أمل الكردفاني- الرشد كقمع للرغبة

✍ *.._*


"إن الحضارة قد جرَّمت ما هو في الطبيعة شيء بريئ"
~Max Nordau ~

إن الرشد ليس سوى قمع للرغبة. وهو قمع تفرضه الأولويات، كما تفرضه الحضارة كما تشير مقولة نورداو أعلاه. ومعنى ذلك أننا نتخلص من سعادتنا لأن السعادة هو شعور متنامٍ بالقوة، وهذا ما نفقده بسبب الحضارة. إن الرشد هو الضعف، حيث يتم شرعنة الضعف بالعقلانية تارة وبالتسامح تارة أخرى وهو ما رفضه نيتشه في "ضد المسيح".

نحن نتخلص رويداً من سعادتنا الطفولية،من شراء الحلوى والآيسكريم، نتخلص من رغبتنا في المغامرة وخوض تجارب حب قاسية، ونتخلص بسبب النظام الاجتماعي والثقافي والسياسي من رغبتنا في تتبع رغباتنا الشغوفة تجاه الفن والأدب.
باختصار؛ فإن الرشد يقتل السعادة فينا، ومن الخطر أن يصبح الرشد متلازمة تتشابك بالحزن والقسوة والتقييم النفعي المادي. هذا ما توجهنا نحوه الليبرتارية من حيث تريد أن تمنحنا الحرية المطلقة. الحرية حيث لا نظام، لأن في النظم أيضاً جانب عاطفي وأخلاقي. مع ذلك فإن الرشد هو النظام والحرية ضد النظام، الحرية تعني انسحاب النظم من مواقعها وإخلائها لحساب قانون السوق، وقانون السوق بهذا لا يكترث للأخلاق ولا للعاطفة الإنسانية كثيراً. وهكذا يحدث التعارض داخل الليبرارية نفسها، إنها لا تحرر، بل هي على الأرجح تعين على قمع الرغبات، لذلك فهي أسوأ -في حدودها القصوى- من العبودية. وإذا كان النهج الطبيعاني يبدو ليبراليا -كما يشير نورداو- فهو إذا يتفق مع الحرية بل أن أساسه هو الحرية، وهنا نقع في تلك الدائرة اللا متناهية، ونعود لنتساءل حول: السعادة والحرية، الرشد والحزن، الرغبة والقمع.
الليبرتارية تتحرك اليوم لضرب النظم الاجتماعية من خلال الحريات (الاجهاض، المثلية، النسوية،..الخ). ولكنها في المقابل يجب أن تتخلى عن كل النظم المقيدة لقانون السوق، وهنا إما أن تتخلى عن تلك الحرية أو تعرض ضحاياها للعبودية، والعبودية ضد الحرية نفسها أي ضد الليبرتارية. لذلك تبدو هذه الآيدولوجيا في حالة اضطراب وتوهان كبير.
لكننا نعود إلى الرشد، إلى الحزن المشرعن، والقمع الأخلاقي للرغبة، حيث تُمنح الشرعية والأخلاقية من خلال التوافق الجماعي على المصطلحات، هذه الأخيرة التي تعمق الشرعنة والأخلاقية من خلال البعد النفسي والسلوكي. في المقابل يُمارس قمع عكسي من خلال مصطلحات، كالبربرية والهمجية والتخلف وحتى الفجور والعهر على الانفتاح الذهني والتحرر السلوكي.
أغلب علماء الاجتماع والانثروبولوجي يعتمدون على ذلك القمع من خلال ذات المصطلحات لتشييد طبقات ثقافية تاريخية، للتمييز بين المتحضر والمتخلف والبدائي، وهو سياق متعسف يستخدم بدون وعي من قبل أولئك العلماء لأنهم هم أنفسهم ضحايا لذلك الضبط الاصطلاحي. لقد أشرنا إلى ذلك قبل أكثر من خمسة عشر عاماً حينما تحدثنا عن الدين كنموذج أعلى للحضارة، الحضارة كقيد على الانفتاح والحرية، في قضايا الجنس والإجهاض واللباس العام، وباختصار ما يمكن قوله من أن الحضارة تنقل العام إلى الخاص، في حين تفعل البدائية العكس تماماً، إذ تنقل الخاص إلى العام. ويبدو بدون شك أن الحضارة تقيد الحرية في حين أن البدائية تزيد من نطاق الحريات. لكننا عندما نصل إلى هذه النقطة، فإننا نصل إلى عصر سطوة الليبراترية، وبالتالي فإن علينا أن نعترف -وفق معيار الحرية- بأن حضارتنا الراهنة هي قمة التخلف الإنساني، وأن المجتمعات القديمة كانت في قمة تحضرها، وهذا سيكون مرفوضاً، وخاصة من قبل النخبة البرجوازية التي تنادي هي نفسها بالليبرتارية كآيدولوجيا تنتمي للطبيعة. هنا قد يكون اللجوء إلى التبريرات القانونية ناجعاً لفترة مؤقتة، أي الفترة التي تلجم فيها نظريات العقد الاجتماعي والدستور ومقولة أن حريتنا تنتهي عندما تبدأ حريات الآخرين، كل منتقد. لكن في الحقيقة فإن كل ما سبق من نظريات ومقولات لا تعني أكثر من كونها اعتماد مفاهيم ضد الطبيعانية نفسها. فنحن إما أن نقبل بالقيود أو نرفضها كما يقول المنظرون المدافعون عن الليبرالية الكلاسيكية أمثال فريدريك باستيا. وهنا فما المانع من قبول كل قيود أخرى متفق عليها حتى لو تضمنت قيوداً اقتصادية ستفضي في النهاية إلى ضرب الليبرالية الكلاسيكية في مقتل. وفي كل الأحوال فإن قبولنا بكل تلك القيود الاجتماعية تعني تخلينا عن الفردانية وهي عصب التحرر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى