ألف ليلة و ليلة داود سلمان الشويلي - (اسطورة "جودر" والتحرر من سلطة الأم - دراسة تحليلية في تأثير أسطورة الصياد "جودر" في الأدب). (2) أسطورة جودر و"ما هي الحقيقة؟"

(2) اسطورة جودر و"ما هي الحقيقة ؟"

في الدراسة السابقة درست فيها إحدى الحكايات الألف ليلية التي تقدم عقدة نفسية/إجتماعية كما هي عقدة أوديب، وعقدة أليكترا، في الحضارة الاغريقية والتي أصبحت عالمية، وهي عقدة "جودر" في حكاية "جودر الصياد ابن عمر وأخويه" هذه العقدة هي عقدة قتل الأم، والتي تقف مقابلاً لعقدة أوديب الاغريقية التي تأسس لقتل الأب، ومتشابهة لعقدة "اليكتر" وشقيقتها "اورست" لقتل الأم. وقد تم إكتشاف هذه العقدة أثناء قراءتي لليالي لأجل الدراسة في تسعينيات القرن الماضي(1).
وتطبيقاً لهذه العقدة، درست في كتابي ذاك رواية نجيب محفوظ "السراب" إستنادا على هذه العقدة ذات الجذور العربية، وتوصلت الدراسة إلى أن هناك تطابقاً بين شخصية بطل "السراب" كامل رؤبه لاظ، وبين بطل الحكاية "جودر"، من حيث التحرر من سلطة الأم بعد قتلها "مجازا"، والعيش كشخصية سوية في الحياة بعد التخلص من تلك السيطرة.
في هذه الدراسة سنقدم تحليلاً لحكاية "ما هي الحقيقة؟" التي وردت في كتاب "حديث مع الكواكب/ص49" للكاتب توفيق الحكيم مع عقدة "جودر" لنعرف مدى تطابق البطلين وهم يتخلصون من سلطة الأم، نفسياً واجتماعياً، ولكي نقرأ الأسباب التي دعت البطل لقتل الأم حقيقة لا قتل شبحها. اذ يتنوع القتل في الروايات حسب توجه وذائقة الكاتب.
ان قتل الأم في حكاية الليالي "عقدة جودر" يأتي بشكل مجازي، وليس على الحقيقة، كما بينا ذلك في دراستنا لها. اذ أنه في حكاية الليالي يقتل "جودر" شبح أمه الذي يلاقيه تحت ماء النهر خلف الباب السابع(2)، وعند مقتلها "ضربها بالسيف" ينفتح أمامه مكان الكنز الذي من خلاله يصبح ثرياً، ويتزوج من ابنة الملك.
في أسطورة"جودر" يقول التاجر المغربي لجودر:((اعلم أنني متى عزمت ألقيت البخور نشف الماء من النهر وبان لك باب من الذهب قدر باب المدينة بحلقتين من المعدن فانزل إلى الباب واطرقه فإنك تسمع قائلاً يقول:من يطرق باب الكنوز وهو لم يعرف أن يحل الرموز؟فقل أنا جودر الصياد ابن عمر فيفتح لك الباب ويخرج لك شخص بيده سيف ويقول لك:إن كنت ذلك الرجل فمد عنقك حتى ارمي رأسك،فمد له عنقك ولا تخف فإنه متى رفع يده بالسيف وضربك وقع بين يديك وبعد مدة تراه شخصاً من غير روح وأنت لا تتألم من الضربة ولا يجري عليك شيء.وأما إذا خالفته فإنه يقتلك.ثم إنك إذا أبطلت رصده بالامتثال.فادخل حتى ترى باباً آخر فاطرقه يخرج لك فارس راكب فرس وعلى كتفه رمح فيقول:أي شيء أوصلك إلى هذا المكان الذي لا يدخله أحد من الأنس ولا من الجان؟ويهز عليك الرمح، فافتح له صدرك فيضربك ويقع في الحال فتراه جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك، ثم ادخل الباب الثالث يخرج لك آدمي وفي يده قوس ونشاب ويرميك بالقوس فافتح له صدرك ليضربك ويقع قدامك جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك ثم ادخل الباب الرابع واطرقه يفتح لك،ويخرج لك سبع عظيم الخلقة ويهجم عليك ويفتح فمه ويريك أنه يقصد أكلك فلا تخف ولا تهرب منه،فإن وصل إليك فأعطه يدك فمتى عض يدك فإنه يقع في الحال ولا يصيبك شيء ثم اطرق الباب الخامس يخرج لك عبد أسود ويقول لك من أنت قل له أنا جودر فيقول لك إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس،فتقدم إلى الباب وقل له:يا عيسى قل لموسى يفتح الباب،فادخل تجد ثعبانين أحدهما على الشمال والآخر على اليمين،وكل واحد يفتح فاه ويهجمان عليك في الحال،فمد إليهما يديك فيعض كل واحد منهما في يد وإن خالفت قتلاك ثم ادخل الباب السابع واطرقه تخرج لك أمك وتقول لك مرحباً يا ابني أقدم حتى أسلم عليك فقل لها خليك بعيدة،اخلعي ثيابك.فتقول يا ابني أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية،كيف تعريني؟فقل لها إن لم تخلعي ثيابك قتلتك.وانظر جهة يمينك تجد سيفاً معلقاً،فخذه واسحبه عليها وقل لها اخلعي فتصير تخادعك وتتواضع إليك فلا تشفق عليها حتى تخلع لك ما عليها وتسقط،وحينئذ تكون قد حللت الرمز وأبطلت الأرصاد،وقد أمنت على نفسك، فأدخل تجد الذهب))(3).
***
ملخص حكاية"ما هي الحقيقة؟":
أم مزواجة تعيش مع ولديها، احدهما طبيب يعيش بعيدا عنها، والآخر وكيل نيابة يعيش معها، بعد موت الزوج تتزوج من شخص ثانٍ، وبعد فترة تطلقه. وكان عند الابن وكيل النيابة موظف شاب يأتي بالملفات له في بيته، تتعرف عليه وتغريه، ثم تقنعه بالزواج منها، ويتزوجان. يترك ابنها البيت ويسكن في الفندق"تبادل أدوار". بعد فترة يخبره زوج أمه الشاب انها قد ماتت، ويأتي هو وأخوه الطبيب إلى بيتهم، فيعرف الطبيب ان أمهم ماتت مخنوقة، "مقتولة" فيحاول الابن الطبيب ان يخبر الشرطة، إلا ان الابن وكيل النيابة لايوافقه، لأن في ذلك فضيحة لهما. بعد فترة تصل رسالة من الزوج إلى الابن وكيل النيابة تخبره انه هو الذي قتلها، يقول في هذه الرسالة: ((أنا منذ كنت مرؤوسا لك كنت أشعر بضآلتي وتفاهة قدري إلى جانبك...هذا الشعور بالمهانة والضعف هو الذي جعلني أستجيب إلى نظرات والدتك(...)وتوثقت العلاقة بيننا(...)وتصورت في تلك اللحظة ارتفاع قدري في نظر نفسي ونظرك ونظر زملائي يوم أصبح زوجا لوالدتك. كان هذا طبيعيا. فما أظنك كنت تطيق ان ترى بعينيك كيف استطعت السيطرة بقوة شبابي وفتوتي على أمك التي عليك احترامها وتقديسها..وكنت أعرف ان اليوم الذي تتراخى فيه قوتي البدنية هو اليوم الذي تتراخى فيه قبضتي على أمك. وكانت هي تعرف ذلك(...)إلى أن جاء اليوم الذي خشيته. فقد أفرطت في استنزاف قوتي ولم أستطع ان أشبع رغبتها، فإنهالت علي تقريعا، وصارت تقول لي كل ليلة: "يا خيبتك يا خيبتك" فما تمالكت وصحت بها "اخرسي اخرسي" وعاد لي الشعور بالمهانة، وكاد مقامي في البيت يهبط إلى مقام الخدم، وتعاطيت بعض الوصفات، ثم حاولت معها محاولة اخيرة باءت أيضا بالفشل. وضحكت هي ضحكتها المستهزئة.. وانفجرت بالسباب الفاحش والطعن في رجولتي. فطار صوابي ووضعت كفي على فمها لأسكت صوتها الذي يرن في أذني بأفضع ما يذل الرجل، وعضت هي بأسنانها اصبعي، فأطبقت بكل قوتي على ذلك الفم الذي لا يريد السكوت، إلى ان سكتت فعلا، ووقفت معه كل حركة في جسمها(...)تزوجت ثانية وانجبت بنتا وولدين، (...) تخرجت البنت طبيبة تعمل في أحد المستشفيات وتزوجت طبيبا، أما الولدان فاحدهما اليوم مهندس يعمل في احدى الشركات والآخر، يا للمصادفة، وكيل نيابة!(...)انها سعادة ما كنت لاستحقها)). ص85 – 91
هذا ملخص قصير للحكاية التي يرويها الحكيم، ومن خلال دراستها على ضوء عقدة "جودر"سيتضح لنا كيف تنهض هذه العقدة في تصور الدوافع التي أدت إلى قتل الأم، والتخلص من سيطرتها، والفوز بالحياة والسعادة.
***
الدراسة والتحليل:
الحكاية هذه تنهض على شخوص ثلاثة، هم: الأم. الابن. الزوج الشاب.
الأم هي محور الحكاية وشخصيتها الرئيسية، تتزوج من رجلين بسبب رغبتها القوية في الجنس، وهذا أمر مهم. أما الرجل الثالث، الموظف الشاب الذي يعمل عند ولدها وكيل النيابه، فهي توقعه في حبائلها، لما رأت فيه من قوة شبابية ستغنيها عما تبحث عنه. وبالمقابل نجد هذا الشاب وجد في هذه الزيجة الراحة الاقتصادية، والاجتماعية، والمكانة العليا التي ستخرجه من مكانته الدنيا التي كان يعيشها. فها هو يقول في رسالته لابنها وكيل النيابة:((كنت أحس في نفسي الرضا والراحة والتلذذ ان استطعت غزو قلب هذه السيدة العظيمة والدة رئيسي.(...)وتصورت في تلك اللحظة ارتفاع قدري في نظر نفسي ونظرك ونظر زملائي ومعارفي يوم أصبح زوجا لوالدتك. وتم لي ذلك، ودخلت بيتك زوجا وسيدا مطاعا)).ص87
ولكي تبعد الحكاية عن نفسها امر يعتبره الاسلام محرماً، وهو الزنا بالمحارم، جعل الراوي الشاب من خارج العائلة، فتبادل الابن مع الشاب الأدوار.
أخذ هذا المرؤوس "المجرم كما وقع رسالته" دور الابن في علاقته مع الأم/الزوجة، لفارق العمر بينها وبينه، وكذلك العيش في كنفها، لأن ابنها الحقيقي ترك الدار إلى الفندق، فظل الشاب/الزوج والمرأة فقط، كما كانت سابقا تعيش هي وابنها وكيل النيابة.
إلا ان الأمور لم تجري كما كان يحب، اذ خبت قوته الجنسية فيما هي تريد المزيد، فتصل الحال بها إلى أن تعيّره، يخنقها، فتموت.
إذن أصبح الزوج في الحكاية كالابن، والأم/الزوجة التي تصيح به(يا خيبتك يا خيبتك)، ولكي يتخلص من هذا العار الذي لحقه بانحلال قواه الجنسية، عليه قتلها، لكي يعود منتصرا إلى الحياة، ويعيش بسعادة. وهكذا يتخلص منها بقتلها. وتعود له السعادة، فيتزوج، وينجب ولدين وبنت يعملون في وظائف مرموقة، انه التخلص من سلبيات الحياة، واكتساب ايجابياتها.
رواية السراب تعود إلى مصدرها الأساس وهو الواقع الديني والعرفي العربي في أن تبعد الابن من زنا المحارم، فتجعله يتزوج من فتاة تشبه أمه في الخلقة والاخلاق، فلا يستطع ممارسة الجنس معها، وبالمقابل يمارس الجنس مع مومس مسنة وقبيحة بالعكس من أمه، إلا انها تطابقها في السن، فينجح في ذلك، على العكس من فشله ليلة الدخلة مع زوجته التي تشبه أمه، أي تنقسم الأم عند "كامل"إلى قسمين أحدهما القسم النضر والجميل وتمثله "رباب" زوجته، والثاني تمثلة المومس المسنة"عنايات".
عندما تموت الزوجة جراء عملية غير موفقة، يقول لأمه كلاماً جارحاً وقاسياً، فتطلب منه أن يرحمها من هذا القول القاسي، فيما كان هو يؤكد مع نفسه قائلاً: ((ولكني لم أرحمها)) ص353. وقبل أن يتركها يخبرها بقراره الأخير: ((اشمتي ماشاءت لك الشماتة، ولكن إياك أن تتصوري أننا سنعيش معاً. انتهى الماضي بخيره وشره ولن أعود إليه ماحييت))ص354. يهجرها لتموت.
أما في الحكاية التي قدمها الحكيم، فإن الابن هو الذي يجسد شخصيتين فيها، هي شخصية الابن، وشخصية الزوج، تماهي الزوج الشاب بالابن للاسباب التي ذكرناها، كما اخذت الأم في السراب شخصيتين، أحداهما شخصية الزوجة الجميلة، والأخرى شخصية "عنايات" المومس، وكل هذا التجسيد هو بالتماهي بين الزوج والابن في حكاية الحكيم، وبين الأم والزوجة والمومس في رواية محفوظ.
ان ترحيل الابن، وكيل النيابة، إلى ان يكون هو الزوج الشاب، مرده هو هذا الفيتو الاسلامي على العلاقات الجنسية غير الشرعية، وهذا مزروع في لاوعي الكاتب "الحكيم" نفسه، كما في لا وعي جميع كتاب الرواية العرب المسلمين.
ان هذا التماهي "أوالترحيل بين الشخصيات" ليس المقصود منه هروب الدارس في هذه السطور من عدم توافق الشخصية الرئيسية مع "جودر"، بقدر ما هو نوع من المخاتلة التي يمليها علينا الواقع الاسلامي، الاجتماعي والعرفي، هذا التماهي الذي يوصل عقدة "جودر" إلى ان تكون في الرواية والحكاية خاضعة للتطبيق، وهذا الاجراء خاص بمنهج الدراسة، وليس له علاقة بنص الرواية أو الحكاية.
ان ما تريد أن تصل له الدراسة هو ان الحكايات العربية كما في "ألف ليلة وليلة"، التى أغلبها أساطير، قد أنتجت شيئاً مثل ما أنتجته الأساطيرالاغريقية من عقد إلى الآن تستخدم في مجالات اجتماعية ونفسية وأدبية، وهذا الأمر ليس بسبب عقدة الخواجة التي يتهم بها البعض من الدارسين حين الحديث عن امر عربي موجود في الحضارات أخرى، وانما هو موجود فعلا في حضارتنا التي انتجت الأساطير والحكايات.
ان عقدة "جودر" تقابلها عند الاغريق عقدة قتل الأم المسماة عقدة اليكترا أو أورست،اما في الثقافة العربية فإن هذه العقدة ستكون في متناول الدارسين والمعنيين فأطالبهم ان يستخدموها في مجال علم النفس، ومجال الأدب خاصة، ليكون هناك تلاقح بين الحضارات.

***

الهوامش:
( ) نشرت كتاب عن حكايات الليالي بعنوان (ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية – دراسات – ط1 - اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 2000. والطبعة الثانية مزيدة ومنقحة – معهد الشارقة للتراث – الشارقة - 2019. والطبعة الثالثة مزيدة ومنقحة –دار الورشة – بغداد - 2020.
(2) للرقم سبعة رمزية كبيرة في الحضارات العالمية القديمة وقد تحدثت عن ذلك في كتابي (تجليات الاسطورة - قصة يوسف بين النص الإسطوري والنص الديني- دار ابن النفيس – الاردن – 2021).
(3 )الف ليلة وليلة ص975- حكاية"جودر الصياد ابن عمر وأخويه".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى