمن بين رمشين يرغبان جدا بان يوصفا بالجمال لست سوى ذاك الذي خذلته حبيبته عند جسر الاحرار ذات يوم وغابت في دهاليز شارع النهر تتنقل بين سراديب المحال المغلقة على نار الشياطين، لتضع بين طيات ثيابهامجموعة ملونة من الاوراق .. لم نفهم كنهها نحن الثلاثة.
لست ادري كيف انبثقت الفكرة ففي يوم واحد خرجت لاعنا كل فم قبله لورد بيرون وثارت ثائرة غريغوري على عالم الاسطورة المغمغة بكلمات السحر التي تنطلق بها جمادات غريغوري واخرج كافكا بوقا واخذ يزعق به في وجوه الامهات اللاتي يمتهن التقريع ،وركل مؤخرة الباص وغادر الى غير رجعة .
جلسنا نحن الفاشلين الثلاثة على قارعة الطريق فوق ارصفة الباب الشرقي المتكسرة نحتسي تلك الاكواب اللعينة التي ما ان تعمل حتى تصبح اسرع من الضوء في مسابقة محمومة بين الواقع والخيال .
كان ذلك اللاوعي هو دليلنا الوحيد في رحلتنا تلك، لاادري احقيقة ام خيالا ما حصل كانت الشاحنة تنهب الارض متوغلة في حقول خضراء لانهاية لها وكنا متكومين كالنفايات في القفص الحديدي الكبير، المحمل بما لانراه بعيوننا ،لكننا كنا نشم الرائحة النتنة المنبعثة منه .
لم نعرف المنطقة التي انزلنا فيها السائق، بعد ان ادرك وجودنا في قفصه النتن، لم نتوه، بل مشينا باتجاه نعرفه تماما دون ان نراه قبلا، كافكا على غير عادته، كان يضحك ملء شدقيه، كأنه يضحك من الصحبة، وغريغوري كان يضع منشفته التي يبللها بين الحين والآخر من السواقي على رأسه المبلل اصلا، وانا كنت اضع الهيدفون، واستمع الى اغاني آبا، دانسنغ كوين، كنت اشعر بانني اراقص ملكة، ليست ماري انطوانيت على اية حال، لكنها جميلة، رقصنا حتى ابتلت اجسادنا من العرق، وربما لهذا كان كافكا يضحك، فهو لم يرني سعيدا هكذا منذ امد بعيد، لايسألني احد كيف دخل الى هذياني العقلي، وعرف بأني ارقص، فكافكا يمتلك تلك الموهبة منذ نعومة اظفاره.
جلسنا على حافة النهر، خلعنا ملابسنا وسبحنا، لكن كافكا لم يفعل، بدأ عليه التهجم الذي يعتريه كلما قرر ان يجتاح بجيوشه مملكة اخرى.
شهدنا انا وغريغوري غروب الشمس، شهدنا بأم اعيننا كيف ذابت الشمس في النهر، تماما كما تذوب مكعبات السكر في اكواب الشاي.
كافكا ضم تحت جناحه اوراقه التي لملمها بصعوبة بسبب الظلام الذي دخل على قلوبنا قبل ان يزحف على طيات النهار التي ابتلعها بنهم غريب.
حين عدنا الى الشقة التي تنال اجسادنا فيها حقوقها الكاملة، لم يفعل كافكا، بل خرج ولم يقل الى اين، حرنا في امر كافكا، لعنة الله عليه، قال غريغوري، اظنه سيشن حربا لا هوادة فيها، قلت انا.
جاء بعد منتصف الليل، مسرورا، ايقظنا عنوة، مع اننا لم نكن نياما، خرجنا من اسرتنا.. كما يخرج الفرخ من البيضة، لانعي شيئا مما يجري، هذا اللاوعي الي صار هوسا.
لنخرج فانا ادعوكم الى عشاء فاخر، قال كافكا.
اخذنا ننظر الى بعضنا انا وغريغوي، لم نفهم شيئا، فكافكا لم يفعلها الا في عرس امه، وحين اكتشف رجولته في المرة الاولى.
نهضنا نتراكض لنرتدي ملابسنا قبل ان يغير رأيه، كانها حلوى العيد، يوزعها كافكا، وقد تنفد في اية لحظة، ان لم نلحق.
اكلنا كبة فتاح، وشربنا البيبسي، وبقينا نغني تحت نصب الحرية، حتى بدت ملامح وجه اليوم الجديد، ركضنا الى شقتنا، كما كان يفعل دراكيولا خوفا من ان تطلع عليه الشمس، فيحترق.
دس راسه كافكا تحت اللحاف، يصدر صوت الشخير، لكننا نعلم انه يمثل الدور بعناية، فهو لم ينم بعد.
لماذا هذه العزومة الدسمة.. قلت أنا؟
هل نطمع في غيرها؟.. قال غريغوري.
ارسلت الى الطبع قصتي الاولى والاخيرة.. قال كافكا.
الم اقل لك انه سيشن حربا جديدة؟.. قلت انا.
تاخرنا في النوم صباحا، فليس لدينا ما نفعله بعد ذلك اليوم الذي اعدنا فيه تفصيل الثوب الجديد لهذا العالم.
استيقظت قبلهم، جلست احتسي الشاي واضعا قدمي فوق المنضدة الخشبية التي رافقت الملك آرثر في حروبه التي دافع فيها عن كاميلوت تلك التي يدعونها المائدة المستديرة، لكنني ذهبت الى اقرب نجار وجعلتها ثلاثية، فنحن الثلاثة يستحق كل منا ان يكون ملكا، على راس مائدة ليست مستديرة، اعتقد اننا نحن الثلاثة اردنا ان نغيير وجه التأريخ بفعلنا هذا مع المائدة جلس كافكا قبالتي وهو يفرك لحيته بعد تحية الصباح الذي بدأ دون علم منا، فقد اخذنا على حين غرة، بينما كنا نياما.
كنا ننظر كلما جلسنا الى الركن الثالث... الذي يكمل اضلاع مثلث الوجود، كافكا وغريغوي، وانا.
غريغوي تأخر في نومه، لم نوقظه، لكننا كنا نفتقده على المائدة.
بعد قليل سمعت صرخة مكتومة اتت خجولة من غرفة غريغوي.
ذهبت اليه، دفعت الباب لاتفقد هذه الصرخة، وجدت غريغوي وقد تحول الى خنفس او جعل او سمه ماشئت، وهو لايصدق عينيه، كما لم اصدق انا عيني. صرخت ايضا.. ماذا تفعل؟.. ما هذا الهراء، كيف فعلت هذا؟ هذه نكتة سمجة.. عد الى حالك الاول.
لكن غريغوي وقف حائرا، لم يفهم شيئا، حاول بجهد ان يفهم مني ماذا يجري، لكنني التفت الى كافكا الذي كان واقفا مثلي ينظر الى غريغوي وهو مذهول، لكنه بدأ شاحبا، كالموتى، او كزهرة عباد الشمس، وعاد الى جلسته ما هذا الذي حدث؟، قال كافكا، وما زال يحدث نفسه.. وكيف.
ركضت انا الى غريغروي اخذت اتفحص جسده،كيف فعلت هذا؟قلت له.فقال لي وكانه يريد ان يستيقظ من كابوس مرعب،اقرصني كي استفيق قلت له .. ومن سيقرصني انا؟
نظرنا سوية الى كافكا ،متهالكا على مقعده المعهود كان يريد ان يلتقط انفاسه دون جدوى.
قلنا له ..ماذا يجري؟
لم يجيب كافكا بل لم ينظر الينا حتى ذهب ينظر في المرآة نظر الى عينيه مباشرة لكنه لم يعرف نفسه.
من هذا؟ قال كانه يسالنا معا.
نظر الى يديه .. ثم اقبل على غريغروري وقال له.. وان يكن .. سنستانف حياتنا كما كانت.
انت مجنون ؟قلت له فلننتظرلعله حلم وينتهي قال غريغوري . لكن كافكا بدأ ينظر الى ارجل غريغوري الكثيرة والى فمه غريب الشكل والى عينيه المركبتين.
بدأ واجما كافكا بينما بنتظر غريغوري اي مخرج من الورطة تلك التي لم تخطر على بال احد نظر الي باستعطاف لم انتظر يوما من ذلك الفنان المبدع النحات الذي يجعل الجمادات تنبض بكل الحس العالي والفن والجمال لم انتظر منه ابدا نظرة الاستعطاف تلك.
لطالما كنت قويا قلت له ،لطالما كنت قويا تمتم كافكا مع نفسه مرة اخرى.
بدأت لمعة غريبة تظهر في عيني كافكا.
اخذنا ذلك البريق انا وغريغوري كنا ننتظر منه رأيا اقتراحا اية خطوة الى الامام. لكن بات من الواضح ان اية خطوة الى الامام لايملكها اي واحد منا نحن الثلاثة.
ما هي الا لحظات حتى فهمنا ذلك البريق في عيني كافكا لقد كانت دموعا بهرنا كافكا هذه هي المرة الاولى في حياتنا التي نراه يبكي ما هذا الذي يجري؟
ذهب كافكا الى غرفته خرج شاهرا مسدسا قديما ورثه عن ابيه نظر في عيني غريغوري واطلق رصاصة واحدة على راسه وسقط سابحا في بركة من دمه مضت سنون على ذلك اليوم ومات كافكا لسبب لم نفهمه لكن غريغوري ظل على حاله وبقيت انا معه .
بدلا من النحت ،بات غريغوري يقول الشعر وانا ادون له قصيدته الاولى كانت مرثية لكافكا
اسمها دموع كافكا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى